د.حسن المنيعي : الجيل المسرحي الجديد لم يجسد رفضه في اختيارات ثقافية وفنية واضحة/ حاوره : عبد الجبار خُمران*

خمران: أحد الباحثين يقسم تاريخ المسرح المغربي إلى مسرح مقاومة، حيث الخطاب السياسي الوطني مبرر الأعمال المسرحية. ومرحلة ثانية بعد الإستقلال حدد معالمها البحث عن التوازن. فمسرح بداية الوعي، أي التصور المسرحي القادم من الهواة. ثم جيل المسرح الذي اختار من الثمانينات أن يمارس “مهنة المسرح”.. هل اكتملت هذه الدورة المسرحية بالفعل بحيث يمكننا الحديث، الآن، عن “جيل المسرح” ؟
المنيعي: يمكن أن نقبل هذا التقسيم لتاريخ المسرح المغربي. لكن القول بأن “جيل المسرح” (أي جيل الثمانينات) “هو الذي مارس مهنة المسرح” يعد في نظري حكما سائباً. وكما أشرت إلى ذلك في العديد من مقالاتي، فإن تاريخ المسرح المغربي قد صنعته أجيال كان أولها جيل الرواد الذين تميزت أعمالهم بطابعها النضالي ضد الاستعمار (محمد القري – عبد الواحد الشاوي – المهدي المنيعي وغيرهم)؛ ثم جيل الاستقلال الذي “ثقف” فنون المسرح وأبدع في مجالاته (احترافا وهواية) أعمالا درامية هامة حولت أرضية المسرح المغربي إلى عالم فسيح تجرب فيه عدة مدارس وتوجهات فنية حديثة، وأخرى تراعي التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، كما تهدف خطاباتها الفكرية إلى معالجة قضايا اجتماعية وسياسية من منظور جمالي يجمع بين الواقعي والرمزي والتراثي. وأخيرا جيل خريج المعهد العالي للمسرح وغيرهم من الهواة الذين دخلوا مجال الاحتراف. إن هذه الأجيال جميعها قد مارست مهنة المسرح وذلك بأساليب مختلفة أدت إلى إثراء الحركة المسرحية المغربية وإلى تعدد تجاربها.
 
خمران: هناك خاصية مغربية فيما يتعلق بمسرح الهواة  جل المسرحيين البارزين (مع استثناءات قليلة جدا) لم ينتقلوا وفق تطور طبيعي لممارستهم المسرحية كهواة إلى المسرح الإحترافي، فضلوا هواة حتى رحيلهم أو اعتزالهم أو تقدمهم في السن.. بماذا يمكن تفسير هذه الظاهرة؟ ولماذا اختفى الحضور المشع لمسرح الهواة؟
المنيعي: من الصعب – في نظري – التفريق بين الهواية والاحتراف خصوصا في مرحلة السبعينات وما بعدها، لأن المسرح المغربي عرف تألقه وازدهاره على يد بعض المحترفين، والهواة على الخصوص الذين اعتمدوا التجريب في أعمالهم مما دفعهم إلى تعميق ثقافتهم المسرحية، وإلى ممارسة كتابة درامية جديدة تقوم على التنظير، واستيعاب تقنيات غربية حديثة على مستوى الإخراج والسينوغرافيا والإنارة. من هنا لا أعتقد أن البارزين من الهواة لم يكونوا محترفين. إن الإدارة هي التي جعلتهم ينغلقون في دائرة الهواية بحكم احتضانهم من لدن وزارة الشبيبة والرياضة. لكن؛ حينما نهجت وزارة الثقافة سياسة دعم الفرق (ابتداء من موسم 1998) انتقل الحضور المشع للهواة إلى مجال الاحتراف مما أدى إلى ظهور حركة مسرحية جديدة. أما مسرح الهواة الذي تحول اسمه إلى “مسرح الشباب”، فلم نعد نسمع عنه شيئاً، لا عن مهرجانه، ولا عن أعلامه الجدد.
 
خمران: والمسرح الجامعي، أي مكانة يحتلها داخل الحقل المسرحي المغربي؟ وما هي إسهاماته الجمالية، والآفاق التي يفتحها للممارسة المسرحية الشبابية؟
المنيعي: يؤكد المسرح الجامعي حضوره أكثر من عشرين سنة وذلك من خلال خمسة مهرجانات (أكادير – الدار البيضاء – فاس – مراكش – طنجة). ورغم ما يعانيه من مشاكل على مستوى الاحتضان، والرعاية المادية على الخصوص، فإن إسهاماته الفنية تقوم على البحث والأصالة والجديد. إلى درجة أنه كثيراً ما ينافس بعض التجارب الغربية ويتفوق عليها في العديد من المهرجانات. وهذا ما جعل بعض أطره تدخل مجال الاحتراف. لكن انغلاقه على الجامعة وجمهورها لا يسمح له بالانفتاح على الممارسة الشبابية. ولتحقيق ذلك، فإنه من اللازم العمل على ترويج بعض أعماله في المحافل الثقافية، وعلى هامش المهرجان الوطني للمسرح والمهرجانات التي تنظمها فروع نقابة المسرحيين. لقد سبق لي أن ألححت على هذه الفكرة في كثير من المناسبات، لكن المسؤولين عن الثقافة في المغرب لا يدركون أهمية هذا المسرح الذي يعد دعامة الاحتراف في العديد من الدول الأوروبية. ويكفي أن أشير إلى نموذج المخرجة الكبيرة “أريان منوشكين” التي انطلقت من المسرح الجامعي قبل أن تصبح ظاهرة عالمية.
 
خمران: في كتابك “أبحاث في المسرح المغربي” أشدت بأسماء كتاب مسرحيين كأحمد الطيب العلج، عبد السلام الحبيب، عبد القادر السميحي، ابراهيم بوعلو، محمد تيمد مصطفى التومي… وغيرهم.. لماذا هناك شبه قطيعة بين المخرجين الشباب و الربرتوار المسرحي المغربي؟ وهل يمكننا التجديد في الكتابة المسرحية بالمغرب دون تمثل وتمثيل هذا الربرتوار؟
المنيعي: لا يمكن الحديث عن قطيعة بين المخرجين الشباب والربيرتوار المسرحي المغربي. لقد قام بعضهم بإعداد مسرحيات لأحمد الطيب العلج وعبد الصمد الكنفاوي والمسكيني الصغير وعبد الكريم برشيد على الخصوص. أما عن الكتاب الآخرين الذين ذكرتهم، فإن نصوصهم غير متداولة وإن كان بعضها قد نشر في مجلات ثقافية أو في كتاب خاص (بعض نصوص محمد تيمد التي أشرفتُ على نشرها بمعية زوجته). إضافة إلى ذلك، أرى أن المخرجين الشباب كثيراً ما تغريهم النصوص الأوروبية أو العربية التي اطلعوا عليها. وهذا ما أغرق الساحة الفنية بأعمال مقتبسة كما نلاحظ ذلك في كل مهرجان وطني. أما عن تجديد الكتابة المسرحية، فإنها قضية لا علاقة لها بالريبرتوار المشار إليه. مثلا، هل بإمكان الزبير بن بوشتى أن يكتب على طريقة المرحوم محمد تيمد؟ لقد كان هذا الفنان يكتب مسرحياته بعقلية المخرج والممثل والسينوغرافي. أما الزبير، فإنه يكتب مسرحياته من منطلق الأديب ولا يعمل على إخراجها. من هنا يبقى تجديد الكتابة المسرحية بالمغرب مرهونا بثقافة الكاتب، وموقفه من الأحداث المعيشة، وطريقة مساهمته في الفعل المسرحي. وهذا ما جعل الكتابة المسرحية تأخذ مساراً جديداً لدى كتاب “الحساسية الجديدة” وذلك من حيث ارتكازها على التقاط مشاهد من الحياة اليومية والعمل على مَسْرَحتها، الشيء الذي لم يفعله هواة السبعينات وما بعد؛ حيث كانت كتابتهم كما وصفتها سابقا “جدولية”Tabulaire  تقوم على منطلقات فكرية مستمدة من التاريخ والتراث والواقع المعيش، الشيء الذي جعلها ترسم منعطفا جديداً على مستوى الإبداع المسرحي المغربي والعربي على الخصوص.
 
خمران: من خلال رصدك المتفحص للحركة المسرحية.. ما التحولات الجادة التي حققها المسرح الإحترافي المغربي خلال السنوات الأخيرة؟ وما هي أهم سمات الخلفية الثقافية والجمالية التي تميز الجيل الجديد، والتي يحاول تجسيدها فرجويا؟
المنيعي: نعم، هناك تحولات جادة عرفها المسرح المغربي منذ نهج سياسة الدعم وتأسيس المهرجان الوطني. وهي تنعكس – تحديدا – في أساليب الإنتاج المسرحي الذي يتأرجح بين “مسرح درامي” يستوفي شروط صناعة الفرجة التقليدية، ومسرح “ما بعد درامي” يركز على توظيف جسد الممثل وعلى تقنيات سمعية وبصرية جديدة للتواصل مع الجمهور. وغالبا ما يكون هذا المسرح من إنجاز “الجيل الجديد” الذي يرفض بعض أفراده ما حققته الأجيال السابقة، لكن هذا الرفض لم يتجسد بعد في اختيارات ثقافية وفنية واضحة. وإنما في تصريحات عابرة تعلن قطيعتهم مع التراث، والتركيز في أعمالهم على راهنية الواقع.
 
خمران: في كتابك “ويبقى الإبداع” تشير إلى أنه “يجب إعادة النظر إلى الممثل الذي لا يوجد في الممارسة المسرحية المغربية إلا في الكتابة النظرية” كيف يمكن للمثل أن يحضر كعنصر فعال في العملية المسرحية.. وأن يتحول إلى نص حقيقي بدل اقتصاره على أن يكون مؤديا للنص اللغوي وتعليمات المخرج؟
المنيعي: لقد حظي الممثل المغربي بعناية كبيرة على مستوى التنظير كما نلحظ ذلك لدى “الاحتفالية” وغيرها من النظريات. أما عن حضوره عنصراً فعالا في الممارسة المسرحية. فإننا لا نجد في الكتابات النقدية المغربية والعربية على السواء إلا بعض الإشارات لمكانته في الإنتاج المسرحي. لهذا نبهت إلى هذه الحالة وفي رصيد معرفتي الشيء الكثير عن الدراسات الغربية التي اهتمت بتاريخه، أي بتحوله من أداة يشغلها المخرج كيفما شاء إلى عنصر جمالي فاعل ومتجذر في تاريخ الفرجة. لذا، لا يمكن لي تقديم إجابة مركزة على سؤالك. ما قصدته من قولي، هو أن إعادة النظر إلى الممثل المغربي يجب أن تتم في نطاق الكشف عن ثقافته وعن وعيه بالأدوار التي يؤديها، والتكوين الذي يخضع له، والاختيار الذي يدفعه إلى التعامل مع هذا المخرج أو ذاك. هذه قضية لابد من طرحها للوقوف على المنظومة المسرحية المغربية وتموضع الممثل في نطاقها لأنه كما يقول غروتوفسكي “إنسان يشتعل بجسده أمام الجمهور”. وللكشف عن هذا الجسد، لابد من إنجاز دراسات عن نماذج من الممثلين المغاربة الذين صنعوا تاريخ المسرح عندنا، علماً بأن البحث الجامعي لم يفعل ذلك بعد.
 
خمران: كيف تقيم الحراك الذي أحدثه المعهد العالي للفن المسرحي في الساحة المسرحية؟ وأي أفق فتحه كورشة لإعداد ممثل مسلح بنظريات وتقنيات حديثة في سياق ديناميكية التكوين المسرحي بالمغرب؟
المنيعي: حقيقة، لقد كان للمعهد العالي للفن المسرحي أثر واضح على الحركة المسرحية المغربية، وذلك من حيث إعداد وتكوين مجموعة من الممثلين والمخرجين والسينوغرافيين يتوفرون على مهارات احترافية ساهمت في “تحديث” العرض المسرحي، وتطعيمه بأنفاس فنية جديدة. إلا أن هذا الأثر أخذ يتراجع اليوم وذلك لأسباب معروفة، يأتي على رأسها هجرة معظم خريجي المعهد إلى عالم السينما والتلفزيون، وإلى العمل في نطاق تجارب مسرحية مغلقة تحتضنها بعض المراكز الثقافية الأجنبية.
 
خمران: العرض الفرجوي الذي ينتجه المبدع المسرحي، يوازيه العرض النقدي الذي ينتجه المبدع الناقد أو الباحث الجامعي.. ما الذي يمكن أن يعيق عملية التنقيب عن عناصر الفرجة وشروط تحققها ونقدها؟ ويحول دون تورط النقد في الحركة المسرحية المغربية؟
المنيعي: تنحصر وظيفة النقد في متابعة الإنتاج المسرحي إما من منظور صحفي أو مهني (نقد الفنان) أو أكاديمي. إن هذا يعني أن كل خطاب حول المبدع المسرحي، أو العمل المسرحي برمته، له لغته الخاصة. لكن الخطاب الأكاديمي المرتبط بالبحث الجامعي هو الذي يسعى إلى إبراز عناصر الفرجة ومواصفات تحققها، ثم يعمل على دراستها انطلاقاً من تراكمات معرفية حول المسرح وشعرياته. من هنا، لا يوجد شيء يحول دون تورط خطابه في الحركة المسرحية المغربية، لأنه يساهم في التعريف بآفاقها وذخيرتها انطلاقا من مشاهدة العروض، والوقوف على قيمها الجمالية التي لا يمكن اختزالها في كتابة وصفية جامدة، وإنما اعتماداً على مرجعيات تاريخية فكرية وفنية. وهذا ما فعله بعض الأساتذة الجامعيين الذين كتبوا عن المسرح المغربي وعرّفوا بعوامله في العديد من المحافل العربية والأوروبية.
 
خمران: اعتبرت في بعض كتاباتك أن نسبة كبيرة من الجمهور مستقطبة من لدن مسرح استهلاكي يقوم على ما أسميته ب”بلاغة مقرفة” وأن هذا الجمهور في حاجة إلى ما سماه رولان بارت “النص الراشد”.. كيف السبيل إلى نهج ممارسة مسرحية متصالحة مع جمهور مغربي يعتبر أغلبه الذهاب إلى المسرح وقتا ثالثا أو ثالث عشر؟
المنيعي: من الصعب الإجابة على هذا السؤال لأن قضية جمهور المسرح لم تحسم بعد في بلدنا وذلك لسبب واحد. وهو أن المسرح المغربي رغم ما حققه من طفرات بعيدة على مستوى الإنتاج والممارسة – فإنه لم يتمكن من تأكيد حضوره “مصلحة عامة” لا بالنسبة للدولة ولا بالنسبة لبعض طبقات المجتمع. لهذا ظلت عروضه التجارية هي الصورة النموذجية لحركته الفنية التي تستقطب جمهوراً واسعاً (عروض الفرقة الوطنية مثلا)، بينما يظل المسرح الفني الجاد عرضة للإهمال لا يهتم به إلا نخبة من المتفرجين. أما الجمهور الشعبي؛ فإنه لا يتعرف عليه إلا بمناسبة المهرجانات التي تقترح عليه عروضا بالمجان. لهذا فإن السبيل الوحيد لخلق تصالح مع هذا الجمهور هو توعيته بأهمية الفن المسرحي وإدماجه في حياته اليومية عبر الوسائط السمعية والبصرية، مع تعويده على مشاهدة عروض فنية راقية في التلفاز بدل تخديره بأعمال تافهة كما هو الشأن في رمضان.
 
(*) مسرحي مغربي مقيم بباريس.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت