اتجاهات الـ ( ما بعد ) وعلاقتها بالتجريب في المسرح المعاصر/ أ.د. محمد حسين حبيب

” سيكون هناك مسارح بديلة بعدد الشعر الذي في رأسي ” .. هكذا افترض الباحث التشيلي اندريث جونثاليت وهو يجتهد في بحثه عن مسرح بديل أو مولد مسرح آخر جديد, فتوصل مباشرة إلى نتيجة مفادها تكمن في أن مصير المسرح البديل هو استمرارية كونه بديلا, فالمسرح البديل بحسب جونثاليت يعني ” الطاقة الكهربائية: متغير و مستمر, يشعل و يضاء و يطفأ ” .
كما نجتهد كثيرا في بحثنا المسرحي عن الجديد والوافد والمعاصر شكلا ومضمونا لدرجة التغاضي والتجاهل أحيانا كثيرة عن مرجعية أو مفهوم هذا الجديد الذي تحول اليوم إلى (موضة) نقدية مسرحية, فراح خطابنا المسرحي المعاصر لاهثا وراء الموضة متغافلا ومتجاهلا الأصل والمفهوم المصطلحي والمنهجي الذي ينبغي الاستناد إليه على وفق الدراية والخبرة المعرفية الموسوعية التي ينبغي أن يتحلى بها الناقد والباحث المسرحي.
إن البديل الذي يعتمد الاستمرارية كما قدمنا, يرتبط مباشرة بمفهوم التجريب المسرحي و التجريبية ( Experimental ) التي انطلقت عام 1896م مع أول عرض لمسرحية الفريد جاري ( اوبو ملكا ) لأنها عدت كسرا واضحا عن كل ما هو سائد ومألوف في المسرح حينها, وبحسب صبري حافظ فان التجريبية تتحدد في المسرح “ بفكرة التمرد على المؤسسة المسرحية السائدة والسيطرة على واقع المسرح في واقع ثقافي ما, وبالنزوع إلى الخروج على التقاليد الفنية المألوفة والرغبة في ارتياد آفاق بكر واستكشاف عوالم مجهولة وبالتوق إلى ضخ دماء جديدة, و رؤى جديدة في عروق الحركة المسرحية كلما عراها الشحوب أو سيطر عليها الروح التجارية. “ويؤكد حافظ على عدم خضوع التجريب لمفهومات محددة لان التجريب المسرحي ينفي التحديد وينفتح على اللانهائي لأنه في النهاية يبدأ من رؤى وتوجهات فردانية .
إننا إذا اتفقنا اصطلاحيا وأكاديميا على وضع تعريف جامع مانع للتجريب, ذلك يعني نهاية التجريب وموت المسرح وابتكاراته الخلاقة .. ويبدي عبد الفتاح قلعجي نصيحته بالقول: ” إذا كنت مخلصا للتجريب في المسرح فعليك أن تؤمن أنه ليس هنالك مسرح تجريبي لأنه في الوقت الذي تنظم فيه هذا المسرح قواعد وشروط وأنظمة فانه لا يعود تجريبيا “ .
