أشكال مقاومة الرقابة: تجربة الهيئة العربية للمسرح نموذجاً/ اسماعيل عبد الله
ورقة الأمين العام للهيئة العربية للمسرح في مؤتمر الرقابة و المسرح بالقاهرة.
ورقة مقدمة ضمن أعمال مؤتمر الرقابة و المسرح 23 إلى 27 مايو 2015 القاهرة
اسماعيل عبد الله / الأمين العام للهيئة العربية للمسرح
توطئة :
الرقابة موجودة و أزلية.
* قال تعالى في محكم كتابه العزيز :
(( و لقد خلقنا الإنسان و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن أقرب إليه من حبل الوريد (16) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين و عن الشمال قعيد (17)ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18) )) سورة ق
* و قد جاء في المعجم :
رقب بمعنى انتظر و ذلك كما جاء في الآية الكريمة (( و لم ترقب قولي )) أي لم تنتظر أمري و يقال: يا رب ارقب فلانا في أهله أي احفظه فيهم .
رقب بمعنى رصد ، أو لاحظ .
رقب بمعنى خشي مثل (( راقب الله في ضميره ))
أما الرقابة بالنسبة للفعل الثقافي وبمعناها الحديث فهي عمل من يراقب الكتب أو الصحف أو يراقب الفعل الإبداعي.
إذن فالرقابة فعل يرصد فعلاً، و لم تخل حياة البشر أو حياة أي مخلوق في هذا الكون من الرقابة.
ولكل رقابة مرجعيتها و أسبابها، و لنا في الآية الكريمة التي ذكرت أمثلة و أسبابا.
الرقيب قديما
على اعتبار أن الإبداع هنا مشمول في كل جوانبه و نحن في حضرة المسرح , فإن نظرة سريعة للموروث الإبداعي سواء من الأساطير و الحكايات الشعبية و صنوف الأدب من حكاية و رواية و قصة و شعر و منذ بدء الخليقة و عبر الحضارات الإنسانية الأولى و مرورا بالحضارات التي بنيت على أرضية الديانات السماوية تشير إلى ان الإنسان المبدع كان أكثر حرية في التعبير عن نفسه و غيره و همه و هم العصر الذي يعيش و اكثر حرية في التعبير عن ذائقة ذلك العصر الجمالية.
فالمنطوق في متون النصوص كان أجرأ فكريا و أدبيا , و لا أدل على ذلك من متون نصوص مثل ملحمة جلجامش و الحكايات الشعبية كألف ليلة و ليلة، و الجرأة التي أتحدث عنها تجلت في جرأة في خطاب المحكوم للحاكم و الإنسان للإله، و جرأة في تصوير الصراعات و دمويتها و تصوير الغرام و الحب و جرأته، حتى أن ذلك المنطوق يشكل أمراً ربما يضيق به الرقيب الحالي المعاصر ليس في حال إن أبدعنا شيئا بمستواه , لكن حتى إن استشهدنا به في متون أعمالنا على لسان قائليه الأصليين.
و إذا انتقلنا إلى جانب آخر وهو الرسم و التصوير فإن ما كان يعتبر مباحا و محاطا بالقدسية من جسد الإنسان و حالات خصبه و حبه أصبح فيما بعد محرما و ممنوعا، و إذا كان ذلك يعني تقربا للآلهة في زمن الفراعنة والآشوريين والبابليين والفينيقيين فإنه أصبح بعد ذلك زندقة، و وصل في بعض الأحيان إلى الكفر خاصة فيما يتعلق بالنحت و الزخرفة .
من نافل القول بأن الأساطير كانت أجرأ في الواقعية , تماما كما كانت أجرأ في الخيال, بسبب ذلك الحيز المفتوح من حرية التعبير الذي يخدم حالة الإيمان بتلك الأفكار الواردة في الأساطير التي صاغها الإنسان لتتجاوز السرد الحكائي إلى كونها مادة تربوية و أخلاقية و جمالية.
في عصرنا.. الرقابة أشكال.
في الولايات المتحدة هناك رقابة منتجين، لذا فإن هذه الرقابة تجنح لمصلحة الكسب و تسيطر على مجرياتها قوتان، الدوائر الأمنية في الولايات المتحدة و هي مرتبطة بشركات صناعة الميديا، و مافيات الجريمة و الجنس.
