(جُعبان ) في مسرح المواجهة .. أو (خطاب التضاد) بين الحداثة وما بعد الحداثة/ د. حسن عبود النخيلة

إن التصدي لهذا العمل المتزامن في (تأليفه وإخراجه) الموسوم بـ (جُعبان) . يعيد النظر في انتزاع الفنان لمتفاعلات تجربته الفنية من مرجعيات لا يمكن أن تنهض بها جاهزية النص، فاستنطاق النص استنطاق حي لا يحييه ما مضى ما لم يكن وليد لحظته الفعلية، ولا يُختلفُ في كون الكثير من التجارب والمواقف الإنسانية تكرر ذاتها، وهذا ما يجعل جل ما سلف كتابته من نصوص مسرحية ، حية ليومنا هذا.
إن زمن التحولات السريعة الذي نشهده اليوم ما عاد يتماشى مع النص الجاهز، ولم تعد جاهزية النصوص قادرة على إغناء مجمل حاجات الإنسان، ورصد متغيراته الحياتية أو إشباعها. لذا فإنها تقف في كثير من الأحيان حائرة في إيجاد مثيلها التعبيري، أو منقودها الفكري. أو ما يتماشى ومقاييس التطلعات التي تلبي حاجة الأسلوب الإخراجي الذي ينحو إلى البحث عن مرتكزات جديدة في تأسيس الخطاب الذي يسعى إلى المغايرة وتجاوز المستهلك أو المتكرر .
على وفق ذلك شهد الإخراج المسرحي في مدينة البصرة عبر المنجزات الأكاديمية التي تبناها أساتذة في كلية الفنون الجميلة – جامعة البصرة ، وأشير هنا بالتحديد إلى التجارب الإخراجية التي قدمها الدكتور (ماهر الكتيباني) فقد اعتمدت رؤية جديدة تمزج بين النص المؤَلّف والجدة في الأسلوب الإخراجي الذي ينحو إلى الإفادة من الاستراتيجيات التفكيكية في كتابة النص و في بلورة أداء الممثل و تشكيل القيم البصرية وتفاعلاتها. وعلى الامتداد ذاته يقف الدكتور (حازم عبد المجيد) في محاولة المزواجة بين التأليف والإخراج، أو التطلع إلى تأسيس أسلوب إخراجي متفرد .
ولعل هذا العمل الأخير موضوع النقد ، يمثل انعطافة مهمة على مستوى محاولة تأسيس أسلوب إخراجي واضح الملامح .
وعلى الرغم من انفصال المخرج عن عمله الأخير هذا بوصفه مؤلفاً واكتفائه بالصفة الإخراجية لكنه قدم إضافة مهمة للنص اتضحت في استبداله للعنوان، فقد احلّ مفردة (جعبان) موضع مفردة (أرقام) فكانت إضافة نوعية لنص المؤلف البصْري (كريم العامري) الذي تميز بكتابته لنصوص مسرحية واعية تترجم معاناة الإنسان العراقي برؤية جمالية ملفتة بدءاً من مسرحية (كاروك) وما تلاها من نصوص عديدة .
إن عتبة النص المتصدرة بمفردة (جُعبان) تتسم بدلالة تعطي نص المؤلف وأفكاره بعداً سوسيوثقافياً يؤسس إلى عمق تعبيري يحيل المشار إليه إلى صورته الحقيقية، في المقاربة بين (داعش) جُعبان .
فمفردة (جُعبان) باعتقادي هي من الألفاظ الدارجة التي لا يعرفها إلا أبناء جنوب العراق، وهي جمع لمفردة (جُعبانه) وتشير إلى صنف من النمل الأسود الذي يمتاز بغلظته وقسوته وكبر حجمه، وهذا النمل معروف بعدوانيته، ويتميز بالتصاقه العنيد بجسم الإنسان إلى الحد الذي تنتهي في كثير من الأحيان محاولة الخلاص منه بانتزاع جسده دون الرأس، وبذلك يبقى متشبثاً في موضع المُهاجَمة، فينتج عن عملية التخلص منه – في بعض الأحيان – اقتلاع شيء من طبقة الجلد.
ويأتي العرض ليكون نصاً موازياً لدلالة العنوان، لكنه يُفيض في مفاهيم ما بعد الحداثة لكي يجد المعادل البصري لهذه الدلالة. وفي الوقت نفسه يقدم صورة النقيض الذي تستقرئه مفاهيم الحداثة وتنسجم معه .
على وفق ذلك يبنى خطاب التضاد على مجابهة العرض بالعرض، ليعبر عن الثيمة الأساسية فالمفاهيم ما بعد الحداثية غالباً ما تنزع إلى تذويب الثوابت وإشاعة المتحرك والاندفاع إلى الأرداف الذي لا يتقبل السببي أو التبريري أو المتسلسل على وفق المنطق، وهي بذلك تفضي إلى التشتت والتلاشي المستمر، كل ذلك جاء ليرتسم في بنية إخراجية منفصلة على الرغم من وقوعها مع قرينتها – أي مع تلك البنية الأخرى المتبنية للمفاهيم الحداثية المضادة في الشق الإخراجي الثاني – لذا فقد وضع المتلقي في موضع اضطراري يدفعه لمتابعة عرضين في آن واحد، ولكنهما ليسا منفصلين الصلة عن بعضهما، فقد تجاورا قصدياً لكي يتبنيان خطاب التضاد، وهذا ما منح الأسلوب الإخراجي جدته في اشتغاله على بنيتين مختلفتين في آن واحد، تميز كل منهما بفلسفته المتعارضة – وهي مهمة لم تكن باليسر المتاح – ولكنها تكللت بالنجاح المعلن عنه بإجماع النقاد .
إن خطاب التضاد عبر رؤى الحداثة وما بعد الحداثة تكشف عنه رؤية إخراجية مركبة، تصل في أحيان كثيرة إلى تجاوز التركيب والازدواج إلى التشظي والتفتت، فالإخراج عبر مركباته الصورية ينزع إلى أن يكون جملة من الأطراس، ليُكوّن كل طرسٍ أثراً تنتجه الحركة المتناقلة بين صورة وأخرى وهي ترسم مجتمعة في الآن ذاته مسار الخطاب، فالصور المتشظية التي ترسم في الفضاء المسرحي خطوطها وتعبيراتها، تمارس عملية الكتابة فوقع بعضها البعض، في عملية لا انقطاعية، أشد ما يميزها تعددية الخطاب، وهذا ما يجعل من الصور أشبه بالأطراس، فصفة الإحلال فيها تتغلب على صفة الإمحاء، وهذا هو التفرد الواضح في تشكيل المنظومة البصرية المتحركة التي يتبعها المخرج، فهو على وفق التشظي الصوري الذي يصيغ من خلاله المنظومة البصرية للعرض، يجعل من كل تشظية صورية قادرة على البوح بما في أعماقها من أفكار، ولكنها لا تمحو آثر سابقتها، وتتلو ذلك كل الصور المتجاورة أو المتلاحقة التي تجنح للفاعلية نفسها، فينعكس ذلك على إيقاع العرض المسرحي الذي لا يترك متنفساً للحظة خالية من الحركة والأداء، وهذا ما يجعل العرض حركياً بامتياز .
وقد أجاد المخرج الدكتور (حازم عبد المجيد) في إدخال المفهوم ما بعد الحداثي والإفادة منه على مستوى الصورة البصرية وطبيعة أداء الممثل في خلق هذه الدينامية المتفجرة. ولذلك يُلاحظ أن (فكرة الهامش ) – مابعد الحداثي- تترجم في منظومة العرض من خلال مواضع متعددة، و نقيضها ( المركز) ــــــ يكون معبراً عن ذاته  بوسائل مختلفة  .
فمفهوم (الهامش) يترجم ذاته عبر ما يأتي : (أولا ً- اختيار الشخصيات (الثانوية) لتكون تجسيداً للهامشي، ثانياً – وضعها- أي الشخصيات الثانوية-  في موضع التبعية للشخصيات الرئيسة فلا تتقدم عليها، ثالثاً – اقتصارها على اللغة البصرية الناتجة عن الإيماءة أو حركة الجسد، رابعاً-  انتمائها لما هو دون الإنسان – يتجلى ذلك في أغلب الأحيان عبر إيحاءات الموسيقى التي تصاحب حركة هذه المجاميع مشيرة إلى ما يرجعها إلى أصلها الحيواني  خامساً- معارضتها للهوية (فقد جاءت التشكيلات الجسدية التي ابتدعها المخرج لتكشف عن جسد متحرك ولكنه يحوي عدة رؤوس، و في حالات أخرى تمتزج الأجساد فتمزق وحدة الذات الإنسانية وتطمس هويتها المنفصلة. سادساً- انتماء بعض هذه الشخصيات إلى مخلوقات لا إنسانية مثل الشياطين، و الأشباح، وقد برز ذلك في طبيعة الزي الذي ترديه هذه الشخصيات، أو طبيعة الماكياج الذي يبعدها عن السمة البشرية بشكل تام، أو انتماءها إلى (الحشرات) – كما يكشف عن ذلك ما تصوره الممثلة (هبة الله هاشم) التي كانت بارعة في استخدام جسدها فاستطاعت بكل دقة أن ترسم صورة للعنكبوت وهي تتناقل بكل رشاقة ومرونة لتهبط من أعلى خشبة المسرح إلى مدرجات المتفرجين، أو في تدليلها على فكرة الهامش وهي تتناقل بخفة العنكبوت على أجساد الممثلين واحدا تلو الآخر وقد شكلوا بأجسادهم صورة بصرية معبرة، تكشف بعمق عن مستوى الأعلى والأدنى أو (الهامش) و(المركز) في موضع من مواضع الاضطراب وقد صار ما هو إنساني مهمش في مرتبة (الأدنى) وما هوغير بشري (مركزاً) في مرتبة الأعلى .
أما المركز كموجود يتصل بالمفهوم الحداثي فهو يشكل صورة تحاول أن تنبري خارج إطار الطرس، إنها تسعى للمحافظة على ذاتها خارج إطار التفتيت، أو الخلاص من هيمنة التسطيح أو المضاعفة المتعارضة مع الهوية.
لذلك تتجلى البنية الإخراجية المستفيدة من هذا المفهوم بعرضها لما يأتي تأكيداً على خالصية المركز:
أولاً- تقديم شخصيات تتصف بسمة البطولة، ثانياً – غالبا ما تحتل موضع المتقدم في صورة العرض، ثالثاً- اتسامها بكل ما يعقد صلة بصورة الإنسان الواضحة شكلاً وسلوكاً وفكراً ورغبة. رابعا– اعتمادها لغة الحوار الواقعي ــــ وغالباً ما تكون لغة الكلام لا لغة الجسد. خامساً–  اعتماد الشخصيات لدلالات تعلي من سلطان المركز– كالتوسل بالأولياء الصالحين، أو التركيز على جوانب القوة عبر الصلة بهم، ويرسخ لهذه الفكرة كذلك مضمون الأنشودة التي غالبا ما ترددت على أسماع العراقيين بحماستها وتأكيدها على عقد الصلة بالأرض والانتماء لها والتضحية في سبيلها وما يرافق ذلك من قدسية الأرض بوصفها قيمة ترتقي لمرتبة الأولياء الصالحين : ( لا … لا .. لا والله والعباس .. نوكع زلم فوك الزلم لمن يشيب الراس … هاي الكاع ما تنداس ) .
إذن فالمركز يبرهن على ذاته بوصفه مقدساً، وهو يكرر هذه القدسية أيضاً عبر نداء المؤذن إلى الصلاة، وما يرافقه من فعل الوضوء، مثلما جسد هذا الفعل الممثل (مجيد عبد الواحد ) وقد كان هو و الدكتورة ( ثورة يوسف) ثنائياً تمثيلياً رائعا ًفي امتلاكهما لأدوات التعبير والمطواعية والتناقل الجميل في الأداء.
عبر هذه المجابهة بين البنيتين الإخراجيتين المتعارضتين ومفاهيمهما الحداثية وما بعد الحداثية تأسس ( خطاب التضاد) الذي يترجم تصوراً لرؤى (ميشيل فوكو) للخطاب لا بوصفه تجسيدا ً لـ ” الذاتية الخالصة، بل هو فضاء لموقع وأنشطة متباينة للذوات. إنه الخطاب – الموقع كساحة للفعل، والصراع والرغبة، إنه فضاء الانتشار والتوتر و التوزع، مما يجعله مسرحاً للاستثمار، وإستراتيجية تحدد  المكتوب والمنطوق والمرئي”.
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت