فارس الرومانسية .. ابن زمن الزهو والانكسار / د. حسن عطية

 

د. حسن عطية المكرم مسرحيا .. يكتب عن محمود ياسين المكرم سينمائيا

 

 

هو نموذج للممثل الإقليمى الذى أقتحم العاصمة ليثبت وجوده بفضاء مسارحها وشاشات سينماتها وأثير إذاعتها ، وهو أيضا نموذج لممثل الجامعة الذى درب نفسه وسط جمهور متجانس العمر والتعليم ، ليدلف منه لجمهور النخبة المثقفة فى المسرح القومى والطليعة ، ومنه للجمهور العام فى السينما والمسرح والتليفزيون ، وهو نموذج للممثل الذي لم يعتمد فقط على موهبته ، ولم يغفل عن الدراسة الأكاديمية ، فأصر على أن يصقل موهبته بحرفية الأداء وتقنيات التمثيل ، ويدعم ثقافته بفنون الآداب المصرية والعربية والعالمية .

وهو فوق ذلك نموذج لجيل عايش زمنا شديد التغير على أرض وطنه ، ولد فى أتون الحرب العالمية الثانية (1941) ، وأدرك العالم وثورة يوليو (1952) تتفجر وتغير تاريخ بلاده ، ونما وعيه مع تحقيق العدل الاجتماعي بتوزيع فدادين خمسة على الفلاحين المعدمين، وفرحت روحه بانتصار مدينته بورسعيد الباسلة فى حرب الوطن ضد الغزاة الثلاثة (1956)، وتعلق قلبه بحلم الوحدة العربية الذى تحقق مع سوريا (1958)، مع بناء السد العالى (1960) وفرحة التصنيع الثقيل وخطط التنمية وصعود مجد طبقته الاجتماعية المتوسطة بالعلم والمعرفة، وتألق المسرح فى ستينيات المجد وبناء القطاع العام وإنجازه سينمائيا أرقى منجز سينمائى فى زمنه، سعد به جيله وعبر عن طموحاته من خلاله، ثم سرعان ما انكسر فؤاده مع هزيمة 67 ، غير أنه قاوم ودخل فى حرب استنزاف بأغنية الفداء على الممر، ووقف ينادى بالحرية والعدل، ويفجر الشارع حتى قامت حرب 73 لتعيد له أرضه التى سرقت منه فى غفلة من الزمن، حتى وأن لم تكن كاملة الحماية، غير أن الانفتاح أدخلت مجتمعه فى نفق مظلم خلخل طبقته المتوسطة الصاعدة بالعلم، وسيد أنماط الفهلوة والسرقة والفساد الذى أصبح “للركب”، فقاوم ثمانينيات التقهقر بسينما واقعية ناقدة لسلبيات الواقع ونظامه، ووقف ضد تخلخل تسعينيات الإرهاب الملتحف بأردية دينية بمسلسلات دينية واجتماعية جديرة بالاحترام، وحاول فى العقد الأول من القرن الحالي الصمود واثبات الذات الطموح، ليجد نفسه مع بداية العقد الثانى مواجها عقوق الأبناء، ومتهما بالعجز والخرف، ومقذوفا خارج الكادر، ومطالبا بالصمت الممتد فقد أنكسر حلمه وضاعت سنوات الزهو  التى تشكك فى حقيقته زمن مغاير .

** نادى المسرح:

إنه ابن بورسعيد “محمود فؤاد محمود ياسين”، الذى عايش بسالة مدينته الرائعة، واجتذبه فيها عالم المسرح من خلال فرقة رائد المسرح البورسعيدى “نصر الدين الغريب”، وأنشطة نوادى (رمسيس) و(الخريجين) و(المعلمين) وأشهرها (نادى المسرح) الذى أشرف عليه ودعمه المحامى الكبير “محمد حسن رشدى”، صهر الكاتب البورسعيدى الشهير وكاتب بعض سيناريوهات أفلام “محمد عبد الوهاب”،  الكاتب “عباس علام”، وعمل عليه وبقية النوادى أبناء بورسعيد “محسن سرحان” و”ملك الجمل” ثم المخرج المعروف “سمير العصفورى” والمخرج الإقليمي “عباس أحمد” ومخرج مسرح الطليعة “السيد طليب” والأستاذ الأكاديمي متعدد المواهب “عبد الرحمن عرنوس” والمخرج المسرحي “محمد سالم” والممثلون “فاروق يوسف” و”محمد العنانى” وأخيرا “فاطمة التابعي”، وحرص “محمد رشدى” على تقديم المسرحيات الجادة بأبناء بورسعيد، داعما إياهم بنجوم قاهرية مثل “سناء جميل” و”سميحة أيوب” و”زهرة العلا” وغيرهن .