في السنوات الأخيرة من عمر الثقافة المسرحية العربية على صعيدي خطاب النقد والعرض سادت ( موضة ) من المصطلحات التي ارتبطت بالمابعد أو المابعديات المسرحية مثل ( ما بعد الدراما, ما بعد الحداثة, ما بعد الكولونيالية ) وغيرها من المابعديات التي جاورت الانساق البنيوية والنقدية المحايثة للثقافة المسرحية, مثلما هي شاعت قبلا في حقول الفلسفة والفن والأدب بشكل أبرز وأرصن معرفيا وأكاديميا فضلا عن مصنفاتها وخواص كل مصنف مفرز بشكل خاص لا لبس فيه و لا ربكة .. إلا أنها مع الخطاب المسرحي نجد فيها ارتباكا مفاهيميا متأرجحا ميالا إلى ركب الموضة حسب, لا إلى منهجة هذه (الما بعديات) وفرزها اصطلاحيا ونقديا, إذ هيمن على هذه الاتجاهات (الما بعدية) تداخلا واشتباكا وتشابها مفاهيميا فيما بينها أولا ومع ( التجريب المسرحي ). ثانيا, برغم محاولات الفرز وتبيان الخصائص المرتبطة لكل (ما بعد), إلا أنها في النهاية وجدناها تصب في مفهوم (التجريب المسرحي), و ما هذا الكم من المسميات المابعدية إلا مسايرة للموضة الشائعة في الطروحات الأجنبية والمصطلحات الوافدة وعجالة التأثر بها استعراضيا حسب دون غور المعنى و معنى المعنى فيها. ولقد بين سعد الله ونوس بقوله عن الجديد ” في أوربا محاولة لإنقاذ المسرح الذي يموت أو هو محاولة الخروج من الباب المسدود الذي يواجه الثقافة البرجوازية, إما بالنسبة لنا فان التجريب يعني البحث عن مسرح أو خلق مسرح أصيل وفاعل في المناخ الاجتماعي والسياسي الراهن . “
دراسات مسرحية عديدة حاولت الخوض في تحليل خطاب العرض المسرحي العربي وإضفاء ملامح هذه (الما بعد يات ) : ما بعد الحداثة و مابعد الدرامي و مابعد الكولونيالية, دون المرور حتى بالتجريب ومفهومه الواضح, بمعنى أن هذا الكم من الدراسات البحثية والنقدية المسرحية التي سايرت موضة المصطلح الوافد تجاهلت وأغفلت أن جميع الملامح التي أظهرتها والسمات  التي من المفترض ترتبط حصرا بمسياتها الاصطلاحية, إلا أنها ظلت ملامح وسمات تجريبية قبل أن تكون ما بعد حداثية أو ما بعد درامية أو ما بعد كولونيالية .. لقد أفرزت ملامح وسمات هذه المابعديات وغيرها في مجال الفلسفة والنقدالادبي والشعر والرواية واللوحة التشكيلية والنصب النحتية والمعمارية والسينما والرقص بشكل واضح لا اختلاف عليه, إلا أنها مع خطاب المسرح- بزعمنا – أصبحت ظاهرة ملتبسة على الكثير من الباحثين والنقاد والأكاديميين المسرحيين .
مع شيوع مصطلح ما بعد الحداثة اظهر تيري ايغلتون كتابه (أوهام مابعد الحداثة) الذي بين فيه ” الروح اللعوب الشعبوية لما بعد الحداثة، وتقليدها الشكل السلعي للسوق، والمجتمع القائم على قصة الاعتماد المصرفي الملفقة وإطلاقها العنان لقوة المحلي ومجانسته كونياً في آن، كذلك إقلاقها ليقينات الأوتوقراطي، وارتيابها حيال القانون وإيمانها بالأسلوب واللذة، وعمرانها بالوصفات الأخلاقية الكونية، مقابل شجبها الكونية كأثر تنويري، ونكرانها إمكانية وصف العالم كما تفعل اللاواقعية الأبستمولوجية.  .. وبحسب بوجينا سافيسكا البولندية أن (مسرح ما بعد الحداثة) يرتبط ” في معظم الأحوال بظواهر تظهر بعد سنوات الستينيات من القرن العشرين، ظواهر مثل “العبث ـ absurd” و”الوجدية ـegzystencgonalizm” وغيرها، فضلاً عن تلك التي ترتبط بالظواهر والصيغ “اللا/مسرحية ـ Parateatralne”، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر: “الهابيننج ـ Happening”، والبيرفورمانس ـ Performance”، و”المسرح الراقص”… وهذه الاتجاهات نؤكد انها منضوية ومشتبكة مع التجريب المسرحي أيضا .
وكذا الحال مع (ما بعد الدراما أو الدرامية) الذي حاول هانز تيز ليمان بيان خصائصه وسماته الأسلوبية منذ أواخر ستينات القرن الماضي بأنه : ” المسرح الذي لا يركز على الدراما نفسها لكنه يركز على تطور الجماليات الأدائية التي تخلق علاقة خاصة بين النص الدرامي وموقف الأداء المادي وخشبة المسرح .. واختفاء الحبكة فيه .. واستجابته إلى التقنيات الجديدة فضلا على تركيزه على التفاعل بين الممثلين والجمهور و إلى التحول التاريخي من الثقافة التي تستند إلى النص إلى عصر الميديا الجديدة من الصوت والصورة وهذه الأخيرة من أهم سياقات ما بعد الدرامية ” .
فإذا ما تمعنا بكل سمة من هذه السمات نجدها منسجمة مع مفهوم التجريب المسرحي تماما . ولقد طرح مسرح ما بعد الكولونيالية قضايا سياسية عديدة ومهمة تتمثل بالسلطة والثقافة الشعبية ولهوية والتراث وتحديد العلاقات الاجتماعية بأسلوب مسرحي على مستوى النص والعرض, ينطبق مفهوم ما بعد الكولونيالية على الحالة التي نتجت مع الاستعمار وتراث أو آثار الاستعمار ذاته,  سواء تلك النزعة نحو المزيد من التحرر المادي أو تلك الصورة القائمة للاضطهاد المتواصل في بعض الدول, وعلى غرار الحركات النسوية تستهدف المابعد كولونيالية إعطاء الصوت للجماعة المضطهدة فعلى إثر ذلك جاءت تجربة المخرج البرازيلي اوغستو بوالوه التنظيرية والتطبيقية لمسرح (المقهورين) كنتاج لوعي ما بعد الكولونيالية, عمد للإفادة من المنتج الفكري حول رسم ملامح جديدة لمسرح ثوري مسرح تجريبي يخرج عن معادلة الممثل والمتفرج كما يقدمها النموذج الغربي الذي يعمل برأي بوالوه على الحد من حافز التغيير الاجتماعي عن الممثل والجمهور على السواء فهو يطهرهم من رغبة التغيير وليس من المشاعر السلبية على حد ما أروده أثير السادة في معرض حديثه عن مسرح (اوغستو بوالوه), والأخير هو مخرج مسرحي تجريبي من الطراز الأول. والحال نفسه مع مخرجين آخرين صنفهم الكثيرون- واهمون- في خانة المابعديات الثلاثة إلا أنهم مخرجون تجريبيون من الطراز الأول أيضا أمثال:( ريشارد شيشنر, و ريتشارد فورمان, و جوزيف شاينا, و بيتر سالارز, و لي ستراسبرج, و بيتر بروك, و روبرت ولسون, و ييجي ججيجوفسكي, و انجي فايدا, و كاجيمييج دايميك, و ليشيك مونجيك, و اناتولي ايفروس, وتشايكين, واريانا منوشكين, و هاينر موللر ) وغيرهم من مجايليهم اليوم ومستقبلا.
ختاما, نصل إلى أن المسارح البديلة التي ستظهر مستقبلا وهي بعدد شعرات رأس الباحث التشيلي اندريث جونثاليت كلها ستبقى مسارح تجريبية بلا منازع, ومهما حاولت الموجات والموضات المستقبلية إيجاد مسميات أو ما بعديات جديدة ستظهر لنا .. فمان أن ظهرت (الافتراضية) حتى كتب فيليب ريجو كتابه ( ما بعد الافتراضية استكشاف اجتماعي للثقافة المعلوماتية ), وبدلا من أن يعنون كتابه بـ ( ما بعد النقد ) عنون ( رونان ماكدونالد) كتابه الجديد ب ( موت الناقد ) معلنا عن حفلة العشاء الأخير للنقد والنقاد الذين يزدروهم الجميع .. وإلا لماذا لم نر يوما نصبا يقام لناقد على مر العصور؟
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت