المسـرح الاحتـفالـي المغـربـي/ د. محمد لعزيز
بمناسبة تكريم الدكتور عبد الكريم برشيد في مهرجان الدار البيضاء الدولي للمسرح
يعد المسرح الاحتفالي أحد تيارات المسرح المغربي الأكثر تميزا وإشعاعا على المستوى العربي، ويعود ذلك إلى طموحاته الكبيرة لتأسيس فن مسرحي مغربي بشكل جديد، سواء على مستوى الممارسة، أو على مستوى التنظير والنقد؛ لقد ظهر هذا التيار المسرحي أواخر السبعينات(ربيع 1976) الفترة التي عمد فيها ثلة من المسرحيين الهواة إلى ركوب أمواج التغيير ونبد الاعتيادي والمألوف في الممارسة المسرحية السائدة قطريا وعربيا، وأعادوا النظر خلالها في الكثير من مجالات الحياة المغربية، ساعدهم في ذلك توفر الأرضية و اللحظة المناسبتين كي يذيعوا أفكارهم ورؤاهم الجديدة، بعدما عاينوا افتقار الحركة المسرحية العربية، إلى الكثير من المرتكزات الأساس، التي تسند الممارسة الفاعلة والمتفاعلة مع المجتمع المغربي. وعليه كان المسرح الاحتفالي أحد تنويعات الممارسة الهاوية بالمغرب،التي انبثقت كرد فعل ضد الأشكال المسرحية الهجينة السائدة في الساحة المغربية والتي أدت إلى عزوف الجمهور، وابتعاده مادام يشاهد فرجات لا تخصه، ولا علاقة تربطه بها.
لقد اعتبرت مرحلة السبعينات، المرحلة الأولى في تاريخ مغرب الاستقلال، التي كان يجب أن تراجع فيها أشياء كثيرة، لأن الأزمات طالت كل أوجه الحياة المغربية بما فيها الحياة الثقافية والفنية ، كما كان يجب فيها محاسبة الذات عما حققته خلال عقدين من الاستقلال. ولأن هزيمة الذات في نظر المسرحيين كانت شاملة فقد أخذوا على عاتقهم رسم الخطوط التي يجب اتباعها لإيجاد مسرح بديل، تجلى عند الاحتفاليين في الصياغة الفكرية التي تستهدف تبديل مسار الممارسة في الاتجاهات المحتملة والممكنة، بدل الركون إلى التبعية واجترار الجامد من القوالب. إن الاحتفالية استهدفت تأصيل الممارسة المسرحية بالمغرب كهدف أساس عندها، الأمر الذي جعلها تثير الأسئلة الكبرى الأساسية، هذه الأسئلة جعلتها “ترفض أن تكون فقط شكلا خاصا بتقنيات في الكتابة أو الإخراج المسرحيين، لأنها أيضا تصور للإنسان والتاريخ والاقتصاد والسياسة والفكر فهي إذن نظرية عامة ولا ترتبط بالمسرح فقط”iويرى عبد الكريم برشيد أن مجيء المسرح الاحتفالي كان “بعد أن أدرك الإنسان المغربي والعربي عمر النضج معرفيا وجماليا، وبعد أن ودع فترة الاندهاش السلبي أمام الظاهرة المسرحية في صيغتها الأوروبية المتقدمة والمتطورة”iiوالتي جعلت المسرح العربي عموما، والمغربي خصوصا، صورة مستنسخة ومستوردة بشكل لا يساعد على تأصيل الظاهرة بالمغرب، من ثمة اعتبرت الاحتفالية ألا سبيل إلى تجاوز هذه الوضعية إلا بالفكر والتنظير “كضرورة حتمية لإخراج هذا المسرح من سكونيته ومن تبعيته ومن مدرسته القديمة”iii وهو التنظير الذي انصب اهتمامه في البداية على هدم المسرح السائد ونقده نقدا لاذعا، لأنه مسرح يفتقد المشروع الفكري والجمالي المتعدد الآفاق والأبعاد، ولأنه فضلا عن ذلك مسرح تلفيقي وترقيعي تتعايش بداخله العناصر الكلاسيكية مع العناصر الرومانسية والرمزية والواقعية والسريالية، مسرح يختزل كل المسرح الغربي، وينعدم فيه التجانس والانسجام، وتتبرأ بعض عناصره من البعض الآخر، كما أن الشكل فيه مجرد وعاء فارغ، وعاء يقبل كل مضمون كيفما كانiv،لذلك وصف برشيد هذا المسرح بكونه مسرحا أميا، وعمر مسرحياته قصير لا يتجاوز لحظات ظهورها لتختفي بعد ذلك سريعا.
