بعيدا عن فصاحة المعني "مدينـة في ثـلاثة فصول" ضعـف مـرجعي وأخطاء في الإسقاط علـى الراهن السـوري / بديع منير صنيج
إعدادان مختلفان عن نص «احتفال ليلي خاص في دريسدن» لـ«مصطفى الحلاج» ضمن موسم مسرحي واحد، الأول قدمه «باسل طه» على خشبة القباني تحت عنوان «بالشمع الأحمر» ضمن عروض المسرح التجريبي، والآخر افتتح عروضه الثلاثاء على خشبة الحمراء الدمشقية، بعنوان «مدينة في ثلاثة فصول» اقتباس كفاح الخوص وإخراج عروة العربي، وبما أن عرض « طه» كان يعاني الكثير من الخلل المعرفي والتجريبي، ورغم كون القائمين على «مدينة في ثلاثة فصول» من الأكاديميين إلا أن الخلل بقي موجوداً .
لعل موضوعة الحرب التي يدور حولها النص باتت بمنزلة عنصر جذب أساسي في التجربتين، ولاسيما بانعكاساتها الإنسانية، وما يعانيه البشر من مآزق نفسية وروحية، تجعلهم أسرى نزق خاص، تزداد فاعليته مع ظروف عصيبة توضع فيها الشخصيات، لكن هل يكفي ما قام به «الخوص» من اقتباس للشخصيات الرئيسة في النص الأصلي للحلاج، واقتباس المناخ العام للحرب العالمية الثانية بما فيه من قصف الطائرات، والحديث عن دمار أبنية المدينة، والجثث المرمية في الشوارع، وضياع الأحلام، لنكون أمام إعداد جيّد؟ وهل التناص مع الحرب في سورية يتم بتعويم الصراع الأساسي في نص «الحلاج» بين الطبقة العاملة في ألمانيا ومناهضتها الشرسة للنازية في أوج قوتها، وتحويله إلى مناوشات خفيفة بين شخصيات غير واضحة المعالم والانتماء جمعها القدر في حانة تحت الأرض؟ ثم ما هو وجه الشبه الذي اكتشفه «الخوص» بين «دريسدن» 1944 ودمشق 2015، وبين مختلف طبقات المجتمع الألماني نازيين ومناهضين لهم، وبين مكوِّنات الشعب السوري بتنوعه الفسيفسائي وغناه؟ وهل الحرب السورية تنتمي لذاك النسق في تعريته للتجار ورأس المال المسخر للأسلحة والحرب وعبادة النازية؟ أيضاً، لماذا حافظ المُعِدّ على أسماء الشخصيات الألمانية ذاتها، وجعلها تتكلم باللغة الفصحى، بدل تعزيز حضورها ضمن المشهدية المسرحية السورية الآنية، وتقريبها من جمهور صالة الحمراء، بلغة عاميّة تُرَكِّز على فصاحة المعنى، مع تجاهل ذكر الأسماء في البروشور؟.
نص الحلاج مقسم من حيث الشكل الفني إلى ثلاثة فصول تستدعي الترابط ما بين الشكل والمضمون الفكري، أما في إعداد «الخوص» فتم الانطلاق من الشكل الفني مع حذف خطوط درامية وشخصيات أساسية من المسرحية تم تقديمها بشكل مبتور، بحيث كان هناك لعب على شيء من الشكلانية بدل الاشتغال على بنية كل فصل من الفصول الأساسية وفهم فحواه، مما قلّص استيعاب الشخصية المركبة ضمن نص الحلاج، فلا يكفي لنجاح الإعداد أو «الاقتباس» -كما جاء في بروشور العرض- حديث الشاب المخمور عن أن البشر أهم من الحجر، إشارةً إلى الآثار السورية التي تُدَمَّر بشكل منهجي، ولا أن تقوم إحدى الشخصيات الموتورة بفعل الضيق وفقدان الأمل -عبر إحالة ارتجالية- بإدانة الداخل بدل إدانة هذه الحرب المركبة، خاصة أن الشخصيات بمدلولات أسمائها ولباسها (الأزياء صممتها رؤى خصيروف)، وخاصة الضابط النازي، وتقاليد عيشها، لا تنتمي إلى مجتمعنا، بمعنى أن الإعداد كان يعاني ضعفاً مرجعياً، وأخطاء في الإسقاط على الراهن السوري، كما أنه كان تائهاً بين الدوافع التي أدت إلى إحراق مدينة «دريسدن»، وتدمير معظم مبانيها، ومعاملها أواخر الحرب العالمية الثانية، على يد سلاح الجو البريطاني والقوات الجوية لجيش الولايات المتحدة الأمريكية، أو ما سُمِّي حينها «عملية قصف الرعد»، وبين ما يحصل الآن في سورية من دمار وتخريب، وقتل واغتصاب وتمثيل بالجثث، واغتيال للكفاءات العلمية والبحثية، وتحالفات دولية تغذّي الإرهاب وتناهضه في الوقت ذاته، واستخدام مسيء للدين والتطرف، وتسخيره لخدمة أهداف لا تصب في مصلحة السوريين أنفسهم، وغير ذلك الكثير، لماذا غاب كل ذلك عن الإعداد والاقتباس؟
أضف إلى ذلك، لماذا تخلّى «الخوص» والمخرج «عروة العربي» عن شعرية النص، والإشباع النفسي لشخصياته، مقابل تسخيف الحدث الأساس، وبهرجته بنوع من السخرية الباهتة، التي تستدعي ضحك الجمهور، مما يخفف من ثقل المادة الدرامية، ما جعل تصعيد الصراع متوقفاً منذ بدايته، ومن دون أي قدرة على تحقيق تعاطف مع أي من تلك الشخصيات، سواء الحبيبين «طارق عبدو» و«ربا الحلبي»، أو الوالد «محمود خليلي» تاجر الأسلحة المتخفي بلباس رجل أعمال، وابنته « راما العيسى» التي تعاني من الآثار النفسية لحالة اغتصاب لها على يد أحد الجنود النازيين، الذي جسده «مؤيد رومية» وظهر في العرض كعميل مزدوج، كما لم يتحقق أي تعاطف مع الجنرال «يوسف المقبل» حتى بعد قتله الضابط النازي، ولا حتى صاحب الحانة «محمد خير الجراح» الجشع والخائف على حانته وأمواله، وأيضاً المراهق السّكّير «كفاح الخوص»، والغانية التي جسّدتها الفنانة «مي سليم» ولا حتى المهندس «سامر الجندي» أو عازفة التشيللو «رغد قصار». عدم التعاطف لم يتم من منطلق إنساني البتّة، وإنما من منطلق فكري، فإن كانت تلك الشخصيات ألمانية ومنهم نازيون متعصبون لنازيتهم، فأي تعاطف سيحصلون عليه منا نحن السوريين؟! وكيف يبرر المعدّ تقليص حضور المرأة في النص الأساسي مع أنها كانت ركيزة للتمرد وصاحبة السطوة في إزاحة الحدث وتوتيره؟ ثم لماذا منح الخوص لشخصية المراهق السكير كل هذه المساحة على حساب الشخصيات الأخرى، مما قلص لنا نحن المتلقين الحالة المركبة لديها فقُدِّمت بشكل باهت؟
الإعداد الضعيف انعكس على الحالة الإخراجية إذ ظل إيقاع العرض بطيئاً، كما أن الطابع التزييني في الرؤية الإخراجية لم يستطع أن يصعّد الحالة المجازية ويكون لموسيقا التشيللو حضورها الفاعل على مدار العرض وإنما غيبها «العربي» بشكل فج لا يرتقِي إلى كمالية المجاز ضمن المضمون الذي بدأه مادياً ثم غاب بلا مبرر درامي، ولم يعد له أي حضور ولو صوتي، رغم تساوقه مع المشهد الأخير المبتور ببضعه جمل عن الفصل الثالث في النص الأساسي، مما وضعنا أمام نمط موسيقي متشنّج، ولّفته «رغد قصار» بين عزفها على التشيللو، ومزاوجته مع أصوات قذائف الطائرات، وتسرُّب المياه من الأنابيب بعد انفجارها، وصرير الصراصير بعد فتح فجوة في الأرض لعلّها تكون ملاذهم للخروج من أسرهم في ذاك المشرب/ القبو، كل ذلك جعلنا أمام رتابة ممضّة ومؤلمة في الوقت ذاته، بحيث أن أصوات الانفجار التي تواشجت مع ديكور «زهير العربي» وغباره المتناثر، ومع إضاءة «نصر سفر»، أحالتنا إلى مناخ من الوجع، فإن كان المقصود نقلنا كمتفرجين، وفق تتابع زمني، من فصل الألم إلى الدهشة إلى الحنين، كثلاثة فصول بُني عليها عرض المخرج «عروة»، فإننا بقينا في فصل الألم، ليس بسبب أحداث المسرحية وإنما نتيجة الخلل الحاصل في فهم نص «الحلاج» الذي يتحمّل، بسبب عمقه وتماسك أحداثه ونضج شخصياته، أن يعيد رسم ما يحصل في سورية، نتيجة الإرهاب المنظم بمفاصله العربية والدولية، وسواعده الفكرية الهدّامة، وذلك بلغة مسرحية عالية المستوى، وكل ذلك يجعلنا نصرخ مجدداً وبأعلى صوتنا: «وا دراماتورجاه!!».