فضاءات التسوق (للمتلقي السائح / المتلقي الجوال )* في عرض مسرحية (سجادة حمراء)*/ قراءة نقدية : د.شاكر عبد العظيم
ينطلق فيلسوف ما بعد الحداثة الفرنسي (فرانسوا ليوتار ) في توصيف تشكلات هذا العالم الراهن عبر رؤيته للاختلاف ومفاهيمه على أنه الأقدر على الابتكار من الانضواء تحت مفاهيم يجمع عليها الكل ويسير على منوالها، ومن خلال وجود عدد كبير من الألعاب اللغوية واللاتوافق داخل الخطاب المشفر يضمنان فضاء وافر من التنوع والتعدد المعنائي الذي يتيحه المفهوم الكلياني للخطاب .
فإذا كانت الخطابات المألوفة حسب (بارت) قد سن لها قوانينها الساكنة والمقرورة التي جعلتها تمتلك سلطتها المهيمنة، فأنها وفق ذلك القانون تمتلك نوعا من القهر.
وعلى ذلك انطلق في تحديد الانفلاتات من أسيجة العرض المسرحي المألوف بكل أشكاله (داخل العلبة أو خارجها الذي يشير إلى مسرح الشارع ومسرح المقهى والعروض التي قدمت في ساحات أماكن غير مسرحية وأماكن السيرك والمستشفيات والنوادي وما إلى ذلك) لأدخل في علبة المعرض التشكيل /مسرحي المغايرة لكل تلك الأمكنة، علبة معرض مسرحي لا تنتمي إلى تلك الفضاءات، لكنها تحايثها، تجاورها، وبذلك أسجل غيابات لمجموعة أساسات اعتادها التلقي المسرحي إزاء عرض مسرحي اعتمد التهجين مابعد الحداثي عبر تجميع الألعاب الفنية كلها لصنع آلية تسوق لمتلقي سائح / متسوق جوال .
البداية من حاملي لوحات ( ممنوع التدخين، ممنوع حمل السلاح ) وهو مشهد ربط الخارج / صالة انتظار بداية العرض، بالداخل / المعرض المسرحي، والعلامتين التين يحملهما فتى بملابس بيضاء والآخر بملابس سوداء يعملان على بث فكرة تغييب ونبذ لحضور ماكث بيننا / الموت عبر تقديم النتيجة التي تنطلق إشاريا وإشهاريا من لوحتي الفتى الأبيض/الأسود، وهو حضور / مشاركة / ايجاب ، وإعلان بداية التسوق .
في اللوحة الأولى، شاشة تنفتح على متناقضين، متضادين، تضاد فكري، تباعد روحي، انغلاق ذاتي بين رجل بملابس بيضاء، رجل بملابس سوداء) يطلقان على بعضيهما إطلاقة مسدس ليسقطا أرضا وفق تداخل صوري / حضور سينمائي / تسوق بصري سينمي لسائح متلقي في معرض مسرحي .
وتقودنا سهام وضعت كعلامات تقود السائحين إلى باقي خانات /لوحات المعرض المسرحي حيث علقت شاشة تلفاز تحتوي أربع شاشات مراقبة، ملابس متناقضة بألوانها وتشكيلها علقت على الجدران، مرآتان متقابلتان، المؤدي يرتدي ملابس حمراء، عالمين متناقضين يستظهرهما المؤدي عبر ارتداء ملابس كل عالم، قبعة وجاكيت، يرتديهما ويتقدم إلى منصة ولاقطات لفضاءات عديدة، يخلعهما ليرتدي ملابس النقيض على الجهة الأخرى ويكرر الفعل، خطاب آخر نقيض، ونحن السائحين وسط عالم من التناقض في الخطاب الذي يحول أن يطيح بالأخر بالفعل أو بالقول أو بالصورة. (استثمر اللون بطريقة انتقالية جاذبة وضاجة باللياقة البصرية ) وهنا تسوق / صوري مسرحي، لسائح متلقي.
وننتقل إلى مكان تشكلت فضاءاته من ورق الجرائد بمحتوياتها رزم جرائد احتشدت لتكون سرير المثقف الذي ينظر إلينا بريبة وسخرية، يحول الجريدة بعد أن يتمدد إلى منظار مراقبة بعد تثقيبها، الثقافة لم تكن مجدية، لا تمتلك حراكا تغييريا للواقع، هو تراشق بصري في عملية تلقي وغيابه، المؤدي ينظر إلينا فنتحول إلى مشاركين، لماذا يرشقنا بنظراته التي تحمل معاني لا نستأنس لها ؟ ينظر إلينا كما ننظر إليه. إنه تسوق جمالي مريب لسائح يقوم بعملية تسوق متعدد ، متنوع .
والى مشهد تم تعطيله تماما، ليتحول فعل السياحة إلى فعل تنقيب عن ممكنات التعطيل وأسبابه، لقد غاب المؤدي / الرسام، (بدقيقة واحدة بورتريت شخصي ب 2000 دينار)، فلا بورتريت، فلماذا عطل المشهد إذن؟ هل هو تعطيل للتلقي؟ للسياحة؟ على ماذا يمكن أن نحصل من مشهد معطل؟ إلا يمكن استبدال الرسام الغائب برسام آخر؟ لماذا نتعطل نحن وقد حضرنا هذا ال(مول) المسرحي / المعرض لنتسوق بصريا وفكريا وأدائيا وجماليا وربما نتسوق فباحة؟ فماذا نفعل الآن إزاء فعل التعطيل هذا؟ إنه تسوق معطل نخرج منه بمجموعة أسئلة راشحة عفويا طرحت آنفا. هو تسوق مسرحي متوقف إلى أن يحضر الرسام .
الألوان تطيح بالألوان، اللون يهمش اللون، هيمنة لون على الفضاء / اللون الأحمر، يليه الأسود، ثم لون تضائل عبر ساق كرسي مغاير وحيدة، كرسي أسود في فضاء أحمر، وتلك الساق الوحيدة هي الجاذبة، المائزة، هي إطاحات لونية، صراعات لونية تشاكل بصري، أبراج إنارة كما أبراج ملاعب كرة القدم، هيمنة صورية /بصرية صادحة ناسفة لآلية تلقي لوحة مسرحية مقرور ومألوف، بل هو تسوق لوني عبر درامية غير حاضرة / محسوسة عبر صورة / صور متوقفة الا من الضوء . تسوق بصري درامي محسوس .
وبالوقوف انان أنفسنا في لوحة (تعرف على ملامحك)، ويغادرنا العادي في فعل التسوق، المفضوح، فتعرف على ملامحك الآن يعني نسف للمألوف ألذ اعتدته أمام المرآة كل يوم، إنه يشكل خلخلة لسكونية التلقي، المشهد يشير إلى ذواتنا (حدد ملامحك، اعرف نفسك، حدد موقفك) في خزانة التسوق هذه ، ا\خل وجهك هنا، إنه تسليط الضوء على أنفسنا، تسوق قاس، ضرب لذات السائح / المتلقي وإثارة التساؤل التالي : أنت أيها المتبضع، إلا تعرف ملامحك حتى الآن؟ .
وبتناول باقي اللوحات نصل إلى طفل يضع شريط أسود على الصورة المعروضة سينمائيا والتي تجمعه بأصدقائه من الأطفال، إنه معنا الآن يتابع الصورة /العرض السينمائي، صوت المطربة العراقية ( أنوار عبد الوهاب ) بأغنية قديمة تعيدنا إلى زمن البراءة، وطفل البراءة، ومن ثم قتل البراءة / تسوق مسرح/سينمي، وثمة عازف موسيقي محاط بأقزام كمهرجين عبر إشعال شموع تحيط بالموسيقي وإطفائها من قبل القزم الآخر، أقزام يسيجون فعل العزف، يشوهون ويشوشون آلية التسوق/التلقي، أقنعة وقاية ومقنعون في مكان آخر من المعرض المسرحي/ المول، أقنعة يجب أن نرتديها دائما ن لأن الحرب يبدو إنها لا تمتلك نهايتها، فلا خلاص، فضائين مختلفين يصعب اختراقهما وكلما حاول أحد ما الربط بينهما تمت إزاحته من قبل شخصيتي المكان. وأخيرا السير على السجادة الحمراء، وتحول فعل التسوق إلى فعل مغاير تماما، إلى أداء متلقي / مؤدي يطرح فعله وأفكاره، انتهى التسوق الآن وفعل السايحة، وغياب كينونة معرض وانتقالها إلى كينونة سائح وتماهيه في مناخ المعرض ليكون هو الآخر مشاركا بلوحة من لوحات / المول المسرحي. وتسجل الكاميرا فعل البث الناتج عن المتلقي / المتسوق سابقا إلى فاعل / منتج حاليا. ويصبح أصحاب المعرض المسرحي جميعا إلى متسوقين ويصبح المتلقي إلى عارض / ناقد وربما مؤدي أو مخرج أو سينوغراف عبر آرائه التي سيطرحها أو يؤديها وهو ظاهر على شاشة تلفازية أمامه يشاهد نفسه كما سيشاهده صانعوا المعرض .
في معرض مسرحي لصاحبه (جبار جودي )، هل غاب المسرح؟ عبر حضور تقنيات فنية أخرى (السينما، الموسيقى، الرسم على حائط السجادة، الأداء التشكيلي) إذا ما كان العرض نفسه أخذ سياقات معرض تشكيلي عبر عرض لوحات بطريقة المعارض التشكيلية ؟ .
لقد كان كل شيء يحيلنا إلى غلاف مسرحي يحيط بهذا المعرض ودخول السينما والموسيقى كان داخل هذا الغلاف، فنحنن ضمن مغايرة جبار في إخراجنا من عرض مسرحي إلى معرض مسرحي يتيح له اللعب بالفضاء وتشكيله بطريقة أكثر حرية وبصرية تشكيلية خارجة على قانون العرض المسرحي المتساكن، فلطالما نحن في معرض، تحيلنا مرجعياتنا الذهنية حول أي معرض ومحتوياته الملونة التي لا تركن إلى مادة واحدة، فمن اشتراطات المعرض تنوع محتويات خزانته وخاناته بالمواد المتناقة مرة والمتوافقة (ربما ) في أخرى .
إن معرض جودي يشكل انفتاحا كونيا جعل من محتويات هذا المعرض إنسانية عبر همومه التي طرحها، فقد تخلص من اسر اللغة المسرحية التي امتلكت معجميتها التي نعرفها وأسسها التي حاولت فرضيات مابعد الحداثة الإطاحة بها من خلال حضور الجسد / الحركة / الصورة، وحتى هذا فقد حاول جبار الفرار منه إلى لغة سياحية منفلتة قابلة للتسوق والتسويق في أي مكان وزمان، لإنه إذا ما شاهد العرض أي سائح عربي أو أجنبي فإنه لن يحتاج إلى فك شفراته أو التبضع منه إلى من يترجم له المعروض، لأن معرض جبار جودي يمتلك لغته الإنسانية التي لا تموضع ذاتها في لغة بعينها .
بكل تشظيات العرض/ المعرض، وغياب وحدته المركزية، ولا عمق مكوناته، وجذمورينه لا جذريته، بكل فوضاه المتناغمة، وتناقضاته وتداخلاته، وانفتاحاته إلا منتهية بتهشيمه لحواجز التلقي، يعلن معاصرته ومغايرته لما بعد اللامألوف، فالمألوف هو المسرح الطبيعي حتى زمن الحداثة، واللا مألوف هو التحولات الكبرى في العرض المسرحي والإطاحة بأطر وأسس الحداثة وإديولوجيتها وذاتيتها التي اشتغلت على تفعيل الصورة المسرحية واليات الجسد . لكن ما بعد اللامألوف في لدى ( جودي) هو عدم انتماء فضاءاته إلى كل هذا، فهو يؤسس لعرض مسرحي بطريقة ستحمل تحولاتها للتغيير في العرض المسرحي، ولكن أوجه إليه السؤال هنا، إذا ما خرج اليوم إلى معرضه الشخصي فعليه غدا أن لا يتراجع إلى نفس العرض بل أدعوه إلى البحث عن مغرايرة جديدة كي لا يعلن توقفه في هذا المعرض وينتهي الأمر .
فهو في معرضه المسرحي يمنح الحرية الكبيرة عبر التكرار لمدة ساعتين متواصلة، والحرية تكمن في قبول المتلقي / السائح في قبول لوحة ورفض أخرى، في مشاهدة التكرار أو عدم التواصل معه ومع كل هذا فهو سيمتلك رأيا يطرحه ما أن تطأ قدميه سجادة العرض / سجادة المغادرة للمعرض المسرحي، فلقد صنع هذا العرض إضافة إلى ذلك متلقيا من نوع جديد مر ذكره (المتلقي السائح / المتبضع / الجوال / المتجول ) فنحن في (مول ) مسرحي . تمت صناعته بوعي وقراءة للمسرح بكل أشكاله . ليظهر لنا نتيجة تلك القراءة هذا المعرض المسرحي / الثقافي المتنوع في فضاءاته المتعددة والملونة بطروحاتها التشكيلية ، ذات الشتات الصوري، الجامع للتناقض والمختلف، ومن باب آخر للمترابط المتآلف .
** الهوامش:
*يزعم كاتب المقال ان مفهوم ال( متلقي السائح / المتبضع / الجوال) يعود اليه وهو اول من توصل اليه عبر قراءة هذا المعرض المسرحي .
*سجادة حمراء / عرض مسرحي للمخرج العراقي والسينوغراف (جبار جودي العبودي) تم عرضه في قاعة (كولبنكيان ) للفنون التشكيلية وسط العاصمة بغداد.