البطل والبطل المناوئ في مسرحية هاملت/ د.منصور نعمان
رغم عاديات الزمن بقيت مسرحية (هاملت) التي كتبها (شكسبير) خالدة على مر العصور وتشكل محطة من محطات التأمل الخصب، وفيها ما يثير ويحفز قراءة النص أو تقديمه عرضا مسرحيا. وشخصية (هاملت) الشاب دارس الفلسفة يقف وجها لوجه أمام الموت الذي حل بأبيه، مما يدفعه للبحث عن ماهية الكينونة البشرية، وما أصابها من ذل وعار ومهانة إثر مقتل أبيه على يد عمه (كلوديوس).
إن الطابع الفني لجمالية حبكة النص التي بلور فيها (شكسبير) مفهومه الكوني لا لعصره وما إنتابه حسب، إنما تقدم برؤيته مستبقاً عصره، متجلياً بنحت أنموذج راقٍ للتأمل ومحاولة فهم العالم وحركته وخلجات النفس البشرية وما يعتمل فيها من اضطرابات وصخب. إلا أن عقل (هاملت) كان المحور في استقراء المحيط والأبطال المناوئين له، فكان التفكير المستمر، شكلاً من أشكال التعبير عن التأمل والانفراد بالذات ومخاطبتها بحثاً عن حقيقة غائبة أو فكرة في طور السيرورة، إن هذه المسألة طرحت في حوار هاملت وتحديداً في مشهد الكينونة (أكون أو لا أكون) إن خيمة التفكير والسواد والحزن الشفاف الذي لف (هاملت) طيلة أيام، وانعزاله عن حالة الفرح والصخب، هذا الأمر دفع الشخصيات الأخرى إلى اتهامه بالجنون، وما هي إلا قناع آخر للتأمل، أسوة بأقنعة الآخرين المموهين للحقيقة، إلا أن قناع (هاملت) هو لاكتشاف الغامض والغوص في لجته، رغم حوار (الشبح) الصريح معه، لكن الطابع الفريد لشخصية منسوجة على التأمل، لا تكتفي بسماع الحقائق حسب، وإنما تمحيصها وما يلمسه فعلاً ويدركه فعلاً، إنما يكون الحقيقة، على العكس من شخصيات أخرى، فقد تأتيهم المعارف والمعلومات، يسمعونها لكنهم لا يتخذون موقفاً إزاء ما يحصل لهم، (هاملت) يبحث بنفسه، ويجتهد أن يعيد تنظيم العالم، بوضع إستراتيجية جديدة، القصد منها إيقاف إستراتيجية (العم – كلوديوس).
إن البرامج التي يعدها البطل، إنما تأتي تعبيراً عن جوهر التفكير الاستقرائي، وبهذه الصيغة أعاد كتابة حوار المسرحية داخل مسرحية، وراح يلقن الممثلين كيفية الأداء التمثيلي، باختصار أخذ يلملم أطراف الحوار بين الممثلين من أجل الوصول إلى الحقيقة. ويدهش (هاملت) عندما يرى الممثل وقد بلغ به الانفعال مبلغاً عظيماً بينما هو ليس بقادر على الغضب. إلا أن إستراتيجية (هاملت) العقل وديمومة التفكير هي التي شكلت ديدناً في أس وجوده. فالانفعالات ما هي إلا لحظات تنفجر، ليهدأ كل شيء، ويبقى الوضع على ما هو عليه وكأن شيئاً لم يحدث ولن يحدث. في القصر المشيد على الدسائس والخيانات والمؤامرات، وهذا ما يحطم وجوده البشري، ولهاملت شعور ودائرة من العلاقات المرتبطة بأبيه وحبه له و (أوفيليا) الرقيقة التي ارتبط بشفافيتها التي سرعان ما غدرت به، فأصبحت الواشية عن هاملت التابعة لأبيها، مبررة ذلك بالواجب لا بالرغبة، وبذلك تقطعت سبل الحياة بوئام مع من يحب هاملت، (فهاملت الأب) قتل بخيانة كما صرح الشبح بذلك والحبيبة انتهكت عهد الحب بالولاء لأبيها (بولونيوس) وبدوره كان بيدقاً بيد الملك (كلوديوس) إن دائرة العلاقات التي تحرك القصر، أضحت ملوثة والشخصيات تمكر وتغدر، كما فعل (بولونيوس) باختبائه بغرفة الملكة خشية (هاملت) واندفاعه الجارف بعد مشهد المسرحية داخل مسرحية، أي بعد أن تجلت صورة الملك (كلوديوس) بكونه قاتل أخيه، ولم يستطع إكمال المسرحية، فصاح وارتجف وغضب و أوقف العرض المسرحي الذي عراه، وأصبحت حقيقة جريمته واضحة ومعلنة للعيان وكما وردت على لسان (الشبح) ويلاحظ أن اندفاع هاملت الصاروخ لا يشبه حالة التأمل فالحقيقة أضحت ناصعة، لا لبس فيها ولا مجال للشك، بأن عمه قاتل وأن أمه خائنة، وكاد يجهز عليها في مخدعها لولا ظهور (الشبح) من جديد ومنعه لهاملت أن يقترف خطيئة قتلها وإنما تترك لمصيرها.
