مسرحية:"الوهم" تأليف: د.منصور نعمان

المرأة 1 : مات الرجل وانتهى , ولن اقبل التعازي … لا تدهشوا (تتفرس بالجمهور ثم تبتسم) أتظنون أني مصدمة !! لا , لا , ولم افقد صوابي. المسالة ببساطة متناهية. كان موته نتيجة لم أتوقعها بل ويصعب بلوغها، ربما لأني يئست من موته (تبتسم ) لهذا فانا فرحة بموته, واذهب ابعد من ذلك, أريد الاحتفال بخلاصي منه، وهذه برقيات وفاكسات العزاء (تلوح بها في الفضاء) وصلتني من بقاع مختلفة، لست بحاجة لها (تتحرك المرأة، وكأنها تحاول لملمة أفكارها وماضيها). كان الرجل البغيض جلادي وسجاني وساحق بشريتي وكاتما لصوتي. أنتم لا تفهمون ما أقول، لكنها الحقيقة، ويا لمرارتها. جئتم معزين، من كل حدب وصوب، من المدن والقرى والقصبات النائية … لكنكم لم تفكروا ولو للحظة واحدة / صمت / أن الرجل لم يكن رجلا.
(لغط، تنهض المرأة 2 الجالسة وسط الجمهور داخل الصالة)
المرأة 2 : لم يمض على موته أسبوعا، وها أنت تهذين وتسيئين للرجل, زوجك ألم يكن زوجك؟
المرأة 1 : كنا زوجين , لكنا لا نشبه أي زوجين في العالم.
المرأة 2 : أكان زوجك أم لا !؟
المرأة 1 : رجل نصف رجل وزوج لا يشبه الأزواج الأسوياء .
المرأة 2 : يا للمرأة الجاحدة . تتنكرين للرجل بعد أن أعلن زواجه على الملأ
المرأة 1 : ( صمت ) لا اعرف إن كان زواجا شرعيا أم لا …
المرأة 2 : ( تضحك )
المرأة 1 : حدث كل شئ بطريقة سريعة, مباغتة , وغريبة …
المرأة 2 : لكنك كنت سعيدة بزواجك منه , أم تراني مخطئة !؟
المرأة 1 : كانت فكرة الزواج تسيطر علي … مثلما تسيطر على أي فتاة في سن المراهقة أو بعدها , فتاة , جرفها حب طائش , ولا تعرف أكثر من لحظة الحب (موسيقى مصاحبة للحوار) سمعت عن الرجل الكثير، وراحت مخيلتي ترسم صورته وقلبي يهفو إليه وصرت أتسقط أخباره من هنا وهناك , حتى فاض قلبي حبا وفتنة بالرجل، وما إن رأيته، حتى وجدت كل شيء منه ينطق بالرجولة والصلابة والقوة. حتى أصابع يديه كانت تنطق بالحق والعدل والكرامة, وكنت كطفلة تتلذذ برؤيته, وهو يحنو برفق ويمسد على رؤوس الأطفال … أفكر بالرجل، ويوم طلبني للزواج , طرت فرحا ووافقت ويا ليتني لم أوافق .
المرأة 2 : وسافرت معه … إلى عالم آخر
المرأة 1 : كان عالما جديدا علي , ولم يكن جديدا عليه … صدقوني , كان كل شىء معد سلفا .
المرأة 2 : وما الضرر في ذلك … أليس الزوج من يعد حفل الزواج !؟
المرأة 1 : بلى , لكن لم يكن زواجا . كان مشهدا أخرجه الرجل مع أناس لم أراهم بعدها .
المرأة 2 : إذا كان زواجا حقيقيا
المرأة 1 : كل شيء يبدو حقيقيا ..الرجل، الناس، المهنئين، القاضي، الشهود، فستان الزفاف، بدلته الراقية، الفندق، الخدم، باقات الزهور، برقيات التهنئة، كل شيء يبدو حقيقيا , إلا من عقد الزواج الذي لم أراه حتى اليوم… كنت بطلت الحفل، البطلة المغفلة فيه ( تبكى بصمت)
المرأة 2 : يالدموع التماسيح , أهداك كل شيء ثرائه، تاريخه، بطولاته، ووضع بين يديك خدمه وأمواله، فماذا تريدين من الرجل؟
المرأة 1 : حريتي …
المرأة 2 : ألم يكن عطيلك ؟
المرأة 1 : لا … لم يكن غيورا  وإنما فاجرا، لم يكن وسيما وإنما كان بشعا، لم يكن رؤوفا وإنما كان قاسيا. وشيئا بعد آخر، راحت صورته الأولى تمحى، وتتشكل صورته الحقيقية، ويوما بعد آخر، راحت رائحته تزداد تقززا. تشمئز منها النفس، وكنت اصبر نفسي بين الشهقة والشهقة وأقول .. يارب … أما يأتي يوما للخلاص .
المرأة 2 : لم يؤذيك . أليس كذلك ؟ كوني صادقة …
المرأة 1 : ليته فعل
المرأة 2 : (تصفر) امرأة غريبة الأطوار … أيعقل أن تمني المرأة نفسها بان تضرب كالحيوان!! شيء عجب.
المرأة 1 🙁 تتفرس بالوجوه وهي تغوص بأعماقهم) لن تصدقوني … لا أحد … لا أحد يستطيع مشاطرتي الرأي… كلكم يعرف الرجل .. الغني، السخي، الوديع، الرحيم، القوي … كلكم عرفتم ما أراد أن تعرفوه، لكني الوحيدة التي اعرف ما لا يريد أن تعرفوه
المرأة 2 : كلام … كلام … كلام !!
المرأة 1 : كان بارعا بتعذيبي من غير أن يمسني … ويدوسني مثل حشرة من غير أن يلوث نعل حذائه.
المرأة 2 : (تضحك ) كيف !؟ أيعقل !؟ أيصدق ما تقولين يا امرأة !؟
المرأة 1 : مرة، جمعت كل قوتي … وكل ما املك من جرأة وتحدي وتقدمت نحوه وكان جالسا هناك، على الكرسي، يمتص سكارته بهدوء (تتحرك صوب الكرسي وتجلس) وكنت أقف حيث تقفين
المرأة 2 : وماذا قلت أيتها البطلة !؟
المرأة 1 : أريد الطلاق، لم نعد كما كنا، فاخلي سبيلي وابحث عن زوجة أخرى
المرأة 2 : ووافق
المرأة 1 : لم يقل كلمة، فأعدت الكلام من جديد
المراة 2 : وصفعك إذا
المرأة 1 : لا …
المرأة 2 : تركك تتكلمين
المرأة 1 : لا …
المرأة 2 : قبلك
المرأة 1 : لا …
المرأة 2 : ماذا حدث إذا !؟
المرأة 1 : (تسحب المرأة البندقية وتطلق النار على المرأة 2 التي تفزع وتتحرك في أكثر من مكان داخل الصالة وهي تصرخ )
المرأة 2 : مجنونة … مجنونة … مجنونة … أوقفوها … ستقتلني (تتوقف المرأة 1 عن إطلاق النار ولم تزل البندقية موجهة صوب الجمهور، صمت … وبهدوء تضع البندقية جانبا متكئة عليها ثم تجلس على ركبتيها, وتنخرط ببكاء مرير, ثم تسجد مقبلة للأرض وترفع رأسها وكفيها بهدوء للدعاء)
المرأة 2 : لم تذكري الحقيقة بل نصفها أو لأقل ما ترينه حسب
المرأة 1 : وما الحقيقة !؟
المرأة 2 : انقاذك … ألم ينقذك من الهلاك والضياع والجوع والفقر !؟
المرأة 1 : أيموت الإنسان من الفقر؟ لا … لأننا جميعا فقراء أمام الله , لكن يموت من تكبل حريته , من تمتهن كرامته , من يساق كالنعاج إلى المسالخ لينزع منه جلد الحقيقة.
المرأة 2 : ونسيتي …
المرأة 1 : وما نسيت، إلا ما ذكرت … وما اذكره، الألم والحزن والضياع … رغم بهجتي بيوم موته , لكنها طالت ونزعت من عمري سنينا بلون الشمس .
المرأة 2 : ( تضحك ) مدهشة، امرأة مثلك , امتطتها الأيام مثلما يمتطي البدوي جمله .
المرأة 1 : لم تكرهينني ؟
المرأة 2 : ولم احبك !؟
المرأة 1 : أنا من يسأل !
المرأة 2 : وأنا من يريد جوابا
المرأة 1 : لا أفهمك
المرأة 2 : لكنك تذكرين
المرأة 1 : ما الذي نسيته !؟
المرأة 2 : تاريخك … زمنك الماضي
المرأة 1 : ليس لي ماض، كل لحظة هي الآن، الماضي نفسه يعيش الآن، فما التاريخ غير الآن
المرأة 2 : وغريمتك بالرجل !
المرأة 1 : (تبحلق بالمرأة 2 , فترة صمت وتصرخ ) أنت … أأنت ؟ أبعد كل هذه السنين الطويلة تعودين , لم آراك منذ أن (تضحك بقوة ) يا الهي، يا للمفاجأة الغريبة (بود عال) اتذكرين … كنا جارتين أو طفلتين وقعتا بحب الرجل (تضحك) كلانا كان يتمتع بحماقاته وغباوته … لم نفهم الحياة بل ولا نرى أبعد من ظلنا لكنك لم تتغيري كثيرا
المرأة 2 : (تضحك )
المرأة 1 : أسعيدة !؟
المرأة 2 : غرة ومغرورة
المرأة 1 : فرحة بأحزاني وسلال آلامي
المرأة 2 : (تضحك بطريقة مستفزة)
المرأة 1 : لم تضحكين؟ لقد مات الرجل
المرأة 2 : لا لهذا السبب وإنما لأني أفكر
المرأة 1 : ومن منا لا يفكر
المرأة 2 : أنت … الجميلة، الساحرة، الفاتنة، حولتها الأيام لقشة تطيرك الأهواء،  وتغريك المفاتن والأحلام الفاسدة
المرأة 1 : لا تسخري , فللأحزان جلالها
المرأة 2 : أليس من حقي التمتع بانتصاري !؟
المرأة 1 : عن أي انتصار تتحدثين !؟ لم اعد أفهمك ؟ من الخاسر ومن المنتصر؟ كلنا خاسر
المرأة 2 : لكنه لم يسحقني مثل دودة الأرض، ولم يهشمني مثل المرآة، ولم يقطع علي أحلامي أو يفسدها، بقيت متألقة، ساحرة يتغنى الشعراء بجمالها. أما أنت فقد همشتي، لم يعد لك صوت ولا متطلع فضولي حتى الجالسون ها هنا ينتظرون لحظة موتك، وموتك وحياتك لم يعودا قضية . أما أنا فإن العالم يختلف معي
المرأة 1 : أولدنا لنختلف مع العالم ؟
المرأة 2 : لا … ليختلف العالم عنا
المرأة 1 : وما الفرق ؟
المرأة 2 : فيها الثابت والمتغير وأنا في العالم
المرأة 1 : لأنك فشلت معه … لم تناليه . لأن الرجل أعجب بي و …
المرأة 2 : (تضحك) أكملي … لم سكت ! وتزوجك (تضحك) للسخرية
المرأة 1 : وأنت أكثر من غيرك يدرك الحقيقة
المرأة 2 : ومن قال أن ما حدث هو الحقيقة … !! (تضحك)
المرأة 1 : أنت … يا أنت … يا غريمتي … ومشاكاتي … أجيبي , ما حقيقة الحقيقة
المرأة 2 : اللاحقيقة …
المرأة 1 : تعسا للعالم والحياة … ما الذي جاء بك اليوم … قلت لا أريد تعزية من أحد
المرأة 2 : لم آت لأعزي
المرأة 1 : ولا أقبل حتى تهنئتك
المرأة 2 : ولا جئت لأهنئك
المرأة 1 : يا عجبي … !! أجئت تتفرجين علي، تتمتعين بعذابي، ها … ما الذي دفعك بعد غيبة السنين
المرأة 2 : جئت لأعريك , لأكشف لك وهم الحياة، للكذبة المحببة، لفكرة انتصارك المجنونة، وفكرة هيمنتك على قلب رجل اخترته لك
المرأة 1 : اخترته لي !!
المرأة 2 : أرأيت … كيف يكون الانتصار، اخترته لك، وناصبتك العداء عليه، لأجعلك أكثر إيمانا بما اخترته،  لتعيشي إحساس كاذب بالانتصار، بالنشوة، والفوز والفرحة والاندفاع (تضحك بطريقة متخابثة)
المرأة 1 : كيف …؟ كيف حدث هذا الأمر … !؟
المرأة 2 : لم أحب الرجل إطلاقا، ولم أحبك رغم كوني صديقتك، ولأني أعرفه، وجدت فيه عريسا ملائما لصلفك، لتحديك، لعنجهيتك،  وكان خير انتقام
المرأة 1: تخططين لكل شيء
المرأة 2 : أجل
المرأة 1 : أ منذ كنت صبية؟
المرأة 2 : ومن عاش صباه … فجأة وجدت نفسي من بين اللاشيء انبثقت … بين اللاماضي واللامستقبل ولدت … لم اعش طفولة كغيري ولا حياة تشبه حياة , كنت كمن يلبس قميص غيره فلا يكون أبدا على مقاسه ويظل يحس بفقره وغنى الآخرين وعشت جارة لك ولم تحس أبدا بالحطام الذي أحياه وبالجوع الذي ينهش أحشائي … عشت مثل كلبة سائبة , ضائعة تلقط فتات الطعام المتروك من قمامة بيتك …
المرأة 1 : لم أفهمك !
المرأة 2 : ولم تفهميني، لأنك لم تجوعي يوما, فسلتك مليئة بالخضار, ولم ترتجفي لأن سقف بيتك قويا, أما من لا مال لديه, ولا مأوى يقيه البرد والحر, فالويل كل الويل له, فكلما تألمت, ازدادت كراهيتي لك, وكلما ازددت ألما وصرخت وتوجعت اشتعل الحنق في نفسي لأن لهفتي للحياة أكبر رغم الجوع والألم وأنت لا تحسين بشيء (لحظة صمت كلاهما تنظر للأخرى . المرأة 2 تبصق عليها ).
المرأة 1 : (تسحب خنجرا وتحاول طعن المرأة 2 ) يحق لي قتلك
المرأة 2 : (تخلص نفسها) نعم يحق لك … لكن, سلي نفسك كم مرة قتلتني؟
المرأة 1 : (تنزع الخنجر المنغرس في الطاولة) وبغير خنجر ( ترتجف المرأة 1, وكل شيء في جسدها يتحرك على ضربات رق, ترقص ويتلوى جسدها عذابا. تتوقف تشخص بعيني امرأة ميتة مواجهة للجمهور) كان رجل مخصيا (الموسيقى تضج في المسرح … والمرأة 1 تتحرك –وكأنها تبحث عن شيء, عن معنى, عن كلمة, تتوقف, وتهدأ الموسيقى ) يوم عرفت حقيقته, انزلني في العدم في قبو لا اعرف فيه الليل من النهار ولا الأيام, عشت بين جدران القبو الخرسانية بصمت يشبه صمت القبور، في وحدة قاتلة ورطوبة مدمرة, ومضيت الساعات والأيام والشهور لست ادري كم أمضيت من الوقت, لكني أدركت فقداني للإحساس بالحياة ولم يعد لي أمل, إلا من قرد صغير انزله الخدم بأمر منه ليسليني في عزلتي, وصار القرد كل العالم, وبدأت أتعلم من القرد بدلا من تعليمه, صرت اكرر حركاته, سكتاته, أصواته, وتدريجيا فقدت قدرة الكلام … كان صديقي القرد وديعا, مسالما, فأحببته كقبس في لحظة العدم
المرأة 2 : ولم تموتي !؟
المرأة 1 : لم يكن شيء لأحرر الروح من سجن الجسد, حتى أخرجت من القبو مع قردي (المرأة 1 تتحرك في فضاء المسرح مع قردها, مقلدة حركاته وأصواته التي يطلقها وهي جزلة يختفي القرد, وكأنها تضمه إلى صدرها) أنست قردي الجميل بعد أن لفني بعباءة البراءة وقاسمني حبات النخالة في صحن واحد في القبو, وهذا ما استفز الرجل, وايقض عدوانيته المرعبة, حبي لرقة القرد ورفقتي إليه اشعلت نار مارس, فقادني وكان القرد متعلقا على كتفي إلى مكان غريب في الدار … لم يكن قبوا, وإنما شرفة … وتطلعت إلى الأرض, من الأعلى فوجدت كلاب الصيد الجائعة والنابحة الموضوعة في قفص كبير, دهشت, وأنا أراقب الكلاب المستشرسة من الجوع لتطع الرجل, وتوقعت أن يقذف بي للكلاب, إن كان الموت خلاصا, فأغمضت عيني بانتظار أن أدفع من الشرفة فأموت (تصرخ بغتة) فجأة أحسست بالقرد ينتزع من كتفي ويقذفه الرجل للكلاب, وانتظرت بلوغ اللحظة التي استطالت وتجمد فيها دمي وكنت انتظر خلاصي التي انهالت عليه بأنيابها تنهش جلده وتسلخه وتمزقه وصوت القرد يتقطع من الألم … كان مشهدا مروعا, لكنى لم أشح بوجهي لم اذرف الدمع ولم اصرخ أو احتج, لكني أحسست بقدمي صارتا كالسعفتين, وأن جسدي صار اخف والدم قد تبخر منه, وأن روحي تندلق من أحشائي حتى تقيأتها (صمت) لم اشعر بعدها بشيء غير لون العدم الرمادي قد غشا عيني وسبحت به إلى لا أدرى أين …
المرأة 2 : ألم تسالي ؟
المرأة 1 : أسال من ؟
المرأة 2 : خادمك
المرأة 1 : كان أبكما … بل أن الخدم أجمعهم بكم
المرأة 2 : وحارسك
المرأة 1 : كان كل الحرس خرس
المرأة 2 : والبواب
المرأة 1 : كان مثل الكل مخصيا
المرأة 2 : أيعقل ما تقولينه
المرأة 1 : عشت في عالم غريب, ولم يعد لي شيء على الإطلاق, غير حفنة من أمال شبيهة بالسراب
المرأة 2 : خططتي إذا
المرأة 1 : بعد أن فقت, خططت للفرار … في الغبش تسللت من النافذة, بعد أن أوثقت حبلا ونزلت للحديقة, وهنا أسرعت وقلبي يرتجف هلعا وخوفا من الحرس, الكاميرا, أجهزة الإنذار, وتسلقت السور واجتزت الدار مبتعدة, وسمعت خلفي ضجة الأصوات, وزعيق جهاز الإنذار, وحزم الضوء تبحث عن وجودي وأخيرا رشقات الرصاص التي أضاءت وحشة اللحظة. ولم أكن أعرف أين اتجه, لا أعرف طريقا, ولا بشرا, ووجدت نفسي في عالم آخر أشد اغترابا من غربتي, حتى لمحت بيتا, بابه مواربة بسرعة. فوجدت نفسي متعثرة وتدحرجت ساقطة على الأرض وارتطم رأسي بحذاء رجل مسن, ورفعت عيني لأراه, لكني لم استطع قول شيء, غير الدموع النافرة من المقلتين, لكنه أومأ بهز رأسه فاطمأنت نفسي فأغمضت عيني
المرأة 2 : لكنك عدت بإرادتك للرجل
المرأة 1 : بل دون إرادة مني …
المرأة 2 : لكنك نجحت بالهرب أم القصة أبدعها خيالك !
المرأة 1 : ما كنت اعرف أني في الوقت الذي أهرب فيه من الرجل أعود إليه
المرأة 2 : يا للكلمات المتقاطعة !! ألم يستجب العجوز المسن لرجائك
المرأة 1 : حملني العجوز ووضعني على السرير ودثرني
المرأة 2 : وبعد … بعد كل هذه التفاصيل … لم عدت للرجل أن كنت تفرين منه حقا ؟
المرأة 1 : عندما فتحت عيني … وجدت نفسي في البيت الذي فررت منه, ووجدت الرجل واقفا بهدوء مبتسما, بينما العجوز المسن ينحني له منسحبا, فأدركت أنه أحد رجاله في المدينة
المرأة 2 : (تضحك ) أنا أدهش لماذا لم يفكر بقتلك ؟
المرأة 1 : لأنه كان بحاجة ليثبت أنه رجل
المرأة 2 : لكنك خطرة عليه
المرأة 1 : لهذا بدأت اسمع طنين
المرأة 2 : طنين …!
المرأة 1 : طوال الوقت هناك طنين … ” يبدأ الطنين بالازدياد تدريجيا حتى يطغى على الحوار ” في كل مكان وزاوية , طنين من اعلى واسفل ومن الجهات كلها , طنين من الابواب والشبابيك , من الشراشف طنين في لقمة الخبز وحبات الماء طنين , بشع يزداد … طنين يسيطر على الاشياء , يتصاعد , يدوي , يدمر طنين يصعق وجودي , طنين يدفع للجنون وحافاته … طنين يفقدني الاحساس بالادمية … طنين يمسح وجودي ” المرأة تهز رأسها متماشية مع ايقاع الطنين الذي صار يطغي ويدوي في الصالة ”
المرأة 2 : ألم يرأف بحالك …
المرأة 1 : كان سعيدا لاني مصدر تسليته , رجولته المقطوعة , وانموذجا للحطام البشري , وحين يحب رؤيتي , اسحب اليه مثل نعجة مضافا اليها القيد , وحين يراني يبتسم , بتلك الوداعة المخادعة ويقول : قيدك اجمل اسوارك كنت اقف صاغرة وهو يضغط على ازرار الهاتف النقال او يداعب جهاز الانترنت وحينا يسلي نفسه بالفضائيات , وهو يتحدث باستمرار ويدهش لخراب العالم وكيف لا يعرفون الحقيقة الواضحة , ويروا ذكاء البشرية مجسدا فيه وعلي ان اؤكد ذلك ولا انفيه …
المرأة 2 : وتسمعين !!
المرأة 1 : تعلمت أن اسمعه, ومثل الببغاء أكرر ما يقول, أو ما يريد سماعه, وصرت مع الأيام كومة من اللحم والعظم ولا أرى إلا ما يراه وتسليته المحببة مثل جرو صغير يهز بذيله فارتقيت إلى دمية ميتة مستباحة لنزفه ونزواته فلم أعد أرفض أو احتج أو أتذمر أو أصرخ تمسك بالبقايا الصغيرة من أدميتي المسحوقة .
المرأة 2 : كاذبة … كنت تظهرين معه في الحفلات
المرأة 1 : كدمية
المرأة 2 : وتبدين سعيدة …
المرأة 1 : كجزء من احتفاله
المرأة 2 : وقوية
المرأة 1 : تعبير عن وجوده
المرأة 2 : كنت شيئا
المرأة 1 : لأني لاشيء, لاشيء, كائن بشري ممسوخ منزوع الإرادة, يتوق للخلاص للرجاء الذي لم يعد يحس
المرأة 2 : ولم تفكري بقتله …
المرأة 1 : لا أنكر أني فكرت …
المرأة 2 : وقتله
المرأة 1 : لا …
المرأة 2 : ألم تقولي فكرت
المرأة 1 : بلى, لا لمرة واحدة … لا … مئات المرات … آلاف المرات, لكنها فكرة مرجأة مكتوب لها الانهيار … ولم تتحقق …
المرأة 2 : أما فعلت شيئا
المرأة 1 : لا …
المرأة 2 : ولماذا ؟
المرأة 1 : لأن الكل يراقبني  الحرس, الخدم, البواب … حتى الأشياء ترقب, السرير الذي أنام فيه يرقبني, النافذة ترقبني … حتى الطعام فيه ما يجعلني مراقبة لهذا السبب, كنت أعرف أن أي شيء سيكشف … وأن كشف الأمر, فلن يقتلني, لا , سيرجعني إما للقبو أو يتركني سجينة الطنين .
المرأة 2 : مات الرجل … أليس كذلك !؟ مات بعد أن فكرت … مات الرجل, فأطلقت الحرس والخدم والبواب … لماذا !؟
المرأة 1 : لست بحاجة لهم …
المرأة 2 : لتتخلصي من الشهود …
المرأة 1 : عن أي شيء تتكلمين !؟
المرأة 2 : الجريمة …
المرأة 1 : أية جريمة !؟
المرأة 2 : قتلك للرجل …
المرأة 1 : لا … لم اقتله …
المرأة 2 : وكيف مات إذا
المرأة 1 : كان جالسا على كرسيه, يرتشق قهوته, فجأة, جحظت عيناه وتوقفت أنفاسه, واسقط من يده فنجان القهوة
المرأة 2 : وأين كنت ؟
المرأة 1 : هنا , قريبة منه , ودهشت للبساطة التي مات فيها , ظللت انظر اليه , ولا اعرف ما افعل , لكن الجسد ظل متصلبا والعينين مفتوحتين , وجاء الحرس , وحملوه خارجا ليدفنوه , وبقيت وحدي
المرأة 2 : ولم تحضري دفنه
المرأة 1 : احضر دفنه …!! أمجنونة … لم اصدق أني تخلصت منه, لم يمت هو فحسب, بل مات سجني وتشردي وضياعي, ومات الخوف معه … مات الماضي القريب, مات الجرح وإن بقت ندبة تلطخ تاريخ جسدي … مات فتقطعت قيودي … مات فنلت حريتي, وعاد لي صوتي ولم يعد لي قيدا, فصرخت بكل البكم والخرس فوجئت بالفاكسات والبرقيات, فقررت أن أعلن رفضي للعزاء.
المرأة 2 : لكنك تمنيت قتله, لا تنس ذلك
المرأة 1 : أبدا, ولو ملكت القوة لفعلت
المرأة 2 : ( تضحك)
المرأة 1 : اضحكي … لم يعد بيننا شيء يذكر, فقد مات الرجل
المرأة 2 : أحقا !!
المرأة 1 : طبعا … مات … رأيته يموت, والكل جاء ليعزي, وأعلنت لهم رفضي قبول العزاء فيه
المرأة 2 : (تضحك) لم يمت
المرأة 1 : أمجنونة … أنا من يقول أنه مات, لا أنت, ما أدراك …
المرأة 2 : أنا اعرف أكثر منك … إنه حي …
المرأة 1 : حي …!
المرأة 2 : لم يزل يتنفس الهواء … وقد طلب مني الحضور, وأشهد عزائه وأعريك أمام الملأ
المرأة 1 : يا لك من مجنونة
المرأة 2 : والرجل في طريقه إلينا
المرأة 1 : ماذا !؟ ومن مات إذا !؟
المرأة 2 : لا أحد … كان مشهدا شبيها بمشهد الزواج … معدا لك, وهما من الأوهام التي عشت فيها, وكان يرقبك, حتى خدمك وحرسك يعرفون ذلك … وبقيت المغفلة من جديد .
 
(يبدأ الطنين بالتصاعد تدريجيا وتأخذ المرأة 1 بالتجمد والتلاشي وتسمع أصوات مؤثرات صوتية صارخة وزاعقة وكأنها أصوات طائرات حربية في الوقت الذي تقذف فيه كرات كبيرة الحجم من مختلف الاتجاهات وبإعداد كبيرة صوب المرأة التي تتلاشى وكأنها تذوب بين الأشياء ويطغي الطنين من جديد).
                                                          انتهت
 
د.منصور نعمان (2003/ طرابلس)
النقال:009647706405502
البريد الاكتروني:mansoorr54@yahoo.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت