إلى أين تأخذنا الدراما التليفزيونية ؟ / د. حسن عطية
(4) الدراما السوداء والهروب من قضايا الواقع
عن / الكواكب
بعد أن نجحت القنوات التليفزيونية في تشتيت عقولنا وبلبلة أفكارنا وخلخلة مشاعرنا بهذا الكم الهائل من المسلسلات الدرامية وإعلانات الشحاذة على المرضى خلال الشهر الفضيل، ثم بحفلات المديح الزائف التي أقامتها في أيام العيد كل قناة لنجوم المسلسلات التي عرضت على شاشتها، فضلا عن الاستفتاءات الكاذبة والمشكوك فيها التي تقيمها كل جهة لصالح نجوم وأعمال معينة لترويج بضاعتهم التالفة .
وبعد أن توقفنا خلال المقالات الثلاثة الماضية عند أبرز ما تم تقديمه من أعمال، حاولنا أن نرى بها ضوءا في نهاية النفق المظلم الذي صنعه صناع الدراما لنا، نعاود طرح سؤالنا الذي انطلقنا منه وهو : إلى أين تأخذنا الدراما التليفزيونية ؟، وهو سؤال يعيد النظر لمجمل هذه المسلسلات المقدمة، بما فيها من غث وسمين، منتبها لاستجابات الجمهور متعدد المستويات لهذه الدراما، فالجمهور كما نعرف جميعا ليس واحدا، فهناك جمهور من المتعلمين وآخر من أنصاف المتعلمين وثالث من غير المتعلمين، لكل منهم رؤيته واحتياجه من هذه الدراما، وهناك جمهور يجلس أمام الشاشة بعقل يقظ ينتقد ما يقدم له، وآخر يستسلم لما يقدم له على أنه أمر واقع لا محالة، وهناك جمهور يتوجه للقنوات الرسمية التي تمتلك ما يعرف في نظريات الإعلام ب (حارس البوابة)، والمتمثل في الرقابة على العمل الدرامي المعروض، فيقلل من طول مشاهد العنف على الشاشة، ويلغى الصوت عن بعض حواراته المسفة، مما أدى بأحد المخرجين للصراخ في الأسبوع الأول من رمضان داعيا جمهور مسلسله لعدم مشاهدته على قناة النيل للدراما التي أخضعت مسلسله لرقابة إتحاد الإذاعة والتليفزيون، وهناك جمهور يبحث عن نفس هذه المسلسلات على قنوات أخرى، بكل الحوار الهابط ومشاهد العنف، يتلقاها وفقا لحقه في حرية التعبير والتلقي، ثم يصرخ بعد ذلك رافضا ما شاهده متسائلا أين رقابة الدولة المنوط بها حماية أولادنا من هذا العنف والهبوط الأخلاقي.
تعدد مستويات التلقي للدراما التليفزيونية أيضا تضم الأجيال المختلفة، فلكل جيل رؤيته للحياة وخبرته فيها ومسئوليته نحوها، فجيل الصبية والمراهقين جيل أصبح في السنوات الأخيرة منفلتا ومتهورا يبحث في الدراما عما يدعم تهوره ويبرر له الانفلات، فيقبل على كل ما يحتوى عنفا ماديا ودمويا، وكل ما يلغي أي منطق عقلي يحكم السلوك، فيندمج في حكاية “هانيا” و”على الروبي” (تحت السيطرة)، ويتعلق بحكاية “عمر نصر” المطارد من أجهزة أمنية غامضة (بعد البداية)، ويتتبع تحول “سيد بوخارست” من مواطن ناجح إلى بلطجي ومجرم وتاجر مخدرات (الحواري)، ثم يتهيأ مع أيام العيد لإخراج رغباته المكبوتة داخل المنازل، متجها لوسط المدينة ليتلقى في ظلمة السينما عنف أفلامها، ويمارس التحرش العنيف خارجها، بينما يتلقى جمهور الأجيال الشابة مشاهد العنف وممارسة الإدمان على الشاشة باعتبارها نوعا من التنفيس النفسي عما يفكر في فعله في الواقع، في الوقت الذي ترى فيها الأجيال المخضرمة تضخيما لما يوجد في الواقع، بدلا من توجيه اهتمام المجتمع بأكمله نحو القضايا الأكثر أهمية، واستخدام الأعمال الدرامية كحياة مجتمعية أرقى وأجمل، ترفع من ذوق الجمهور العام، وتسمو بلغته اليومية، وتدفعه للتفكير في تغيير مجتمعه.
العنف على الشاشة ليس نتيجة لوجوده في الواقع فقط، بل هو توجه يدفعنا نحوه صناع الدراما التليفزيونية بتصويره وكأنه السمة العامة لحياتنا، وهو توجه يتم حصره في حقل الجريمة الفردية، مع الابتعاد تماما عن عنف الجريمة الجماعية التى تقوم بها الجماعات المتطرفة المناوئة للمجتمع بأكمله، فرغم معاناتنا اليومية من السيارات المفخخة والمظاهرات (المتشمرخة) والميكروفونات الصارخة بنداءات هدم المجتمع، لم نر أيا من صناع هذه الدراما قد تجرأ وناقش في مسلسله هذا الموضوع الخطير، ولا فكر أحدا في الرصد الدرامي لموضوع شق قناة جديدة ستغير الكثير من معطيات حياتنا، ولم يقترب أحدا من موضوع الظهور المفاجئ لجماعة داعشية تحاول السيطرة على سيناء وتحويلها لولاية إسلامية مستقلة، لولا الدور الفاعل للجيش المصري، بل أصروا جميعا على الهروب تماما من قضايانا الساخنة، ومن فكر في الاقتراب منها، أكتفي بجريان وقائع مسلسله التقليدي في الزمن الراهن تحت لافتة (حدث هذا قبل الثورة)، فمسلسل (بعد البداية) تدور أحداثه قبل ثورة يناير 2011 بعدة سنوات، و(أرض النعام) يعود للأشهر التالية لها، و(بين السرايات) تنتهي وقائعه الدائرة بقيام ثورة يناير، وحتى مسلسل (أستاذ ورئيس قسم) يتوقف مع بطله المناوئ للأنظمة عند قيام ثورة يونيو 2013 .
** أمير الانتقام
نظرا لتعدد مستويات الجمهور، فأن الدراما الجيدة هي التي تستطيع أن تمتلك القدرة على مخاطبة جل مستويات الجمهور المتلقي، وهو ما لم نجده إلا في قلة من المسلسلات أبرزها كان (تحت السيطرة)، حيث يمكن على سبيل المثال رؤية “هانيا” كفتاة مراهقة افتقدت وجود الأب، وعجزت الأم عن تربيتها، تعلمت في مدارس أجنبية فصلتها عن مجتمعها، فسقطت بسهولة في يد الخبير “على”، ويمكن رؤيتها كممثلة لطبقة متوسطة ثرية غير مهتمة بما يجرى في الواقع، فرحة بتفوقها على الآخرين، ومحققة ذاتها فيما لا يستطيعون تحقيقه، ويمكن في مستوى ثالث رؤيتها كممثلة لجيل كامل ينكر أبوته الغائبة، ويتعالى على حياته القائمة، ويبحث لنفسه عن عوالم ضبابية يعيش فيها خارج الزمن .
أما غالبية المسلسلات فقد حددت جمهورها وكأنها تنتج لدور عرض مغلقة على مستوى معين من الجمهور، وكأن لا أحد يشاهدها غير الصبية والمراهقين، وأقامت وقائع حلقاتها على الأفكار التقليدية والمتكررة في الأفلام السينمائية مثل فكرة المطارد، والتي حملها على عاتقه مسلسل (بعد البداية)، لاعبا على فكرة اختفاء صحفي والإعلان عن موته واتهامه بالتجسس، ليظل الجمهور يلهث طوال 29 حلقة معه ضد الأجهزة الأمنية الغامضة المطاردة له، حتى يصل للحلقة الأخيرة فيفاجئ بنهاية تستخف بعقله، يتحول فيها الصحفي الشريف إلى لص، يتفق مع بعض هذه الأجهزة ليسافر إلى الخارج كي يحول مليارات تم تهريبها للحكومة المصرية، فيستولى هو على المبلغ بأكمله، مدعيا أن الحكومة سوف تسرقه، وهو الأولى باستثمار المبلغ الضخم، فيعيش بالخارج باسم مستعار، مرسلا بضعة ملايين للقاهرة لإقامة مشروعات تفيد المجتمع، منها المشاركة في رأس مال الصحيفة التي كان يعمل بها، معيدا صديقته التي طردت منها بسبب وقوفها إلى جانبه، ليس فقط للعمل بها بل لترأس تحريرها !! .
وأدار مسلسل (حق ميت) وقائعه على فكرة (المنتقم) ممن ساهموا في قتل زوجته، لينتهي أيضا في آخر حلقة نهاية ساذجة، حيث يكشف عن أنه لم يقتل أحدا، بل كان يخبئ ضحاياه في منزل مهجور، ويعاملهم معاملة حسنة، حتى أنهم لحظة خروجهم من المنزل يدافعون جميعا عنه ويبرءونه، فيزداد تعاطف الجمهور البسيط مع البطل المحامى الشاب “نادر”، الذي سجن ظلما لاتهامه بخطف وقتل أربعة سيدات كن على علاقة بالشخصين اللذين قتلا زوجته وشوها صورتها، ويبرر له بهذا التعاطف كل ما فعله طوال الحلقات التسع والعشرين وكأنه أمير الانتقام المعاصر .
لا يقف الاستخفاف بعقل الجمهور عند هذه النهايات الساذجة، والتي تربك المنطق السليم بعدم ربط النتائج بالمقدمات، بل وتظهر مسلسلات تقوم أساسا على الاستخفاف بعقل الجمهور، مثل (الكبير) في نسخته الخامسة والباهتة، والقائم على توليفة من المواقف المفتعلة، لا تنتج غير مجموعة من (الأفيهات) التي لا تصنع عملا دراميا متكاملا، ونعتقد أن هذه هي آخر رحلة “أحمد مكي” مع الكبير وعليه مغادرة المزاريطة نهائيا، وإلا سيقع فيما وقع فيه “محمد سعد” مع شخصية “اللنبي” التي نقلها من السينما إلى التليفزيون ثم عاد بها إلى السينما ، منهيا مشواره هذا العيد بها .
** الفيلم نوار
كما نعتقد أيضا أن السيناريست المثقف “محمد أمين راضى” والمخرج الواعي “خالد مرعى” قد وصلا لنهاية المطاف مع مسلسلهما (العهد)، مغلقين بذلك هذه الثلاثية الفانتازية، والتي انطلقت العام قبل الماضي بمسلسل (نيران صديقة) ثم العام الماضي ب (السبع وصايا)، وهذا العام ب (العهد)، بتدرج في البناء الغامض وصل لدرجة الإلغاز في الجزء الثالث، وأن صيغت الأجزاء الثلاثة بأسلوب واحد، ينتمي لما يعرف في السينما ب (الفيلم نوار) أي الفيلم الأسود، ويشير للدراما المعتمدة على موضوع الجريمة الدائرة حول العنف، والمفعمة بالتهكم والتشاؤم، والمحتوية على مجموعة من الحكايات المتصلة بمصدر واحد، والمعتمدة على الصور الليلية المظلمة، والموحية بالأحداث أكثر من الكاشفة لها.
وفى صياغة تقترب من عالم (الديستوبيا)، النقيض لعالم (اليوتوبيا) أو المدينة الفاضلة التي يهفو الإنسان لتحقيقها على الأرض، كي تكون أفضل من مدنه التي يعيش فيها، بينما (الديستوبيا) هي بناء مدن أسوء مما يعيش فيها الإنسان، مدن مليئة بالشر والرعب وغياب العدالة، ولهذا حمل المسلسل أثناء إنتاجه عنوان (مملكة إبليس) مشيرا إلى مدينة المسلسل الظالمة، والتي تبدأ حكايتها بجريمة قتل بالسم لكبير كفر (القلعة) المدعو “كمال الديب”، بمؤامرة شارك فيها أخيه “خليل” مع زوجة الأول “جومر”، ويرى الطفل “مهيب” أباه وهو يقتل، فيقرر الثأر حين يكبر، في استعادة واضحة لتآمر الأخ وزوجة أخيه على حاكم مملكة الدنمارك زوجها “هاملت” الأب، ووضع الابن “هاملت” في موضع المنتقم لمقتل أبيه، في مسرحية شكسبير الشهيرة، وتآمر ابن العم مع زوجة الحاكم وقتلهما “أجاممنون” في الدراما الإغريقية، وتحرك ابنه الطفل “أورست” فيما بعد للثأر لأبيه، والحال كذلك مع تآمر الأخ “ست” على أخيه “أوزوريس”، وظهور “حورس” الابن المنتقم في الأسطورة المصرية القديمة .
يستخدم الكاتب هذه التيمة المتكررة في الأساطير والآداب العالمية، ليؤسس عليها مسلسله المصاغ خارج الزمان والمكان معا، وأن غلفه المخرج بأجواء وترانيم قبطية، وذلك بحصره سكان هذا العالم المتفجر عنفا داخل ثلاثة كفور، يتصارع الكفر الأكبر (القلعة) مع الكفر الأصغر منه (نطاط الحيط) على الزعامة واحتلال مقعد (المكبرة)، بينما ينشغل الكفر الثالث شديد الصغر (النسوان) باللهو والمجون، ويتحرك الحدث الدرامي بوقوع جريمة قتل الكبير، بنفس الخطوات التي بدأ بها مسلسلا (نيران صديقة) و(السبع وصايا) بوقوع جريمة قتل ذات ملابسات غريبة تحدث في الحلقة الأولى، يتجمع حولها مجموعة من الأصدقاء القدامى أو من الأشقاء غير المتآلفين، وتتحرك الوقائع لتزيد الأمر غموضا وتعقيدا، تلعب وثيقة مكتوبة دورا في تفجير وتعقيد الأحداث، وذلك عبر كتاب ذكريات تنزف الدماء منه لا يكشف عن حقيقته في المسلسل الأول، أو وصايا دموية تدفع الشخصيات في المسلسل الثاني لحتفها، بعد قتل الأبناء للأب الذي تختفى جثته دون أن يجد المسلسل تبريرا لهذا الاختفاء، فيلفق له شخصية تقول للجمهور ليس مهما أن يعرف مكان اختفاء الجثة !! ، أو كتاب دستوري يسمى (العهد) في المسلسل الحالي، تدفنه الجدة في الأرض، لتتنقل صور منه طوال المسلسل بين شخصياته، التي لا تفعل شيئا غير القتل المتبادل فيما بينها، واصلة لنهاية الحلقات وقد وجدت نفسها في مأزق عدم تبرير ظهور شخصيات واختفائها، وعدم الإجابة على السؤال المطروح منذ بداية الحلقات عن تعديل المائل، بل وعدم منح شخصياتها وأفعالها ملامح إنسانية وتبريرا منطقيا يحولها من مجرد رموز هائمة في الظلمة يحتار الجمهور في فهمها، إلى حضور درامي يشارك الجمهور بفهمه لها في تفسير الواقع الذي يعيشه ، ولا ينتظر الوعد الذي حمله التتر الأخير للمسلسل بكتابة جزء ثان من (العهد) في العام القادم بعنوان (نار الجنة)، فهي نهاية لا تغلق الحدث الدرامي بإلغاء التوتر الذي حدث في الحياة بتفجر هذا الحدث، وتقديم وجهة نظر صناع المسلسل فيما حدث أمامنا، والادعاء بأنها نهاية مفتوحة أمر غير صحيح، فالنهايات المفتوحة تعنى أن المبدع لا يملك وجهة نظر فيما أثاره، ويترك جمهوره يتخيل نهاية مناسبة للحدث ومستقبل شخصياته، ويتصور رسالة لا تنتمي لفكر صناع الدراما .