المسرح الموريتاني وأزمة التأسيس/ إبراهيم ولد سمير
ما أظننا نغلو في القول إننا اليوم أشد منا في أي يوم آخر حاجة إلي العناية بالمسرح … ولعلنا كذالك لا نغالي إذ قلنا أن الأدب التمثيلي هو أكثر آدابنا حاجة إلي الرعاية وبذل الجهد والتماس النضج والأصالة والتطلع للنهوض نهضة تكفل لشعبنا العربي، ما هو أهل له وعلي الأخص في هذا الوقت الذي نخطط فيه لمستقبلنا وندعم فيه لبناء غد آمن مستقر. (1)
يمر المجتمع الموريتاني بتحولات إجتماعية سياسية ثقافية كبيرة وكغيره من الشعوب، عرف الموريتانييون المسرح كغيره من الفنون مع بداية تأسيس الدولة الوطنية. وقد مر بمراحل ومعوقات سنحاول التطرق لها في هذه الإطلالة سنرفع الستار عن تأسيس المسرح في موريتانيا وأزمة وجوده في مجتمع يحمل ثقافة شفوية ظل وفيا لها وليست له تقاليد راسخة مع فن التشخيص والفرجة
بداية التأسيس:
عرف الموريتانيون قبل الاستقلال نمط واحد من فنون الفرجة وهو الرقص على إيقاع الطبول في المناسبات التي تتطلب الترفيه وهي أيام استثنائية ترتبط بالأعياد الدينية ( العيد الكبير ، الفطر، المولد ) والمناسبات الإجتماعية …… مع وجود ثقافة موسيقية متأصلة وانتشار المديح النبوي الشريف واشتهر مداحون على مر العصور والمداح يشبه في أداءه طريقة الحكواة المعروف في المشرق العربي
وفي أواخر الخمسينات من القرن العشرين ( 1958م) قبل الاستقلال بعامين ظهرت أول فرقة مسرحية موريتانية (الكيكوطية) برئاسة الملك همام أفال ويمكن اعتباره الأب المؤسس للمسرح الموريتاني، وكانت فرقة الكيكوطية فرقة ترفيهية تقدم اسكتشات كوميدية لترفيه كبار الموظفين آنذاك وكانت بداية لفن التشخيص في البلاد، وظهر بعد ذالك مجموعة متمسرحين يمكن أن يطلق عليهم جيل الرواد من أمثال: محمد ولد ممين، والكاتب محمد فال ولد عبد الرحمن ومحمد ولد مسعود ..
وقد كانت هده البدايات تعتمد أساسا علي تمثيل النص دون مراعاة للحركة وهذا أمر يعزي إلي عدم وجود متخصصين حينها مع أن البلاد في فترة السبعينات كانت تعيش طفرة فنية تكللت بإنشاء الفرقة الوطنية للفنون وقد كانت تتركز أنشطتها علي الموسيقي والرقص، رغم مشاركتها في مهرجانات دولية لم يكن الفن المسرحي من أولوياتها حيث لم تفد الدولة الموريتانية طلابا للخارج لتلقي دورات تكوينية والإستزادة من هذا الفن ..
وإذا كان الجيل الأول من المسرحين الموريتانيين قد اعتمد علي تشخيص النصوص دون ترجمتها ميزانسينيا وحركيا ، علي الرغم من أن الحركة المسرحية كانت منتشرة لدي الفرنسيين في البلاد قبل الاستقلال إلا أن جيل الرواد لم يستفد من ذالك بأي حال من الأحوال بل اكتفوا بقراءة نصوص درامية وتمثيلها لغويا وحواريا وذالك دون تحويلها إلي عروض ركحية أو سنوغرافية. (2)
ويأتي الجيل الثاني من المسرحيين الموريتانيين مع بداية الثمانينيات من القرن العشرين في فترة الحكم العسكري للبلاد وكان العمل المسرحي يخضع للرقابة كغيره من الفنون, ولقد قدم هذا الجيل أعمالا مسرحية تميل إلي الأسس المتعارف عليها فنيا من خلال تشخيص النصوص المسرحية وترجمتها إلي حركات ولوحات فنية فوق الخشبة. و جيل الثمانينيات أو ما اصطلح عليه بالجيل الثاني للمسرح كان بقيادة : محمد الأمين ولد عداه. وقد امتازت فترة هذا الجيل باعتماد النصوص المسرحية الوطنية لأول مرة وقد كان من أبرز كتاب المسرح في تلك الحقبة الكاتب / محمد فال ولد عبد الرحمن وقد تميزت كذالك بتقديم النص المسرحي علي أسس علمية علي عكس ما كان سائدا في السابق ( حركات محسوبة، ديكور، إكسسوار، إضاءة، موسيقي….) ومن أبرز الجمعيات والروابط والفرق المسرحية في تلك الفترة جمعيات (غرناطة، المرابطون، الرسالة، شنقيط وهي إحدي كبريات الجمعيات المسرحية الموريتانية وأكثرها صيتا وعطاء بالإضافة إلي فرق الخلاص والمسرح الطلائعي والأصالة والأصابع والمرأة…)
وفي منتصف الثمانينيات شكلت هذه المجموعة ما عرف بالإتحاد الوطني لمسرح الهواة وقد مثل هذا الإتحاد الحقبة المضيئة في تاريخ المسرح الوطني آنذاك وذالك لكثرة أعماله في داخل البلاد وامتداد عطاءه إلي خارج البلاد بمشاركته في مهرجانات دولية وإقليمية ( كمهرجان قرطاج، ومهرجان مونستير، ومهرجان أبي رقراق ومهرجان المسرح لفرنك افوني في أبدجان ومهرجان يوم الطالب الليبي…) لكن هذا الإتحاد عصفت به عوائق وعراقيل عدة أدت إلي أن يسدل الستار علي إبداعاته المسرحية مما أدي إلي تفكيك الإتحاد الوطني لمسرح الهواة رسميا سنة 1988م .
وأدي هذا التفكك إلي ظهور بعض الفرق المسرحية التي حاولت سد الفراغ الذي تركه غياب الإتحاد الوطني لمسرح الهواة وقد كان أبرز هذه الفرق المجموعة التي نشطت البرنامج التلفزيوني الناجح (ش الوح افش) حيث كان أبرز ممثليه عطاء أعضاء في الإتحاد الوطني لمسرح الهواة وقد برعوا في أداء أدوارهم التي كانت نقدا لاذعا للواقع الاجتماعي والسياسي للبلاد بطريقة فكاهية ونذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر عبد الباقي ولد محمد وعبد الرحمن و لد أحمد سالم (أحمد طوطو) حيث ربط هذا البرنامج الموريتانيين بالتلفزيون الوطني لكن حماسهم وجماهيرية برنامجهم ( ش الوح افش ) جعلتهم يجتازون حاجز الحرية المتاحة من حكام البلاد آنذاك فأدي إلي وقف البرنامج التلفزيوني الشهير .
عرفت الساحة المسرحية الموريتانية ظهور فرقة المسرح الشعبي في بداية التسعينات من القرن العشرين سنة 1990م
التي أسسها وأدارها المخرج : أحمد ولد محمد الأمين وهو نفسه مخرج البرنامج التلفزيوني ش الوح افش
ولقد اعتمدت فرقة المسرح الشعبي في أداءها علي كوميديا الموقف وقدرة ممثليها علي التقليد والمحاكاة دون التقيد بالضوابط الفنية المتعارف عليها , ومع ذالك كان لظهور فرقة المسرح الشعبي دورا بارزا وهاما في ربط الموريتانيين بالمسرح وبفن التمثيل بصفة عامة حيث سدت فرقة المسرح الشعبي الفراغ , ورغم شعبيتها الطاغية فإن المسرح الموريتاني آنذاك كان يفتقد الاحترافية والقدرة الأكاديمية.
غير أن منتصف التسعينات 1996م من القرن العشرين ستعرف موريتانيا طاقات مسرحية إبداعية واعدة جديدة ستقود المسرح الموريتاني نحو مناحى التأسيس والهوية والتميز والإبداع فظهر ما يسمي بالمسرح الاحترافي وممارسة فن المسرح علي أسس الدراسة والعلم .
بالإضافة إلي ظهور جمعيات وروابط وأندية شبابية ساهمت في إنعاش خشبة المسرح الوطني ومن أهم هذه الجمعيات التي حملت مشعل الإبداع المسرحي: المخضرمون ،، النجوم ،، التضامن ،، الآفاق ،، الإبداع،، التحدي الثقافي،، رابطة المواهب ،، رابطة تواصل ، التي كان لها السبق والتخصص والتميز في المسرح من بين هذه الجمعيات والروابط والأندية الشبابية ويكفي رابطة تواصل فخرا أنها حافظت وحضنت بيضة المسرح الوطني وكانت النواة لفرقة المسرح الجديد الذي قاده وأطره المخرجان: باب ولد ميني والتقي ولد عبد الحي وتميزت هذه الحقبة بإبداعات الفنان المسرحي المتميز بونه ولد اميده ورفاقه.(3)
مع وجود حركة مسرحية في مقاطعات العاصمة انواكشوط يأطرها شباب آمنوا برسالة المسرح الخالدة وهنا تجدر الإشارة إلي الفنان المخرج محمد سالم ولد أخليه الذي عرفته عاشقا ومريدا لخشبات أبو الفنون متنقلا بين مقاطعات العاصمة مبشرا بمسرح موريتاني جديد.
وفي بعض ولايات الوطن وخصوصا في ولاية داخلت انواذيبو حيث تميزت رابطة القدس التي كانت لها صولات وجولات علي خشبة المسرح البلدي بالمدينة ونذكر من رواد المسرح في ولاية داخلت انواذيب الذين أسهموا في إثراء العمل المسرحي هناك علي سبيل المثال لا الحصر : سيد محمد ولد اوداعه ، يحي ولد الدده …الخ
وفي السنوات الأخيرة عرف المسرح الوطني طفرة نوعية مع انطلاقة المهرجان الوطني للمسرح المدرسي سنة 2011م وكانت الانطلاقة الحقيقية لإخراج المسرح من أزمة التأسيس التي ظل يتخبط فيها حيث كانت دائما معضلة الاستمرارية والتواصل بين الأجيال تقف حجر عثرة أمام تطويره.
ومنذ انطلاقة هذا المهرجان الذي تنظمه جمعية المسرحيين الموريتانيين وبدعم من الهيئة العربية للمسرح عرف الفن الرابع في موريتانيا انتشارا منقطع النظير واهتماما من الشباب ومع ذالك فأن هذه التجربة مهددة بالتوقف لانقطاع الدعم الخارجي عنها وعدم تحمل الوزارة الوصية لدورها في استمراره. ورغم كل هذه النشاطات المذكورة سلفا ما زال المسرح الموريتاني في طور التأسيس ويعاني من عدة صعوبات وعراقيل تواجه مسيرته الإبداعية.
عوائق وعراقيل التأسيس:
يعاني المسرح الموريتاني من عوائق عدة تقف حجر عثرة أمام تقدمه وتأسيسه علي أسس صلبة تضمن له الاستمرارية والتميز، ويمكن أن نجمل هذه العوائق والعراقيل في :
العوائق الإدارية: حيث لا توجد مصلحة أو إدارة خاصة في وزارة الثقافة، غياب فرقة وطنية للمسرح، غياب الدعم المادي والمعنوي من الوزارة للأعمال المسرحية، غياب المهرجانات والتظاهرات الوطنية للمسرح التي ترعاها الجهات الرسمية، انعدام الكادر الفني الموظف المتفرغ للعمل المسرحي. كما أن غياب الفرق المحترفة للعمل المسرحي يعد عائقا إداريا مع انعدام وجود اتحاد وطني للمسرح يجمع الناشطين في المجال يمكن من خلاله تلقي الدعم المالي والتنسيق مع الوزارة الوصية .
العوائق الفنية :
ـ انعدام وقلة وجود المختصين في الوزارة كما أن الأخصائيين في المسرح (الدارسين) يعدون بالأصابع في البلاد وانعدام التكوين الدائم للهواة أو إيفاد المهتمين في بعثات للخارج للتكوين والدراسة العلمية مما سيمكن من انتشار العمل المسرحي مع أن الدولة بإمكانها ذالك بأقل التكاليف.
