"الماكينة" عرض خارج التصنيف / د. صوفيا عباس
بمناسبة ترشيح العرض التونسي ” الماكينة” لمخرجه (وليد الدغسني) ليكون في افتتاح فعاليات الدورة 17 لأيام قرطاج المسرحية التي ستنطلق 16 أكتوبر 2015 ، وأيضا نظرا إلى لأهمية الاشتغال الفني والطرح السياسي الذي تميز به هذا العمل، ارتأت مجلة الفرجة إعادة نشر قراءة نقدية للباحث المصرية (د.صوفيا عباس) لهذا العمل و التي جاءت كالتالي:
“في إطار فعاليات مهرجان المسرح المعاصر بمكتبة الإسكندرية شارك المسرح التونسي بعرض “الماكينة” و كنت قد ناشدت المسرحيين المصريين أن يشاهدوا العرض الذي سبق و شاهدته في مهرجان الهيئة العربية للمسرح الذي عقد في الرباط في يناير 2015 و لكن مع الأسف كل الأسف كان الحضور ضعيفا لا يتفق و قيمة العرض، ربما لأسباب تتعلق بضعف الدعاية اللازمة من قبل مكتبة الإسكندرية و ربما لانشغال المسرحيين بأعمال أخرى، و لكن هذا لا يمنع من الخسارة الفادحة في عدم مشاهدة هذا العرض الفني المتكامل.
العرض يطرح أفكارا حول مشكلات و أزمات المجتمعات العربية تدور حول فساد الحكم و مفاهيم الديكتاتورية و محاربة الإعلام النزيه و شراء الذمم و بهلوانية الحكام و تزيين الباطل و تزييف الحق و إعدام القيم، و هي أفكار تبدو في شكلها الظاهري مكررة و قابلة للطرح في أعمال متنوعة و لكنها حين تطرح في المسرح يتراجع السؤال حول ما الموضوع لحساب كيف طرح الموضوع.
قدم العرض مجموعة من الشباب الجاد الذي تلقى تدريبا سليما مدروسا في كيفية التعامل مع خشبة المسرح، يعرف آليات تحريك جسد الممثل بعد تدريب و اشتغال دقيقين للغة الجسد القادرة على التعبير بحرفية عن الموضوع دون أن تفقد المتلقي الذي تشبث بمقعده طوال وقت العرض متعة المشاهدة فقد ظل مأخوذا بإيقاع ساخن لم يخفت لحظة واحدة من مبتداه حتى نهايته و متابعا لتفاصيل حركات أجساد الممثلين الذين استخدموا كل الطاقات و الإمكانيات الفنية من حركة و رقص و كلام و إيماء و إشارة. و هذا ما جعل خط الاندهاش ممتدا ومسقطا للشعور بالزمن و المكان فما عاد غير العرض المكتمل العناصر يفرض وجوده الحي. لم يخطئ ممثل في حركة أو حرف و ما كان فيه انحراف عن لغة العرض فلا زيادة و لا نقصان. الأفكار المطروحة جادة مؤلمة توخز الضمير الإنساني بالشوك المر و لكن الطرح الفني لم يعدم لغة الكوميديا الساخرة المبكية من الواقع و ما يجري فيه من متناقضات و متغيرات و سطوات و حرمات.
لم يحاول العرض أن يدغدغ مشاعر أو يقدم أي آمال زائفة أو أي أحلام غير قابلة للتحقيق و لم يملأ المسرح بعناصر سينوغرافية تتحدث لغة الإبهار و إنما ظهرت الخشبة مفرغة باستثناء قطع بسيطة استخدمت لضرورات فنية و اختفت متى انقضى دورها و على الرغم من ذلك ظل للعرض رونقه و سخونته و بهاؤه يعلن عن لغة معاصرة للمسرح بعيدة كل البعد عن الرتابة و الملل و التكرار غير الممنهج و يؤكد أن الفهم الحقيقي لأسرار لغة المسرح لا يتأتى إلا بالتواجد في قلب المشهد المسرحي.
عرض”الماكينة” عرض صادم يوقظ الضمير بقسوة يناشده ألا يكون في يوم ماكينة و ألا يستسلم للماكينة الجهنمية التي تبتلع الإنسانية فلا تبقي و لا تذر. تحية كبيرة إلى طاقم العرض التونسي شرفت الساحة المسرحية في مصر بكم …. يعايشوا”.