في معظم دول اوروبا خاصة الاسكندنافية توكل مهمة الرقابة لمؤسسات المجتمع المدني، و هي رقابات تعمل ضمن مفاهيم المجتمع و النظام السياسي، و لديها حساسيات تعتبر عالية تجاه بعض الأمور، فإن كانت تتسامح في موضوع المقدسات الدينية، و النيل من الشخصيات السياسية، و تستوعب حالات الشذوذ إلا أنها لا تتوانى عن إدانة و عقاب و منع من يتعرض للمحرقة النازية ليهود أوروبا، فإن كان من الطبيعي أن يعاقب في ألمانيا من ينكر الهولوكوست بالسجن لخمس سنوات، فإن النمسا جرمته قانوناً،
لكن هذه المؤسسات المجتمعية ليست بريئة، فمجلة ماركوبولو يابانية عام 1995 نشرت مقالاً من هذا القبيل فقاضتها شركتا فولزفاجن و ميتسوبيشي، و قوطعت حتى أغلقت!!
بينما في بريطانيا هناك قانون يمنع التعرض للأديان، لكنه يطبق بروح الأعراف السائدة، لذا فإنه يقتصر على حماية دين دون الآخر، إذن المشكلة ليست مع القوانين بل مع روح الأعراف و روح تطبيقها وتعتمد في تفسيرها و تطبيقها على الموظف / الرقيب / المراقب تبعا كما أشرنا لموقعه و موقفه من الثقافة و الحضارة, ورغم أن القوانين في بلادنا قريبة جدا لما تتضمنه القوانين البريطانية ( و في بعض الأحيان منسوجة على منواله فهل يمكننا القول بأن تطبيقنا لها قريب من تطبيق القوانين البريطانية وأورد السؤال من باب الإشارة إلى أهمية وجود الرؤية و الروح الإيجابية في تطبيق هذه القوانين، و من باب الإشارة إلى أهمية وجود قوانين و لوائح معنية بفنون العرض و خاصة المسرح، و هنا لا أعني بذلك دعوة لوضع قوانين تشدد الرقابة على المسرح و الإبداع, بل أطالب هنا بقوانين:
ـ تحفظ حقوق حرية المبدع فكرياً و فنياً.
ـ تراقب عدم الهبوط في المستوى الفني و الأخلاقي.
و بما أن الرقابة قائمة و تشكل مطلباً في كياناتنا الرسمية التي نشأ معظمها على قاعدة غير سوية، فعلى الأقل نريد أن تكون الرقابة ضمانة عدم الانحدار لما هو دون المواصفات المسموح بها فكريا و فنيا و أخلاقيا، لأن الانحدار أخطر من تجاوز السقف إن وجد, لأن الإبداع سيظل أعلى سقفا من أي رقابة , و مدى خيال المبدع و معرفته أرحب من خيال و معرفته أي رقيب.
ـ أطالب الرقيب أن يرى في المديح الساذج إساءة, و أن يرى في التدين السطحي و المنغلق إساءة, و أن يرى في العروض المبتذلة إساءة و الموسيقى الرديئة اساءة.
ـ أطالب بتطوير أدوات الرقيب ليكون لديه قدرة على محاكمة العمل فنيا و تقنيا, ليميز الضعف عن التميز و القوة , وليميز محاولات التجريب و التحديث عن محاولات التخريب.
الإمارات مثالاً
أسوق مثالاً إيجابياً يحدث في الإمارات مثلاً وهو وجود رقابة على النص المسرحي، لكن هذه الجهة الرقابية و هي وزارة الثقافة تعمل على رقابة النص فنياً ، و لم يسجل في الإمارات أن منع نص مسرحي، و لم يسجل على أي جهة رقابية منعها لعمل مسرحي واحد، بل إن العديد من المسرحيين العرب تساءلوا بعد مشاهدتهم لأكثر من عرض إماراتي (كيف أجيز هذا النص) ، و ربما يعود هذا المناخ الإيجابي لثلاثة أسباب رئيسية:
1/ أن القوانين الموجودة لا تتجاوز كونها إشارات عامة لأخلاقيات متفق عليها في المجتمع و بنيته و نشأته، و هي ذاتها الموجودة في كل أنحاء الدنيا من شروط عدم التعرض لما يثير النعرات و الفرقة و البغضاء الإجتماعية، عدم التعرض للأديان، و عدم التعرض لراس السلطة.
2/ أن الفنان المسرحي ابن بيئته و مجتمعه، و يساهم من خلال المنظومة الرسمية و المجتمعية في تطوير و تنمية مجتمعه، و لا يجد انفصاماً بينه و بينها.
3/ أن الرقيب الذي ليس لديه لوائح أو قوانين خاصة بالمسرح هو فنان في الأصل لذا فهو يطبق رؤاه الفنية.
و لو نظرنا للأمر في القوانين الأردنية مثلاً سنجد نفس الأمر بالنسبة للمحظورات، مع تسجيل الأردن ألغت إجازة النص و العرض المسرحي من قبل دوائر الرقابة، و يمكن للجهات الرسمية و المجتمعية التقدم بشكوى للمحكمة ضد العرض الذي تجد فيه ضرراً أو اساءة.
نعم نحتاج قوانين ,, و لكن ..
نحتاج قوانين تحمي الحقوق لا قوانين رقابة
خلاصة القول توجد قوانين غير واضحة و غير مدروسة في معظم الدول، هناك كما أشرت قوانين تحظر التعرض لثالوث المحرمات، و يترك للرقيب أن يحكم إذا كان في ذلك إساءة أو تعرض فيبتدع كل رقيب القانون الخاص بالمنع و الإجازة تبعا لثقافته و موقعه من الحياة و حراكها.
بالمقابل هناك غياب للقوانين التي تضمن حقوق الإبداع و برأيي و كما أسلفت هي الأهم، لأن حقوق الإبداع هي أمر يتسق مع حقوق حرية التعبير التي تجدها في كافة الدساتير، لكنها حرية عامة، و مرماها سياسي أكثر من كونه ثقافي، لكنها ليست محددة بذلك نصاً، فإذا كانت الدساتير قد كفلت حرية التعبير و حقوق الفرد بالعمل و التعليم و الصحة و المسكن، إلا أن القوانين لم تذهب بتفاصيل تخص الإبداع و حقوق المبدع و هو الأمر الذي يجب الالتفات إليه و قد التفتت له الهيئة العربية في استراتيجيتها التي سأتناولها لاحقاً.
هل تجدي رقابة في عصر الانفتاح المعلوماتي؟
لقد كنا نتحدث قبل قليل عن الرقابة بمفهومها و واقعها التقليديين، لكن وبناء على القاعدة التي تقول بأن الشيء يحمل ضده و أن التناقض ديدن الأمور، فقد خرج من رحم أعتى الرقابات نظام الشبكة العنكبوتية الذي بدا عند انطلاقه تطبيقاً فريداً لما بنى عليه جورج أورويل روايته (1984) التي كتبها عام 1949 و كان الأخ الأكبر رقيب لا يغفو و لا يغفل.
جاءت الشبكة العنكبوتبة من ذلك المنطلق لتحقق المنجز الذي يشكل سمة العصر، ففتحت آفاق التطور التكنولوجي و انفتحت حلقات التواصل و تبادل المعلومة و الصورة و الفيديو في ثوانٍ معدودة، و باتت الكتب و الأفكار حرة سابحة في الفضاء و الغيوم الإلكترونية رهن إشارة من يريد، في هذا الوقت راحت أجهزة الرقابة تلهث خلف هذا الفيض المتوفر في الفضاء الافتراضي بدون طائل وهنا يبرز السؤال الذي لا يحتاج إجابة: هل يجدي عمل الرقيب الآن؟ هل يجدي منع كتاب تستطيع الحصول عليه رغم أنف كل الرقابات؟ هل يجدي منع عرض يمكن لصاحبه أن يحمله مسجلاً على الشبكة و لا يجدي حظر في الموقع لأن المشاركة بنشره لا تستوجب سوى نقرة على فأرة الكمبيوتر أو لمسة على جهاز محمول؟
الشفافية و مصداقية الأنظمة الرقابية في ظل المتغيرات العالمية
في زمن التواصل الاجتماعي و توفر هذه الإمكانات من الاتصال، صارت الشفافية أمراً محتوماً، و صار الانغلاق أمراً غير مضمون النتائج، و هذه فرصة تاريخية لكل مؤسسة ادعت الشفافية وأنها تطبقها.
فإذا أضفنا لكل ذلك ما جلبته تحركات الربيع الشعبي في العالم ككل، فإن أجهزة الرقابة يجب أن تكف عن الذعر من تحرك فرد أو جماعة و من ثم تلجأ لمحاولة لجمه، بل يجب عليها أن تضع الآليات السابقة جانباً و تلجأ لاستثمار الشفافية و الديمقراطية و تحمل الفرد لمسؤولياته تجاه مجتمعه و وطنه و شعبه و البشرية، خاصة و أن الكل قد صار بإمكانه أن يعلن رأيه و أن ينافح مدافعاً عنه، و يمكن لأجهزة الرقابة حينها أن تلعب دوراً في ضمان حرية التعبير و عدم تغول جهة متنفذة على أصحاب الرأي فتنتقل الرقابة من عامل ضد الديمقراطية إلى عامل معاضد و ضامن لها.
مستقبل العلاقة بين المسرح والرقابة
تجربة الهيئة العربية للمسرح نموذجاً
سوف أنحو في هذا الجزء منحى عملانياً ينبع من التجربة المعاشة للمؤسسة العربية الأكبر في المسرح العربي ألا وهي الهيئة العربية للمسرح، لكن قبل ذلك أعرج على تصور خاص بي كمسرحي عن المسرح و عن دوره الإيجابي في صيرورة المجتمع.
المسرح حالة استئناف.
لا يحتاج المرء إلى مرافعة طويلة ليثبت فيها أن المسرح بريء من أمراض الهدم، و أنه ابن للحياة، و أداة استئناف إيجابية من أجل صنع الجمال ، خاصة و أنه يقوم على نظام محكم ديمقراطي البنية من دستور العمل إلى نصه و تراتبيته و حرية الإبداع و انضباط للأهداف و النتائج، و إخلاص للرسالة و التأثير، و هو الفعل الذي يعيد ترتيب الزمان و الأولويات لإنجاز التواصل الأبلغ، و له في المجتمع أثر الكلمة و اللون و الحركة و الإيقاع في كل مفرداته.
من هنا فإن المسرح انحياز للحياة و المعاني النبيلة، المسرح جمال ضد القبح، و حوار ضد التطرف، و حياة ضد تجارة الموت، و قد قلت ذات كلمة في افتتاح مهرجان المسرح العربي عام 2013 في الدوحة ما يلي :
“في هذا الساحر المسرح، عالم لا يعرف الحدود إلا بفعلها الدرامي، و لا يعرف الألوان إلا ببعدها الدرامي، في هذا السيد المسرح ولدت شخصيات من الخيال لكنها أصبحت أكثر واقعية من شخصيات واقعية طواها الغيب فذهبت أدراج الرياح، من هذا السيد المسرح ولدت شخصيات لم تخض حروباً و لم تهدر قطرة دم واحدة بالفعل لترسخ رأيها و ترفع رايتها و تقيم دولتها.. إنه المسرح … إنه أنتم ..و إنكم خالقوه و أبطاله و ضحاياه الذين تمجدهم أعمالهم رغم أنها ما تجاوزت بضع عشرات من الصفحات أو بضع أمتار هي هذا الركح البسيط الذي يصبح بكم و برؤاكم عالماً أكثر رحابة و أكثر جمالاً و أملاً و حبا.”
إذا كان هذا هو المسرح فماذا يريد منه رقيب؟!
الهيئة العربية للمسرح
ولادة في قلب الاشتباك.
التجربة
عندما أطلق صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى للاتحاد في دولة الإمارات العربية المتحدة، حاكم الشارقة، الرئيس الأعلى للهيئة العربية للمسرح مبادرته بإنشاء الهيئة العربية للمسرح لتكون بيتاً للمسرحيين العرب جميعاً، و منذ انطلاقة هذه الهيئة في العاشر من يناير عام 2008، كانت الهيئة في مواجهة موضوع الرقابة بكل أشكالها على امتداد الأرض العربية، خاصة و أن فعالياتها تمتد على امتداد الأرض العربية، و تواجه أكثر مما تواجه أي مؤسسة مسرحية عربية، فالمسرحي فرداً أو مؤسسة يكون في مواجهة مع الرقابة في بلده، لكنه لا يكون في مواجهة مع اثنين وعشرين رقابة في الوقت نفسه كما يحدث في الكثير من الأحيان مع الهيئة، فهل هذه الصورة قاتمة إلى الحد الذي يعيق عملنا؟ هل هي وردية بحيث نتمكن من تنفيذ كل مشاريعنا دون وجل؟ تعالوا لنقرأ الواقع و المشهد و من ثم نخلص إلى النتائج.
يشكل نشاط الهيئة العربية للمسرح مثالاً حيوياً للتعامل مع مفاهيم الرقابة، و يمكن لنا أن نضعه مثالاً لمستقبل هذه العلاقة مع الرقابة، و سأذكر بضعة أمثلة من تفاصيل هذا النشاط لكنني سأتوقف عن محطتين مهمتين فيه لناحية موضوع الرقابة، فالهيئة تقوم بهذه الفعاليات:
– تنظيم مهرجان المسرح العربي وقد تم إنجاز سبع دورات.
– تنظيم مسابقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي لأفضل عرض مسرحي عربي وقد تم إنجاز أربع دورات.
– مسابقة تأليف النص المسرحي الموجه للكبار.
– مسابقة تأليف النص الموجه للأطفال.
– ورش التأهيل المسرحي.
– منشورات ورقية من كتب دراسات و نصوص و توثيق و مجلات.
– منشورات رقمية على اقراص مدمجة.
– منشورات على الشبكة تتمثل بثلاثة مواقع الكترونية و صفحات تواصل اجتماعي.
“الاستراتيجية العربية للتنمية المسرحية“
تشخيص دقيق للعلاقة مع الحرية و الرقابة
لا تشكل الأستراتيجية العربية للتنمية المسرحية مرجعية للبرمجة و لوائح الدعم فقط، بل تشكل روح منهج و فكر جاءت خلاصة اشتغال حوالي 300 مسرحي عربي من مختلف البلاد و المشارب و الاتجاهات الفكرية و الفنية، عمل هؤلاء في أربع ملتقيات، كان موضوع حرية الإبداع و المبدع مسألة حاضرة.
” و لا بد للفكر و للمجتمع و للحياة السياسية مواكبة ما استقر من مبادئ حرية الفكر و حرية التعبير و الديمقراطية و الاحتفاء بالتنوع الثقافي و احترام حقوق الإنسان بشكل عام و حقوق المبدعين بشكل خاص
إن ما نتلمسه اليوم من وجود معوقات للنهوض بالإبداع العربي الحديث إلى المستوى المنشود ليكون حاضراً في المشهد الثقافي و الاجتماعي العربي، يعود فيما يعود إلى قصور مجتمعاتنا العربية عن تحقيق الالتزام بتلك المبادئ ووضعها الموضع المستحق في السياسات العربية المعنية.
لعل المسرح كان من أكثر التجليات الثقافية و الأدبية و الفنية تاثراً بجو الكبت و الانغلاق الذي ساد الحياة العربية في العقدين الأخيرين بالأخص، ذلك أن المسرح هو الفن الذي تنصهر فيه الفنون جميعاً.. و هو إلى ذلك فن جماهيري.. إن الانفتاح و التنوير و حرية التعبير، ينمو بنماء أجوائها و يذوي بتراجعها” ص13 من كتاب الاستراتيجية العربية للتنمية المسرحية.
“إن وجود قوانين تحمي الإبداع و المبدعين و تصون حقوقهم هو حجر الأساس للنهوض بالحياة الثقافية و الإبداع في المجتمع، و هذا يقتضي وعي أصحاب الحقوق بحقوقهم و تطبيق تلك القوانين الحمائية في بيئة تحترم الإنسان و حقوقه” ص 17 من كتاب الاستراتيجية العربية للتمية المسرحية.
” لا بد من توفير اجواء الحرية الفكرية و الفنية و الثقافية لتفعيل القوانين و سيادة الإنسان لتحترم حقوقه” ص 17 من كتاب الأستراتيجية العربية للتنمية المسرحية.
يلاحظ المتصفح لهذه الاستراتيجية أنها ركزت على توفير أجواء الحرية الفكرية و الفنية و الثقافية و ربطتها بحقوق الإنسان عامة، ونالت الاستراتيجية قرار تبني مؤتمر وزراء الثقافة العرب الذي عقد في الرياض في 12 يناير 2015، إذن يمكننا القول و من حيث المبدأ أن لا تناقض أو تعارض بين ما طالب به الفنانون و بين ما تسعى إليه المؤسسات المعنية من وزارات ثقافة، مما يؤكد ما ذهبت إليه في ما تقدم من هذه الورقة.
إن المؤسسات الرسمية في وطننا العربي تقف أمام مسؤولية تاريخية لإنقاذ المشروع الوطني من الانهيار، هذا المشروع الذي لم تفلح القبضات الحديدية في تصليبه، بل كانت من مقومات ضعفه و رفض الشارع له، و من أهم أسباب ضعف هذه المشاريع هو غياب االإبداع و المبدعين عنه، و إن حضروا ففي مساحة ضيقة، و على الأغلب مناسباتية خارج مزاج الشارع، لذا لا بد لهذه المؤسسات من الالتفات بقوة للفعل الثقافي و للفنون خاصة و المسرح بالتحديد و إعادة الاعتبار لهذه القوى في بعدها التربوي و التنموي، و ضمن مناخ حرية الإبداع و انخراط شرائح واسعة من المجتمع فيها لإعادة تربية الذائقة و روح المشاركة و التعايش و الحوار، فالفنون أهم مضاد حيوي لمرض العصر ألا و هو التطرف، و المقصود هنا بالفنون على انفتاحها، فكثير من الأفكار العصبوية لها فنون عصبوية و مغلقة تخدمها، اما الحرية و الإنسانية فتحتاج فنوناً منفتحة في مناخ منفتح حر، و لذا فإننا في الاستراتيجية نركز تركيزاً كبيراً على مسرح الطفل و الناشئة و المسرح المدرسي، و نقف اليوم على بعد بضعة أيام من إطلاق (استراتيجية تنمية المسرح المدرسي في الوطن العربي) و التي تتضمن خطة عشرية للتنمية و تتضمن دليلاً عاماً للمسرح في المراحل الأربع (ماقبل المدرسة و الابتدائية و المتوسطة و الثانوية)، هذه الاستراتيجية التي نتجت عن عمل عام كامل شارك فيه مسؤولوا المسرح المدرسي في وزارات التربية و التعليم العربية و ثله من خبراء المسرح المدرسي، و ستعمل كل الأطراف بالتعاون مع الأليكسو و مؤسسات المجتمع المدني على امتداد الوطن العربي على النهوض بهذه الاستراتيجية.
إذن من خلال انجاز الاستراتيجيتين السابقتي الذكر، لا بد و أن المسرح في وطننا العربي سيشهد نهوضاً و نفعيلاً مجتمعياً تنمويا، و هذا يدعونا إلى الدعوة العالية الواضحة بايجاد التشريعات المُمَكِنة للفعل المسرحي و التي ترفع كل العوائق أمام لعبه الدور المتوخى، و قد اوصت “الاستراتيجية العربية للتنمية المسرحية بذلك و جاءت التوصية على النحو التالي :
“العمل من أجل سن تشريعات ترسيخ الحريات العامة.
تفعيل المؤسسات المجتمعية المتمثلة بالنقابات و الجمعيات و الاتحادات الفنية المتخصصة.
استثمار مناخ التحولات التي يعيشها الشارع العربي من أجل رفع سقف حريات التعبير أمام المبدعين.” ص 23 من كتاب الاستراتيجية العربية للتنمية المسرحية – توصيات ملتقى المرأة)
و تسجل “الاستراتيجية العربية للتنمية المسرحية” إصابة في الصميم من خلال “المشروع الوطني للنهوض المسرحي” و الذي تضعه ليكون منصة النهوض بالمسرح في كل بلد عربي و يورد هذا المشروع مسائل الرقابة و خلافها مما يعني الإبداع و المبدع و يضع “الحل اليوطوبي” لذلك، و هنا أورد بعض ما جاء في هذا المشروع:
ما يحتاجه المسرح هو يوطوبيا / مدينة فاضلة…
….. المدينة الفاضلة المسرحية مكونة من
الإنسان
المكان/ البنى .
النظام الاجتماعي.
النظام الاجتماعي
لكي يكون هذا النظام الاجتماعي قادراً على خلق و احتضان مقومات المسرح لا بد أن تتوفر له :
تشريعات ضامنة لقيام الفعل المسرحي و حريته.
آليات انتاج و دعم للعمل المسرحي.
توفير المناخات الحيوية للتفاعل الاجتماعي الثقافي انطلاقاً من مفهوم : المجتمع هو الحاضنة الآمنة و الحيوية لفنون المسرح.
……..
التشريعات:
القوانين و الأنظمة المنظمة للمهنة.
القوانين و الأنظمة الضامنة لحرية التفكير و التعبير.
القوانين و الأنظمة التي تشجع الاستثمار المسرحي.
القوانين و الأنظمة التي تنظم التعليم و التأهيل.
………………………..
المناخات الحيوية الاجتماعية الثقافية
تشجيع قيام الجمعيات المهتمة بالمسرح و مشتغليه.
تشجيع قيام الجمعيات المعنية بالتثقيف الفني الجماهيري.
…………………
هكذا رأت “الاستراتيجية العربية للتنمية المسرحية” الأمر… فهل كنا كهيئة و كمسرحيين عرب حالمين؟ إن تجربتنا في عملنا تعطينا الإجابة.
مهرجان المسرح العربي
تلاشي الرقابة
معلومات سريعة عن مهرجان المسرح العربي :
ـ تنظمه الهيئة العربية للمسرح في العاشر من يناير من كل عام (اليوم العربي للمسرح).
ـ تنظم كل دورة في دولة عربية مختلفة.
ـ تم تنظيم 7 دورات في (القاهرة، تونس، بيروت، عمّان، الدوحة، الشارقة، الرباط)
ـ عرضت في هذه الدورات حوالي 90 مسرحية.
ـ عقدت فيها 7 مؤتمرات فكرية.
ـ عقد فيها حوالي 150 مؤتمراً صحفياً.
ـ القيت فيها 7 رسائل باليوم العربي للمسرح.
ـ وزعت فيها آلاف النسخ من الكتب و المنشورات الورقية.
ـ بثت فيها مئات الساعات من العروض و الندوات على الشبكة العنكبوتية.
ـ توزيع آلاف الأقراص المدمجة الحاملة للمنشورات و المطبوعات.
لم تخضع هذه الأفعال إلى أي نوع من الرقابة المسبقة، لم يرفض عرض، لم تمنع ندوة و لا مؤتمر، لم يرفض دخول كتاب و لم يراقب أصلاً، و لم يتعرض قرص للمنع و لا بث للحظر، و لم يمنع أي فنان لأي دولة رغم تطبيق هذا المنع على فئات أخرى في ظل الظروف التي يعيشها العالم، و سرى ذلك على المشاركين من جنسيات غير عربية في عروض المهرجان أو في ندواته و مؤتمراته.
وقبل ذلك.. إذا كانت هذه العروض الـ 90 قد وصلت المهرجان فإنها قد مرت عبر مشاهدة مئات من العروض مسرحية أمام لجان اختيار و مفاضلة، و هي لجان رقابة من زاوية المستوى الفني و خدمة أهداف المهرجان، و لم يسجل طوال هذه السنوات أن رفضت هذه اللجان عملاً بسبب وجهة نظره أو أفكاره، فهل كانت كل هذه الأعمال مطابقة لمواصفات الرقابة و المنع، بالطبع لا، لقد كانت في أغلبها تحمل سمات حرية التعبير بالقول و الفعل، و في مناخ العمل بالهيئة لم يكن هناك ما يحد حرية التعبير، كان الفيصل دوماً هو المستوى الفني و سعي العمل للتقدم و نشر الجمال و الثقاة و كرامة الإنسان و العدالة.
ضمن هذه العروض تنافست عروض على جائزة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في نسخها الأربع، و تمتعت العروض بمناخ حرية تعبير لا حد لها، و لاحظوا من هي الأعمال التي فازت بهذه الجائزة:
ـ زهايمر لفرقة المسرح الوطني التونسي من تأليف و إخراج مريم بوسالمي و هي مسرحية صوبت سهام النقد اللاذع للبنى السياسية و المجتمعية في ظل تحرك الشارع العربي، عرضت في الأردن، و قد عرضت في الشارقة أيضاً.
ـ الديكتاتور : لفرقة بيروت 8 و نص تأليف عصام محفوظ و إخراج لينا أبيض، و هو عمل يعري خواء الديكتاتورية و البنى التي تخلقها، عرضت في قطر ضمن المهرجان و عرضت في الشارقة.
ـ ريتشارد الثالث : لفرقة إنتراكت التونسية تأليف محفوظ غزال و إخراج جعفر القاسمي ، وفيها تفكيك و فضح للمجتمعات و الحواضن التي تفرز ديكتاتوراً مثل ريتشارد، عرضت في الشارقة في مهرجان المسرح العربي و في أيام الشارقة المسرحية.
ـ خيل تايهة : لفرقة نعم من فلسطين، تأليف عدنان العودة و إخراج إيهاب زاهدة، فازت في دورة المهرجان في المغرب و عرضت في الشارقة، تتناول المسرحية في إطار الحكاية الشعبية بعداً إنسانياً للقضية الفلسطينية.
هذه أمثلة على 4 مسرحيات تنبع في بلد و تفوز في بلد عربي آخر و تعرض في الشارقة جميعها، تحمل معها محمولاتها الفكرية و تدافع عن نفسها بمحمولاتها الفنية و الجمالية و تفوز، و لم تتعرض لرقابة فكرية أو لمنع بالمعنى الذي يمكن يؤثر أو يحد من حرية تعبيرها عن مكنوناتها.
لماذا تتلاشى الرقابات أمام هذه العروض و المنشورات و المؤتمرات و المشاركين فيها؟
إنها المسؤولية و الثقة و الالتزام.
وأجزم أن المبدعين تمتعوا بها، و أن الهيئة شكلت ضمانة لهم في الانتقال إلى دول استضافة المهرجان دون خضوعهم للرقابة، و أن العروض أكدت رفعة المنتج المسرحي الذي يقدمون لينال الاحترام و التكريم من لدن صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي ، الذي يشكل برئاسته للهيئة مصدر ثقة بها من قبل كل الهيئات الرسمية و الشعبية على حد سواء، و لم يكن ذلك ليستمر لولا أنها حققت ثلاثية (المسؤولية و الثقة و الالتزام) و هي الثلاثية التي ينتزع بها المبدع حقه في الاحترام، و هي ذاتها التي يجب أن تلتزم بها الجهة الرسمية تجاه المبدع و الإبداع.
قبل الختام و الاستخلاص لا بد من التوقف عند مسألة مهمة، إذ ما نفتأ نسمع هنا و هناك شكاوٍ حول رفض هنا و منع هناك لبعض الأعمال المسرحية، فإذا دققنا نجد ذلك يحدث أحياناً و غالبية هذه الحالات تحدث حين تكون إحدى الجهات الرسمية هي المنتجة، سواءً في مهرجان تقيمه وزارة الثقافة، أو إحدى مؤسسات الدولة، أو في موسم لدعم المسرح في البلد الفلاني، و القاسم المشترك هنا كون جهة المنع أو الرفض هو انها كجهة منتجة، و هي بذلك لا تخالف قواعد لعبة المنتج (رب العمل) و (العامل) و (المستهلك) المعروفة في أي تجارة أو صناعة، و هي حالة لا بد من وجودها، لكن خطورة الأمر حين تتحول إلى المصدر الوحيد، فيرتهن المبدع و مشاريع الإبداع لها.
لكن لا بد من التحذير من أمر حدث و يحدث، إذ أن بعض المبدعين و فرقهم و مؤسساتهم و في سبيل الاستقلال عن المؤسسة الرسمية ارتموا في أحضان مؤسسات التمويل الأجنبي، و هم بذلك قد نجوا من سلطة المؤسسة المحلية ليقعوا تحت سلطة (متعددة الجنسيات) ناعمة المظهر، منافحة عن حقوق الإنسان، لكنها في المحصلة تنفذ أجندات خاصة قد تتقاطع أحياناً مع مصالح مجتمعاتنا و شعوبنا، لكنها على الأغلب تتبع إجندات لا مصلحة لنا بها، إن لم تكن ضد مصلحتنا مباشرة، و أهم ما تحققه هذه الحالة هي عزل هذه القوى الإبداعية عن واقعها و عن مؤسساتها فلا تعود مهتمة بمقارعتها و تطويرها بدعوى تخلفها، و تشعر هذه القوى الإبداعية بأنها صارت محمية بقوى الرأي العام العالمي.. و هو وهم أخطر من ما يتخيله البعض.
و من أجل تحقيق هذا الاستقلال بشكل يضمن هذا التكامل بين طرفي المعادلة يجب العمل على :
استقلال المبدع عن المؤسسة حتى يملك حرية ما يبدع و ما يقدم.
التزام المؤسسة بتوفير المناخ الملائم ليتم تسويق المادة التي ينتجها المبدع و بأفضل الشروط.
حماية المبدع و منتجه من تغول بعض قوى الشد العكسي في المجتمع و تمكينه من الصمود
لذا تتلخص أشكال مقاومة الرقابة في كل ما تقدم و ما خلصت إليه بالتالي :
أولاً : القوانين و التشريعات، أهمية العمل على إيجادها وترسيخها و تفعيلها من خلال:
ـ ضبط قوانين و لوائح واضحة لمهمات الرقابة في حماية الإبداع.
ـ وجود قوانين تضمن حقوق حرية الإبداع و المبدع و تدعيمه.
ـ انسجام هذه القوانين و اللوائح مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ثانياً : المجتمع و مؤسساته الرسمية و المدنية، بحيث تشكل الحاضنة الآمنة و المناخ الإيجابي من خلال:
ـ تحقيق المبدع و الجهات الرسمية ثلاثية “المسؤولية و الثقة و الالتزام” بالاتجاهين.
ـ تثقيف المجتمع بحقوقه و حقوق حرية الرأي و التعبير، و تحويل مفاهيم الرقابة إلى فعل خلاف في الرأي تفصل فيه جهات الحقوق المدنية.
ـ تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني من اتحادات و نقابات و جمعيات و منتديات و فرق لخدمة الإبداع و حماية المبدع.
ـ تكليف عناصر مثقفة للقيام بالدور الوظيفي المناط بتطبيق قوانين الرقابة أو الحكم في شأنها.
ثالثاُ : تدعيم و تمكين المبدعين من خلال:
ـ تثقيف المبدع بحقوقه.
ـ استقلال المبدع و الجهات المنتجة للإبداع اقتصادياً للتخفف من التبعية الكاملة للمؤسسة الرسمية و ذلك في سبيل تحقيق التكامل بين كل الأطراف في تحقيق التنمية المجتمعية.
هي أشكال و آليات مدنية تعتمد على توفر مناخ من التفاهم و الشراكة كسبيل للتغيير، فالمسرح يصنع حياة من العدم، و لا يذهب بالحياة إلى العدم، من هنا فهو واقعي بكل ما يحمله من خيال، و هكذا تكون وسائله و أشكاله في الفعل، هي سمته كفعل مقاومة، للرقابة إن كانت متخلفة، للعادات و السلوك إن كانت متخلفة، لأنماط التفكير إن كانت متخلفة، للحرب و الموت، فالإنسان ابن للحياة و المسرح كذلك.