ـ غياب البني التحتية، ويتمثل في انعدام وجود أماكن للعرض المسرحي. إذ لا تتوفر البلاد علي مسرحي وطني يستجيب للمواصفات الدولية (توفر الصوت، الإضاءة، غرف إعداد الممثلين…إلخ ) حيث لا توجد في العاصمة غير دارين للشباب طاقتهم الاستيعابية محدودة (850 دار الشباب القديمة التي تحولت إلي المعهد الوطني لتكوين أطر الشباب والرياضة 400 مقعد في دار الشباب الجديدة التي تحولت إلي معهد للموسيقي )
عوائق اجتماعية :
كما أسلفنا يعتبر الفن المسرحي رغم عراقته ومكانته في العالم المتمدن فن وافد علي المجتمع الموريتاني الذي ما زال حديث عهد بالبداوة وبطبيعته لا يتقبل كل جديد بسهولة. حيث يرى معظم العامة أن المسرح فن التهريج والتنكيت وبالتالي يعتبرونه من الأعمال الهزلية الغير مفيدة ولا يليق الانشغال بها . وهنا يبرز دور وسائل الإعلام في التحسيس والتوعية بأهمية المسرح كفن راق وضروري لتنمية المجتمع.
العوائق المالية:
غياب الدعم المالي للفرق والجمعيات المهتمة بالمسرح مما ينعكس علي العمل المسرحي الوطني حيث أن الأعمال المسرحية تنجز بأقل القليل من الموارد المالية مع غياب تام لشركات الإنتاج الخصوصية في مجال المسرح مما يجعل المسرح الموريتاني مسرحا فقيرا ماديا والمنشغلون في الميدان يصرفون علي أعمالهم من جيوبهم وهذا ينعكس سلبا علي القيمة الفنية للعمل المسرحي ومع ذالك ما زال للخشبة مريدوها وللمسرح الموريتاني جنوده المجهولون الذين عشقوا المسرح ويرجون أن ينهض من سباته ليحقق طموحات محبيه ويمكننا أن نوجز طموحات المسرحيين الموريتانيين في يلي:
التطلعات والطموحات:
علي المستوي الإداري : أن تخصص وزارة الثقافة إدارة عامة لترقية الفنون وإيجاد مصلحة خاصة للمسرح مع ضرورة إنشاء فرقة وطنية للمسرح القومي.
ـ خلق مهرجانات وطنية للمسرح.
ـ دعم المشاركات الخارجية للفرق المسرحية الوطنية في التظاهرات الإقليمية والدولية.
ـ ضرورة دعم واستمرار المهرجان الوطني للمسرح المدرسي.
ـ تكريم رواد المسرح الوطني في التظاهرات الوطنية.
في مجال البنى التحتية:
ـ بناء مسرح وطني بالواصفات الفنية الدولية.
وفي مجال التكوين المستمر للكوادر المسرحية:
ضرورة افتتاح كلية للفنون الجميلة في جامعة انواكشوط أو معهد للفنون الجميلة يتوفر علي قسم للمسرح والفنون الدرامية.
ـ الاهتمام بالأنماط المسرحية الأخرى مثل المسرح التجريبي ومسرح الدمي والعرائس وخيال الظل.
وللإشارة فإن نشر الثقافة الفنية عموما والمسرحية خصوصا يتطلب تجهيز وبناء دور للشباب في جميع عواصم الولايات تتوفر علي قاعات للتدريب مع تكوين المنعشين علي أبجديات الإخراج المسرحي. من أجل أن يتجاوز المسرح الموريتاني أزمة التأسيس ويقف علي أرضية صلبة لكي يسهم في توعية الشعب الموريتاني العظيم وتقوية لحمته الوطنية انطلاقا من مقولة أعطني خبزا ومسرحا أعطيك شعبا مثقفا .
*** هوامش:
(1) محمد زكي العشماوي، مسرح بدون تاريخ، دار النهضة العربية – بيروت
(2) “المسرح الموريتاني وفضاء الميزاسيني” (جميل حمداوي)
(3) “المسرح الموريتاني بين حاء تهوي التميز وباء تطمح للتخصص” بونه ولد اميده
المخرج المسرحي والمفتش : إبراهيم ولد سمير