إن إستراتيجية (هاملت) تواجه بقوة إستراتيجية (كلوديوس) وكلاهما يحرك محيطه من أجل تحقيق ذات البطل، و(هاملت) لا يمثل شخصه حسب، وإنما يمثل ذات جمعية بأفق واسع، إنه يعبر عن روح العصر الذي يحياه ويليه، فالبحث عن حقيقة الوجود وكينونة الإنسان في عالم يتلاطم ويتصارخ ويكشف عن سلسلة جرائم متنوعة وغريبة، إن إماطة اللثام عن هذه الحياة المزرية تدريجياً، عزز من موقف هاملت، بوصفه متأمل عصره وكاشفاً عن تطلعات الثواب والعقاب، كما حدث بعد الانتهاء من مسرحية داخل مسرحية، وإذ بعمه راكع يصلي وقد واتته فرصة الإجهاز على عدوه اللدود، لكن تأمل (هاملت) العقلي أوصله إلى نتيجة، فإن قتله وهو يصلي سيدخله للجنة بينما (هاملت) أراد له جهنم، لهذا السبب يتركه (هاملت) منتظراً فرصة أخرى ليجهز عليه. إن تأملات هاملت، تعدت الحياة وراحت تبحث في السماوي أيضاً. إن انفتاح التفكير والعقل المستنير، شكل ثورة تسري في تحطيم برامج البطل المناوئ، فكل خطة تواجه بخطة وصولاً إلى المبارزة، وما تم تدبيره ليقتل (لايرتس) بسيف مسموم غريمه (هاملت) وتلك كانت ضمن إستراتيجية (الملك) للتخلص من (هاملت) فضلاً على كأس السم.. وتنتهي الأحداث. وإذ بالبطلة تموت وأمه وعمه وبالتالي، يسدل الستار على عالم عاج بالخراب، فهاملت استطاع جرجرة ولملمة وزج كل الإطراف وضمها بقوة لتياره بعد أن أدرك بعمق، فساد هذا العالم وخرابه.
تجدر الإشارة إلى أن طابع الشخصية المتأملة من الناحية الفنية لا يشكل حراكاً للأحداث، إلا في مسرحية (هاملت)، فالحراك يتوقف على ديمومة التأمل واستشرائه والبحث عن اليقين الذي ضاعت ملامحه وأضحى طلسماً، وكأن (شكسبير) عبر عن روح عصر النهضة برمته، فالماضي لم يعد مصدر ثقة البشر، وتجلى ذلك في القطيعة معه، فتطلعات الإنسان انفصلت عن الموروث الذي تعاقب قروناً طويلة، والتطورات ساهمت بتغيير صياغة التفكير بما يحيط الإنسان، إلا أن إشكالية إنسان تلك الحقبة التاريخية، انه يجهل المستقبل بعد أن أداروا ظهورهم للماضي، فالمستقبل أصبح شكلاً من أشكال المجهول الذي يحمل العجيب والغرائبي والمدهش وغير المتوقع. إن آلية اشتغال البطل واستماتته من أجل بلوغ الحقيقة، مثلت عصراً بعينه، وبذاك كانت مسرحية (هاملت) نواة عصرها وجوهرته. لكن المدهش، أن النص كشف عن عمق آخر، بشري كونها صاغت التطلعات البشرية لعصور لاحقة، فهاملت البطل اختزل المشروع البشري في أفعاله وبذلك صار عصارة التفكير المستحب في البحث والتنقيب وبالتالي الكشف عن الحقيقة وإعادة صياغة العالم. وبذلك نمت شخصية هاملت في عصرها وما لحقه باعتباره صورة كونية، على الرغم من كونه يحيا في عالم صلب وترسانة من الجرائم والدسائس، وعليه فان البطل كان يحمل الكثير في جنباته ما يجعله مشروعاً لإستراتيجية أفكار عصور وحقب لاحقة، وبذلك ضمت عباءة هاملت المتأمل والمستوحد، أفكاراً لاحقة ستبنرغ، أو في طريقها للتكون ويضمها في تموجات تأملاته التي اتسعت وشملت كل ما يطرأ على الحياة الإنسانية من تغيرات. وبذلك فإن صورة (هاملت) تكبر وتتسع لتضم اللاحق في طور تكونه ووجوده.