إن عمليات التحديث التي رامتها الاحتفالية سعت في المقام الأول إلى تغيير الأنماط الحياتية التقليدية، ومنها تغيير العلاقات الإنسانية من طبيعتها السلطوية الإقطاعية السائدة، إلى علاقات تتميز بالطابع الإنساني الشعبي، وهو ما يتواءم ونظرة الاحتفاليين للمسرح، الذي لا يعدو أن يكون عندهم لقاء إنسانيا مفتوحا يتحرر فيه الإنسان بالمسرح، ويحرر فيه المسرح. ولقد تجلى هذا الطابع التغييري في العلاقات داخل بنية المسرح نفسه، حيث بدأ التغيير من “علاقة الممثل بدوره، وبوعيه ولا وعيه،وبذاكرته ووجدانه، وبالكلمات والزمن والمكان وبالممثل الآخر، وبالملابس والضوء والأشياء، وانتهاء بتغيير طبيعة المؤسسات المجتمعية والسياسية والدينية والمعرفية والجمالية المختلفة”v.إن الاحتفال بهذا المعنى هو ثورة على الذوق العام تبلورت إرهاصاته قوية وصريحة في البيان الأول لجماعة الاحتفاليين التي دعت فيه إلى الثورة على كل ما يعرض الذوق العربي للاستلاب، خصوصا السينما والمسرح التجاريين في نماذجهما القائمة على أسس ميلودرامية مسطحة.
ويرى برشيد أن الخطاب الاحتفالي خطاب حداثي لكونه شكل “انقلابا معرفيا وجماليا وأخلاقيا مهما. لأنه لم يستهدف تغيير مسرح بمسرح مختلف، ولكن تغيير مجتمع بآخر، وتغيير علاقات بغيرها، وتغيير مؤسسات مهترئة بأخرى جديدة وحديثة، وتغيير إنسان آلي وقطيعي بإنسان آخر جديد و متجدد”vi، هذا الإنسان الجديد يقتضي كفضاء ومجال للعيش مجتمعا آخر بالضرورة هو مجتمع احتفالي، أهم ميزاته أنه “مدني ديموقراطي يقوم على أساس الاختلاف والتعدد، وعلى الحوار بصوت متزن وبروح مفتوحة، وبدون تشنج وبدون ديماغوجية”vii .وحتى يتسنى خلق هذا الإنسان والمجتمع الاحتفاليين سطرت الاحتفالية أهدافا أساسية للمسرح الذي تريد خلقه، يمكن تلخيص تلك الأهداف فيما يلي:
ـ “درء الصيغة الإيطالية للمسرح من أجل خلق مسرح شعبي شامل”viii
ـ “جعل المسرح العربي مرتبطا باللحظة التاريخية، مدغما في التراث الفكري والفني والحضاري للإنسان العربي”ix
ـ “خلخلة بنية المسرح وإعادة تركيبه بشكل آخر مغاير ومختلف، ومحاولة إيجاد فكر جديد ينظم العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والمؤسسات والمفاهيم والأشياء”x
ولأن مشروعا تحديثيا يحمل هذه الهموم الكبيرة، فإنه يحتاج إلى مؤسسة مسرحية كبيرة،، كما يحتاج إلى فترة زمنية كي تترسخ مقولاته، ذلك أن خلخلة المفاهيم التقليدية السائدة،سواء في المسرح أو خارجه، هي بمثابة انقلاب في التصورات الفكرية تحتاج إلى سنوات تأسيسية، وإلى تضافر جهود عدة كي يتم ترهينها. إن هذا المشروع الضخم الذي استهدف تغيير المؤسسة المسرحية المغربية، وبالتالي العربية كلها، والذي ينطلق من أن أزمته ليست أزمة مسرحية، بقدر ما هي أزمة حضارية عامة، لابد لتجاوزها من خلق الإنسان الحر الجديد إذا ما أريد خلق مجتمع وواقع حر جديد، فوحده هذا الواقع الجديد بمقدوره إيجاد مسرح جديد ومختلف.
وحين نبحث في صميم العملية المسرحية بغية القبض عما تعتبره الاحتفالية ثورة وانقلابا في المسرح ،يصادفنا في بداية تنظيرها بحثها في مفهوم المسرح الشعبي، هذا المفهوم الذي تبنته الاحتفالية ينطلق من كون الاحتفال ورش مفتوح يملك فيه المتلقون/الجمهور وسائل الإنتاج الفنية، أي أن المسرح الاحتفالي يستحيل وجوده ما لم ينطلق من الجماهير، ويعبر عن ذاتها وخصوصيتها. إن مفهوم الشعبية في المسرح الاحتفالي”يرتبط بالرفض لكل احتواء مؤسساتي، لهذا تؤكد الاحتفالية على أن هناك فرقا بين أن نقدم مسرحا للشعب، وبين أن يقدم هذا الشعب مسرحا ينتجه إلى جانب المبدع، وهذه العملية تجعل منه مسرحا يخضع للتلقائية”xi، ولن يتم خلق مسرح بهذه الصفة الأخيرة إلا إذا انطلق من الذات، وعبر عنها في الآن نفسه،أي إذا كان أصيلا، وهنا نصل إلى توظيف التراث أو استلهامه باعتباره أكثر الأوجه تعبيرا عن الذات في أصالتها وتمايزها.
إن الاحتفالية لا تنظر إلى المكون التراثي كمعطى ينبغي استحضاره أو استلهامه لتوظيفه في المسرح، بل إنها ترى أن الهوية الخاصة بالمسرح العربي وعثوره على ذاته وتصالحه معها يكمن في الاحتفال العربي، من ثمة كان التراث العربي ضروريا لأن الحفل تقليد تمتد جذوره في التاريخ، لذلك كان الحفر في الحضارة والثقافة العربية مطلبا أساسيا بالنسبة للمسرح الاحتفالي، لأنها العملية الأساس التي بواسطتها يتم “البحث عن المواد الخام التي يمكن توظيفها وتصنيعها مسرحيا، هذه المواد المستخرجة من التاريخ والحكاية والأغنية الشعبية، والأمثال والحكم والعمران والأزياء والوشم والرسوم والحناء والحلي والأساطير والألعاب والاحتفالات والأعياد لا تكتسب قيمتها إلا بما يمكن أن تصير إليه، إنها ما نراه وما نحسه ونلمسه، وبذلك فإنها تختزن داخلها قابلية التشكل والتحول والتغيير لتصبح شيئا يشبهنا، ويشبه قضايانا واحساساتنا الجماعية والفردية”xiiمن هنا يتحول التراث في المسرح الاحتفالي من مضمون ينبغي استجلابه لتوظيفه داخل الأعمال المسرحية المعاصرة إلى وعي جمعي وخزان لذاكرة الشعب ووجدانه، فيه تظهر آلامه وآماله، طموحاته وخيباته، إن “المبدع عندما يرجع إلى هذا التراث فهو بالتأكيد يرجع إلى ذاته الجماعية كي يجد نفسه فيها”xiii. ولقد أثر التعامل الاحتفالي مع المكون التراثي بهذا الشكل، على كل جوانب العملية الإبداعية عند الاحتفاليين، ذلك أن الحكاية المسرحية لم تعد كما كانت، تنبني على أحداث تتنامى تصاعديا، كي تصل إلى ذروتها فيما يعرف بالحبكة أو العقدة لتنحل بعد ذلك، بل استبدل المسرح الاحتفالي الأحداث باعتبارها إحدى مقومات المسرح القديم بما أسماه بالحالات المتداخلة، وهذا ما جسده برشيد في مسرحيته”اسمع يا عبد السميع” التي يقول في مقدمتها “إن من طبيعة الحدث المسرحي أنه يبتدئ من نقطة معينة ليصل إلى نقطة أخرى.. أما الحالة فلها بنيتها الخاصة، إنها لا تتحرك في خط أفقي، لأنها تتفجر من الداخل ثم يترجمها الخارج، يترجمها الجسد في شكل غناء ولعب وتوتر وعربدة ووجد ورقص وهذيان..أي الترجمة الجسدية للحفل والاحتفال..”xiv، هكذا يكشف هذا النموذج الإبداعي، عن ركام من الهواجس، والتساؤلات القلقة والمحيرة بصدد الممارسة المسرحية، الأمر الذي يجعل منه نمطا دراميا مختلفا عما ألفه مسرحنا الذي ركن إلى الدراما الكلاسيكية المتنامية خطيا، ففي هذه المسرحية تعيش شخصيتان عذابا وقلقا وجوديين، إلا أنهما ينتميان إلى الشخصيات الحرة والحية التي تفعل وتنفعل، والتي تعيش حياة صراعية من نوع خاص، الأفعال والوضعيات والحالات تتداخل وتتقاطع بشكل مختلف عما تمارسه الشخصيات النمطية المتآكلة التي دأب على تصويرها المسرح التقليدي السائد، من ثم كان إصرار برشيد على تجاوز البناء الأرسطي الذي تجاوزه المسرح الغربي نفسه. إن البناء المسرحي العربي ينبغي أن يستقي مكوناته من بنى الحكايات العربية، والشعر العربي، والمعمار العرب،ي وكل الأشكال الشعبية التي ورثها المسرح الاحتفالي وراثة شرعية ما دام هذا المسرح احتفالا وعيدا ومهرجانا تتواصل فيه الذوات تلقائيا وعفويا.
إن سعي المسرح الاحتفالي نحو التجديد وتجاوز السائد والمألوف، جعل ثورته عارمة على كل المعايير الجمالية للمسرح الغربي في صيغته الكلاسيكية بمعمارها الضيق والمغلق الذي تجسده الخشبة الإيطالية، لأنها “تعتقل العين، وتصادر الخيال، وتشل الإرادة”xvوتكرس الوظيفة التطهيرية ،وتفصل بين المبدع والمتلقي. لقد اعتبرت الاحتفالية المعمار المغلق إقصاء وإلغاء لكل مشاركة وجدانية وفعلية، في الوقت الذي تعتبر فيه “المشاركة” نواة كل احتفال، يقول برشيد في هذا الصدد “لقد غاب عن رواد الحركة المسرحية أن المسرح ليس بناية وليس أسوارا وخشبة، ليس ستارات وكراسي من خشب، إنه موعد بين جمع من الناس عجزت الكلمات والحروف أن تمد بينهم حبل التواصل، فاهتدوا إلى وسائل تعبيرية مختلفة، كل ذلك سعيا في التقارب وفي الترجمة عن الذوات المختلفة بأكثر من لغة وأكثر من حديث”xvi. إن تركيز الاحتفالية على إيجاد جماليات مختلفة جعلها تتوق إلى استبدال العلاقة داخل المسرح عن طريق كسر إهاب الخشبة الإيطالية، التي كان ينتج ذاته داخلها ،ويقدم عبرها حقائق كاملة وجاهزة ومطلقة، وليس استبدال هذا النمط العلائقي في جوهره، سوى استبدال للوظيفة المسرحية التي تفرضها هذه الخشبة، بوظيفة أخرى بديل هي الوظيفة التواصلية ، فهذه الوظيفة الأخيرة هي التي يفترضها مسرحنا المغربي لأنها تمد جسورا وتخلق حميمية بين الذوات المبدعة والمتلقية خلال لحظات الاحتفال، ولقد اعتبر برشيد الفضاء الاحتفالي فضاء حميميا بامتياز لأنه يتيح للإنسان الحرية والراحة والأنس والاطمئنان والمشاركة والتعبير، فبدون هذه الأسس العلائقية يتحول المسرح إلى منفى وإلى سجن..وما أكثر المسارح السجون في بلدان العالم الثالثxvii فالفضاء الاحتفالي الموسوم بهذه السمات جعل من العلاقة بين أقطاب العملية المسرحية تتصف بالتلقائية والآنية، وهذا ما أعطى للممارسين حرية أكبر في الخلق والإبداع، إذ فتح المجال أمام أخطاء الممثلين وضياع الحوار بينهم، أو التوقف عن التمثيل أو إضافات تتعلق بقضايا آنية أو استعمال كلمات شائعة ..”كل هذا كفواصل تشعر الجمهور أنه أمام احتفال يقام الآن وليس أمام حدث جاهز ومطبوخ، وأنه أمام مجموعة من الناس الأحياء وليس أمام شاشة سينمائية تنعكس عليها الصور المسجلة من قبل”xviii،فالمسرح الاحتفالي مسرح مفتوح شدد رواده على نبذ الستائر والحواجز والدقات التقليدية، ودعوا إلى أن تتحول الكواليس إلى الخشبة أمام الجمهور، وأن لا مجال إلى التستر والاختفاء ،وهذا ما جعلهم يلحون على استبدال كلمة “عرض” بكلمة احتفال، لأن الأولى كلمة متداولة في السوق التجاري تفيد وجود بضاعة تعرض مقابل مستهلك نسميه جمهورا.
إن التنظير المسرحي الذي قدمه المسرح الاحتفالي يكشف عن حقيقة أساس، مفادها أن نضجا ووعيا مسرحيا بدأ يسري في جسد مسرحنا المغربي/العربي، لم يكن لمسرحنا أن يسجل حقيقته الجديدة، ويدرك هويته الحديثة والمعاصرة، لولا هذه الكتابة التنظيرية التي شكلت منظومة معرفية وجمالية، ظلت مفقودة قبل السبعينات في المغرب،غير أنه مع الاحتفالية، وما تلاها من نماذج واتجاهات، بدأ المسرح المغربي يعرف مبدعين يمتلكون رؤى ومواقف وتصورات، جديدة عبرت عنها تنظيرات، وإبداعات انشغلت بهاجس البحث عن قالب مسرحي مغربي، يجلي الخصوصية المحلية، والفرادة المميزة للمسرح المغربي و إنسانه .