البني المجاورة للمسرح / منصور نعمان
في خضم التحولات الكبرى في مجرى الحياة، والانفجار المعرفي والصناعي والتكنلوجي، واتساع رقعة التبادل والتداخل الثقافي في: المعارف والعلوم والآداب والفنون، مما مهد أن يكون العالم أصغر من كونه قرية صغيرة، وجعل الإنسان أكثر التصاقا وحميمية من الأحداث والتطورات الجارية في كل الفضاءات التي يعنى بها الإنسان، وعلى الرغم من كون الضغط الهائل للمعلومات، قد يشكل خطرا على استقرار الإنسان، إلا أنه أمر لم يعد بالإمكان الاستغناء عنه، بل استفحل الأمر وصار عدم إمكانية الحياة من دون تكنولوجيا، وكاد الأمر أن يكون مستحيلا.
والمسرح أسوة بالمعارف المجاورة، ابتكر رجالاته العديد من الصناعات دخلت عالم المسرح، ليكون أكثر تأثيرا وسطوة على المتلقين، وإن المسرح يستقدم الصناعات التي تحدث في مختلف ضروب الحياة ويدخلها عالمه، بدءا من الإغريق وانتهاء بأحدث التقنيات الآن. وإذا كانت تكنولوجيا المسرح قبل الآلاف السنين ابتكرت وسائل تعد فقيرة بمفهومنا المعاصر، إلا أنها في حينها تعد ثورة تنم عن عبقرية العقل المسرحي، باستدراجه لتلك العلوم واستنطاقها ضمن أطار الاشتغال الفني للمسرح، إن اتساع الاكتشافات والاختراعات، وصولا إلى اختراع الضوء، وبالتالي دخول المصابيح دور العرض، بعدما كانت العروض لدى الإغريق تعتمد نور الشمس، أو العروض التي اعتمدت على المشاعل الزيتية لاحقا.. إن الضوء الصناعي شكل علامة فارقة في التفكير المسرحي على مستوى كتابة النص الدرامي، العرض المسرحي، تسويق العرض للمتلقين، وأخيرا على ريبورتوار العروض المسرحية.
إن اكتساح التكنولوجيا لعالم المسرح، هي في الأصل مأخوذة من بني مجاورة، وقد تكون صناعية، إلا أنه قد تم توظيفها وجعلها جزءا من تقنيات المسرح وإمكانياته غير التقليدية، إذ ظهرت الخطافات التي ترفع قطع الديكور الضخمة إلى أعلى سقف المسرح وتخفيه تماما عن أعين المتلقين، وما أن تكون الحاجة إليه في مشهد لاحق، حتى يتم إنزاله بهدوء في المكان المطلوب ويستمر الحدث، بعد أن تكتمل صورة المسرحية، وكأن شيئا لم يكن. وظهرت العديد من الأجهزة الدقيقة والمهمة في المسرح، بأجهزة الضوء المتحركة، والعواصف، الضباب، البحر… الخ. إن فن المسرح يعتمد الصناعات المبتكرة التي وجدت لمضمار حياتي آخر، إن لم تكن قد اخترعت خصيصا إلى المسرح، وأن تدجينها مسرحيا ضمن أطار ما، إنما يعبر عن درجة رهافة العقل المسرحي ومرونة في التعامل مع الجديد في العالم وخلق وشائج معه. إن ذلك يصوغ مفهوم البني المجاورة التي تدور حول المسرح، الذي استدرجها إلى عالمه ليثري العرض المسرحي، ويجعله أكثر أبهارا، وأعظم تأثيرا.
وإذا كان المسرح الفن المتسم بالحيوية والدفء، فكيف له أن يستمر بهذه القوة في صموده وتحديه لكل المتغيرات، ما الذي يكتنزه فن المسرح!!؟ من الطبيعي أن الصناعات التي استشرت في مختلف ضروب الحياة وجدت لنفسها مكانا في المسرح وبحسب الحاجة إليه، ومما لاشك فيه، أن ذلك منح المسرح عزما أعلى مما سبق، فالصناعات التي دخلت في تكنولوجيا المسرح، على سبيل المثال لا الحصر، المسرح الدوار، أو مقدمة المسرح المتحركة للأعلى والى الأسفل، أو السقوف العالية إلى الخشبة، أو صالة المشاهدة المتحركة بحسب المشاهد التي يتابعها المتلقي، وغيرها الكثير .
إن هذه الخصائص المستجدة في المسرح من حيث عمارة المسرح، ساهمت فعليا بتكوين الصورة المسرحية وأضافت إليها رونقا وجمالا، ومنحت الصورة المسرحية: الاقتصاد، والسرعة، والجمال،والبلاغة الفنية في التعبير. ومما لا ريب فيه أن عمق البعد الجمالي للصورة المسرحية، قد تغذى على التكنولوجيا من حيث بناء الشكل الفني، وعليه فإن الصناعات والتكنولوجيا ترتبط فعليا بالعرض وتعيد تشكيله. لهذا جرت العناية بالشكل الفني للعرض، وظهرت أشكال فنية مهمة وجديدة تدفع للانتباه، فالشكل أكثر تأثيرا بالتقنيات، وما اكتشاف أو اختراع تقنية ما، يساهم بصورة جوهرية بإضفاء المتعة الخالصة بفن المسرح. وعلى سبيل المثال اختراع التلفزيون مهد لظهور دراما تلفزيونية بتقنيات مختلفة عن المسرح، وقبلها دراما الإذاعة، وكلاهما يدخلان إلى عالم العرض المسرحي بعدهما بني مجاورة للمسرح.
إن ذلك يثير إشكالية فن المسرح، الذي يستقطب ويزواج بين العلوم والفنون، ويداخل بين الصناعية والتكنولوجية لخدمة عقل وشعور المتلقي، واكتشاف فضاءات أخر في العرض، ويمكن القول: إن نشاط البني المجاورة الصناعية والتكنولوجية، رفدت العرض بالكثير، مما مهد لأن يكون المسرح مستجيبا لإيقاع تطور الحياة، بكلمة أخرى، إن الفن المسرحي بتقريبه للجديد المبتكر صناعيا، وضمه واشتغال العرض عليه ومن خلاله، جعل من المسرح الفن الجميل الذي يزداد صلابة بمرونة ضمه للبنى المجاورة إليه واستقطابها.
إن فن المسرح، هو العالم المتخيل الذي ينشأ من عمليات أقل ما يقال عنها بأنها معقدة، وأن شبكة علاقاته تتيح المجال للاشتغال على عناصر العرض، وبضمنه نص المؤلف، الذي دخلت العلوم والمعارف في نطاقه، بدءا في بداياته، التي عرفت بالمؤلف الإغريقي (اسخيلوس) الذي كتب مسرحية (الفرس) عن واقعة حرب بين الإغريق والفرس. إن الذي يثير الانتباه، أن المؤلف الأول في العالم – لحد هذه اللحظة – استقطب الحرب التاريخية، وصاغ منها دراما، والمسألة تتعلق بالتاريخ، وكيف يتم استقطابه واستنطاقه دراميا، لقد دخل التاريخ بوصفه نسق معرفي له نظامه وانتظامه الداخلي بِعده، يقع ضمن المعارف الإنسانية، لقد غذى التاريخ عالم الدراما، فزاد من قيمة الموضوع الذي تم التطرق إليه، وأثار شجون وأحلام ومشاعر الانتصار لدى الإغريق – في حينها – وبغض النظر عن المستوى الفني لكتابة النص، إنما الإشارة المهمة تتحدد بكيفية الاعتماد على علوم أخرى وجعلها مرتبطة بالمسرح، ولا يمكن الفكاك منها وإذا كانت الأساطير التي تمثل المعرفة البشرية لذاتها ولتكونها، وما تحمل في أعماق المجتمعات من أفكار وأحلام وتصورات حول الكون والعالم والحياة التي ضَمنتها صًورتها تلك الأساطير، ففي مسرحية (أوديب ملكا) لمؤلفها الإغريقي (سوفوكليس) الذي وظف الأسطورة الشهيرة المعروفة بالاسم ذاته، وبذلك نسجت الدراما، من خلال الأسطورة، بكلمة أخرى، إن النص الدرامي إنما استقى وجوده فعليا من خلال الأسطورة، بعد أن أعيد توظيفها، مما جعلها من النصوص الكبيرة التي لا يرقى إليها الشك . ويلاحظ أن الأسطورة التي شكلت نسقا معرفيا له كامل الحقوق، جرى توظيفها بما جعل للأسطورة مكانة في النص المسرحي، وازداد المسرح تدعيما وصار أعظم قوة مما كان عليه.
إن التداخل بين الأنواع وربما التداخل لاحقا بين الأصناف، يولد طاقة للدراما، تحث وتدفع لا للابتكار حسب، وإنما لجعل الحياة مورقة بالأمل والإبداع والعمل المستمر بتغذية الجديد المبتكر المعبر عن ولُهُ الإنسان، بوصفه يتقدم ولا يتخلف . وماذا عن العلوم الجديدة: علم النفس، علم الاجتماع، وقبلها الثقل الفلسفي، الذي يشكل استراتيجيات النص الدرامي، ومحور الأرضية التي يقف عليها ومن خلالها يتم، التعبير عن رؤية المؤلف ومنظوره للحياة وموقفه الكوني. لقد دخلت الكثير من العلوم الإنسانية التي ابتكرتها قريحة البشر، فعلم النفس باتجاهاته المختلفة ونظرياته المتنوعة، صار جزا من عملية تحليل وتفسير النصوص، وكذالك الأمر بالنسبة إلى علم الاجتماع. وقد ظهرت معارف جديدة نسبيا مثل: الانثربولوجيا التي امتصها المسرح لعالمه وصارت ملتصقة به، نصا وعرضا وأداء تمثيليا. مثلما ظهرت علوم اللغة، الشكلانية والبنوية والسيمياء والتفكيكية… الخ ساهمت برفد المسرح بأجهزة معرفية لاستشعار مواطن الجمال، ومتعة المعرفة الدقيقة بما يجري على المسرح. ولا ندهش، إن تطور مفهوم البني المجاورة أن يستقي جديده من العلوم البحتة: الكيمياء، الفيزياء، الرياضيات… الخ إنما يفتح مجالات لعالم المسرح بما يجعله، أشد وتيرة بتقدمه، وأكثر أشعاعا بتأثيره. وعليه يمكن القول: إن البني المعرفية المجاورة بالاختصاصات المختلفة، ساهمت بجعل المسرح وتركيبه وشكله، نصا وعرضا، أكثر ثراءً، وغنىً مما كان عليه، ومفتاح لتطوره المستمر، ما دام ديدن البشرية هو التقدم والاكتشاف، والمسرح الجامع الهائل والقادر على صياغة الجمال وتنويعه، والقادر على الاستقطاب، مما يجعله الأقوى بين الفنون الأخرى، لا لكون المسرح الصورة الحية للوجود الإنساني والاشتغال بها، بكل ما يحمل الوجود من لحظات قوة وضعف، وإنما نسق المسرح المعتمد على اكتشاف الجديد المثير للانتباه، وفي الوقت ذاته، مد اليد لاستدراج المبتكر وضمه إلى عالم المسرح، وجعله منتميا بعمق إليه (*).
(*) ينظر : منصور نعمان ” إشكالية الحوار بين النص والعرض في المسرح”، أربد: دار الكندي للنشر والتوزيع. 1999، ص:50- 60.