تميز “محمود ياسين” بين أقرانه بصوته الرخيم، وقوة حضوره بفضاء المسرح، وسلامة لغته العربية، وتفانيه فى إنجاز ما يوكل إليه من أدوار مهما كان حجمها، متعلقا بنصوص “أحمد شوقى” الكلاسيكية و”عباس علام” الرومانسية و”يوسف وهبى” الميلودرامية، حيث التقي حوارها الفخيم ولغتها الجزلة برصانة شخصيته وقوة صوته الأقرب لما يعرف فى الموسيقى بطبقة (الباص)، وهو أقوى الأصوات الذكورية وأعمقها، مما جذب إليه مخرجى المسرح القومى، عقب تخرجه فى كلية الحقوق جامعة القاهرة التى صقل مسرحها الطموح، والمنافس لمسرح كلية التجارة المشع، موهبته التى أهلته للتقدم للعمل ممثلا بالمسرح القومى، فأكتشف قدراته الأدائية المميزة، وهى بعد فى طور التكوين، المخرج الكلاسيكى الرزين “عبد الرحيم الزرقاني” فاختبره فى نص قصير هو (الحلم) لكاتب غير مشهور هو “محمد سالم” فى النصف الأول من عام 1965 ، ثم قدمه فى دور الراوى فى عرض (سليمان الحلبي) للكاتب “ألفريد فرج” فى الأشهر الأخيرة من نفس عام 1965 ، ثم قدمه المخرج اللامع “كمال ياسين” فى العام التالي فى دور صغير لكنه مهم فى مسرحية (حلاوة زمان) ل “رشاد رشدى” أمام “سهير البابلى” فى الأشهر الأخيرة من عام 1966، ثم تأتى الهزيمة العسكرية المدوية فى يونيو 67 لتمزق وجدان الفتى الصاعد، كغالبية أبناء جيله، بين عشق الوطن وحزنه على ما آل إليه، بين إيمانه بقائده ونظامه وأفكاره وصدمته في الزلزال الذى هز أركان المجتمع، فشحن أداءه بعاطفة جياشة كانت تصعد به من طبقة الباص لأخفض أصوات طبقة الباريتون، لم تستثمر جيدا فى الأدوار الصغيرة التى أسندت إليه فى مسرحية (الزير سالم) “للكاتب “ألفريد فرج” وإخراج “حمدى غيث”  بعد هزيمة 67 بأشهر قليلة، و مسرحية (دائرة الطباشير) للألماني “برتولت بريشت” وإخراج “سعد أردش”، إلى أن اكتشف قدراته الأدائية المخرج التجريبي “كرم مطاوع” ففتح له نوافذ إطلال الجمهور على موهبته الحقيقية فى مسرحيته التجريدية الصاخبة (ليلة مصرع جيفارا) المعتمدة على نص قصير للكاتب “ميخائيل رومان” فى الأشهر الأولى من عام 1969 ، ليقف بين أدائي “سناء جميل” الساطع، وأداء “كرم مطاوع” المنغم، مقدما بأداء مشبع بالثورة المكبوتة شخصية “الفتى” الثائر المازج بين ثورية الزعيم الكولومبى “تشى جيفارا” الرومانسية والخلاص الرمزى لدى المسيح المصلوب، فيسقط شهيد العدل المفقود فى العالم .

** الفتى الوسيم:

كان هذا العرض لافتا للنظر، وجاذبا للمخرجين إلى هذا الوجه المصرى الأصيل، ذى الصوت المميز  فألتقطه المخرج التليفزيونى والسينمائي “إبراهيم الصحن” ليقدمه فى دور ضابط الشرطة فى الجزء الأول (دنيا الله) من الفيلم الثلاثي الأجزاء (3 قصص)، الذى عرض فى بداية عام 1968 ، وكتب اسمه على تترات الفيلم هكذا “محمد فؤاد يس”، ثم ظهر فى نهاية العام مع “صلاح أبو سيف” فى دور أحد شباب الحارة الثائر بلجنة الحى بالإتحاد الاشتراكي، فى فيلم (القضية 68) بطولة “حسن يوسف” و”ميرفت أمين”، وكتب اسمه فى التترات “محمود ياسين”، الذى سيظل لصيقا به، ثم ظهر مع المخرج “حلمى حليم” فى فيلمه (حكاية من بلدنا) 1969 بطولة “شكرى سرحان” و”ناهد جبر”، وقدمه المخرج “حسين كمال” فى دور صغير لفت نظر المخرج نفسه إليه فى فيلمه (شئ من الخوف) 1969 بطولة “محمود مرسى” و”شادية”، فعبر به جسر الوصول للنجومية، ولعب أدوار البطولة أمام نجمات ذاك الزمان، فقدمه بطلا أمام “شادية” فى فيلمه (نحن لا نزرع الشوك) 1970 ، وقدمه فى العام التالي “هنرى بركات” فى فيلمه (أختى) بطلا أمام “نجلاء فتحى”، ثم منحه فرصته الكبرى أمام “فاتن حمامة” فى فيلمه المثير “الخيط الرفيع” 1971 .

لقد عرف طريقه نحو النجومية، وصار الفتى الوسيم معشوق النساء، الرومانسي الجاد المهذب المعتد بذاته، لكنه لم ينس المسرح، الذى ظل مخلصا له لسنوات طوال، فعاد إليه ليقدم على مسرح الطليعة دوره الخالد “سعيد” فى مسرحية “صلاح عبد الصبور” البديعة (ليلى والمجنون) 1971، مع أول من قدمه للمسرح المصرى المخرج “عبد الرحيم الرزقانى”، ليترنح فى فضاء المسرح مقدما يومياته كنبى “مهزوم يحمل قلما ينتظر نبيا يحمل سيفا ” وليهبط إلى الصالة مجلجلا بصوته الرخيم بكلمات “عبد الصبور” صارخا : “الصبر تبدد، وليل الهزيمة تمدد ، والحرية المنشودة، برق قد لا تبصره عيناى، وعينا جيلى المتعب”، لذا ينفجر فى جمهور الصالة من شباب جرحته الهزيمة “أنفجروا أو موتوا”، لتمتد صرخته طوال هذا العام الذى عرف باسم عام الحسم، حيث أعلن نظام السادات عامها أن حسم أمر المعركة الفاصلة سيكون فى ذاك العام، ولما لم يتحقق ذلك، خرجت جماهير الشباب الغاضب، حاملة بأعماقها كلمات “عبد الصبور” بأداء صوتى وحركى لمحمود ياسين، لتلتقي مع قصيدة “أمل دنقل ” الشهيرة عن تظاهر الشباب حول قاعدة النصب التذكارى فى ميدان التحرير، التى أسماها (الكعكة الحجرية)، والمطالبة بحمل الأسلحة فى مواجهة الهزيمة وصناعها .

** درس لا ينسى:

كان الفن سلاحا بيد شباب عاشق للوطن، وكان “ياسين” وقتها فردا فى الكتيبة الثائرة، شاركها فى فيلمين من أهم أفلام الموجة الجديدة المصرية (أغنية على الممر) الذى تأخر عرضه إنتاجيا حتى 1972 ، وهو أول أفلام المخرج “على عبد الخالق”  والذى قدم من خلاله مجموعة من الشباب المحارب على جبهة القتال فى الأيام التالية للهزيمة العسكرية، والرافض مغادرة موقعه الحصين، مدافعا عنه ضد العدو الصهيونى حتى آخر قطرة. سبقه فى الظهور فيلم (الخيط الرفيع) 1971 للمخرج “بركات”، أمام “فاتن حمامة”، والذى قدم فيه دور الفتى الفقير المتمسك بكرامته، والذى ترفعه امرأة عاشقة لمستويات اجتماعية أعلى، لكنه يهرب من تملكه لأخرى تؤدى لتصدع علاقة الحب المتجاوزة تقاليد المجتمع. ثم جاء  (ليل وقضبان) 1973 ل”أشرف فهمى”، وأمام “سميرة أحمد” و”محمود مرسى” ليرسخ حضوره المتميز،  مقدما فيه دور طالب الهندسة المسجون سياسيا، والذى يجذب نظر زوجة مأمور السجن بدماثة خلقه وهدوء سلوكه ووسامة محياه وصوته الرخيم واعتداده بنفسه، ليتحول إلى نموذج للبطل الطاغى على الشاشة الفضية، دون أن يتنازل عن حضوره المتميز فى المسرح فجسد دور “أوديب” فى مسرحية د. ” فوزى فهمى” (عودة الغائب) التى غازلت النظام الجديد بالحديث المسهب عن الديمقراطية، وعن ضرورة نسيان الماضى الملوث بالفساد والنظر لمستقبل الرخاء المنتظر للوطن .

استمر فى مشواره المسرحي ليقدم أدوارا بارزة فى (وا قدساه) للكاتب “يسرى الجندى” والمخرج التونسى “المنصف السويسى”،  و(الخديوى) للشاعر “فاروق جويدة” والمخرج “جلال الشرقاوى”، بالتوازى مع إنجازاته فى السينما وعلى الشاشة التليفزيونية وعبر أثير الإذاعة، منتقلا من دور الفتى الأول، لدور الأب الرزين، للجد الحكيم، وبخاصة تجسيده لدور “على الحفنى” فى الجزيرة (الجزء الأول)، متعثرا أحيانا مع افلام مقاولات أكتوبرية ولبنانية وغيرها، وأن ظل مثابرا على الصعود لصدارة المشهد الدرامي، ثم فاتحا ذراعيه لنجوم جدد، فشباب متألق، مدركا طبيعة التقدم الزمنى، والتغير المزاجي للمجتمع، واعيا بأن الممثل الجيد هو الذى يمنح دوره التميز بقدراته وفهمه له، مهما كان حجم هذا الدور، وليس الدور، مهما كبرت مساحته، هو الذى يمنح الممثل تميزه وحضوره المتألق .

وهو الدرس الذى على الجميع الخروج به من تجربة “محمود ياسين” العميقة فى حقل الدراما متعدد الأوجه: أن تدرك أنك ابن جيلك وطبقتك وزمنه، لا يمكن الهروب منهم، ولا يمكنك إلا أن تكون نموذجا دالا على تغيرهم وتغيرك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت