مسارح سوريا في أيدي الميليشيات/ سامر محمد إسماعيل
مُصادرة التجهيزات وإحراق المباني والأرشيفات لكن الجمهور باقٍ
كثيرةٌ هي المسارح التي خسرها السوريون مع اقتراب الحرب من إكمال عامها الخامس، إذ أدّى النزاع المسلح إلى خروج العديد منها من الخدمة. لكن الكارثة الكبرى، كما يقول مدير المسارح والموسيقى عماد جلول، كامنةٌ في أن «هناك مسارح رئيسة خسرناها، ما سبَّب إرباكات لعمل المديرية. مثلاً «المسرح القومي بحلب»، أو ما يُعرَف بـ «دار الكتب الوطنية»، تحوّل إلى خط تماس، وتعرّضت غرفة الـ «كنترول» فيه لقذيفة صاروخية، فلم يعُد صالحاً للعمل، واستُعيض عنه لتقديم العروض الحلبية بـ «مسرح نقابة الفنانين»، حيث قُدِّم عليه مؤخّراً عرضان للأطفال للمخرجين سندس ماوردي وحسام حمود، بالإضافة إلى عرض خاص بـ «فرقة بيت التراث». أما مسرح «المركز الثقافي بالحسكة»، التي سيطر عليه مؤخّراً «داعش»، فتمّ تحريره بعد تعرّضه لعمليات تخريب. يقول جلول: «خلال أيام معدودة، خرّبوا المكاتب الإدارية وخشبة المسرح والتجهيزات التقنية، فاضطر المخرج إسماعيل خلف لتقديم عرضه على مسرح «طلائع البعث» في الحسكة”.
عروض المسرح السوري لم توقفها الحرب ولا إحراق المسارح واحتلالها من قبل القوى الراديكالية، إذ تابع المسرحيّون وقوفهم كخطّ دفاع أول ضد الظلامية والعنف، مستعيرين سيرة رائدهم أبي خليل القباني، الذي تعرّض مسرحه في دمشق للحرق على أيدي الغلاة نهاية القرن الـ 19. ولتسجيل «ريبرتوار» المسرح القومي، فهناك، كما يُضيف جلول «نحو 38 عرضاً في العام 2011. أما العام 2012، فوصلت فعاليات «مديرية المسارح والموسيقى» إلى 74 عرضاً بين مسرحية وأمسية وتظاهرة، وفي العام 2013 إلى 43 فعالية، وفي العام 2014 إلى 58، بينما بلغ عددها في العام الجاري 27 فعالية حتّى شهر آذار الماضي”.
المسارح القومية تنتشر في دمشق واللاذقية وطرطوس وحلب. يقول جلول: «مؤخّراً، أحدثنا في الحسكة والسويداء مسرحين قوميين، لكن حتى هذه اللحظة لم تُضف ليرة سورية واحدة على اعتماداتنا المستحقة من وزارة المالية. نحن في المديرية لا نزال نعمل ضمن حجم الاعتمادات المخصّصة بنا منذ ما قبل الحرب. لكن، عندما يتضرّر مسرح ما، فهذا يعني تدمير البنية التحتية للمديرية. وفقدان مسرح يعني فقدان كامل تجهيزاته التقنية من إضاءة وصوت وديكورات. هذا يرتِّب تكاليف إضافية علينا كمديرية، عندما نقدّم عروضنا في أماكن بديلة، يتطلّب تأمين أجور نقل أجهزة الصوت والإضاءة، ناهيك عن تأمين التيار الكهربائي لهذه الأماكن البديلة، التي لا تكون بالأصل مهيّأة لتقديم عروض المسرح القومي ذات السوية الاحترافية».
** دور المسلحين:
قبل يومين على افتتاح مسرحية «مجنون» (كتابة مروان فنري، إخراج نضال جبارة)، التي كان يُفترض بعرضها أن يتمّ على خشبة «المركز الثقافي»، دخلت ميليشيات «جبهة النصرة» إلى إدلب. يوضح جلول: «أعلنا عن العرض في جريدة «تشرين» الحكومية في 19 آذار 2015، ثم اعتذرت الجريدة من قرّائها بعد تبيان سقوط المدينة في أيدي الجبهة هذه». مسارح عديدة تعرّضت بمستودعاتها للتدمير والتخريب منذ بداية الأحداث: مستودع «المعهد العالي للفنون المسرحية» (حي جوبر شمالي دمشق) للديكورات والأزياء والإكسسوارات، انقطعت أخباره، وخسر الجمهور خشبة «مسرح معرض دمشق الدولي»، التي تعتبر من أعرق المسارح في دمشق، والتي احتضنت حفلات الرحابنة وعبد الحليم حافظ وصباح فخري منذ الستينيات الفائتة، بالإضافة إلى احتضانها عروضاً صيفية متنوّعة، أبرزها لـ «الفرقة الملكية البريطانية»، فإذا بها اليوم مقرّ لاستوديوهات القناتين الفضائيتين «سما» و «الدنيا»، المقرّبتين من الحكومة السورية، وذلك بعد توقيع عقد استثمار بين «مؤسّسة المَعارض» و «فرقة إنانا للمسرح الراقص» (مديرها جهاد مفلح) لـ 90 عاماً، علماً أن الفرقة نقلت نشاطاتها حالياً إلى الدوحة.
في المقابل، لم يعُد مسرح «مدرج بصرى» قابلاً للعمل، مختتماً نحو 30 عاماً من مسيرة مهرجانه الدولي (بدءاً من العام 1978) في المسرح الأثري الأكمل معمارياً في العالم. يقول جلول: «كافة تجهيزات الإضاءة والصوت (تُقدَّر قيمتها المالية بملايين الدولارات الأميركية) التي كانت مُعدّة لإقامة أكبر المهرجانات موجودة في مستودع خاص بالمديرية داخل المدرج الأثري فقدناها اليوم تماماً، ولا نعرف شيئاً عنها نهائياً»، لأن ميليشيات «لواء المهاجرين والأنصار» يُسيطر عليه منذ آذار 2015. وضعه ليس أفضل حالاً من وضع المسرح الروماني في مدينة تدمر الأثرية، الذي شهد أجمل عروض رقص الباليه والفرق السيمفونية والمسرحية، إلى مهرجانات عديدة، إذ تحوّل إلى منصة لحفلات الإعدام الجماعية. بدورها، لم تسلم مسارح مدينة الرقة، التي يتّخذها «داعش» اليوم مقراً رئيساً له، من التخريب، إذ بات مسرح «المركز الثقافي» مقرّاً لـ «المحكمة الشرعية» للتنظيم، مُنهياً بذلك ذكريات «مهرجان عبد السلام العجيلي للرواية» و «مهرجان الرقة المسرحي».
يبلغ عدد مسارح المراكز الثقافية 450، وهي منتشرة في سورية كلّها. هي أيضاً ليست أفضل حالاً من المسارح القومية، إذ خسرت الحركة الثقافية نحو نصف مسارح المراكز، وفي مقدمتها تلك الموجودة في ريف حلب، ومدينتي جرابلس ومنبج، المتحوّلتين إلى مقارٍ أمنية، ومستودعات أسلحة وذخيرة لـ «داعش»، كما تعرّضت مكتبات المراكز لحرق أرشيفها كلّه، وفيه نحو 30 ألف كتاب. في حمص، التي تستعد اليوم لتنظيم دورة جديدة لمهرجانها المسرحي في 18 تشرين الأول 2015، تعرّضت مسارح عديدة تابعة لمراكزها الثقافية للتخريب، كما في الريف الشرقي للمدينة. أما في دير الزور، فقد خرجت المسارح كلها من الحياة الثقافية السورية.
** الهجرة
إلى ذلك، هاجرت كوادر مسرحية وموسيقية بسبب الحرب، مخرجون وممثلون ومصمّمو إضاءة وصوت. يقول عماد جلول: «نحن اليوم لا نشتغل بالكوادر نفسها التي كانت قبل آذار 2011، لا إدارياً ولا فنياً. المباني الثقافية والمسارح خسارة حقيقية، لكن الكوادر البشرية هي الخسارة الفادحة التي لا يمكن تعويضها بسهولة». تأخّر الفنان وصعوبة حضوره إلى البروفة تحت القذائف، والحواجز الواقعة على خط سيره من بيته إلى المسرح، تشكّل صعوبة كبيرة لإنجاز عمل مسرحي، ما أربك تسلسل برنامج البروفات والعروض معاً. هذا تأخّر يمتدّ من ساعات إلى أيام، فيضطرّ المسؤولون تعديل برنامج العروض وأوقات البروفات.
المفاجأة الأكبر في ظلّ ظروف كهذه متمثّلة بالجمهور، المواظب على حضور العروض. يعقّب جلول: «شاهد «دائرة الطباشير» لأيمن زيدان في «مسرح الحمراء» (دمشق) نحو 8500 متفرّج في 15 يوماً. المُساعد في هذا الأمر اقتراب مواضيع العروض التي تُنتجها المديرية من الحرب. لكن، ألا تساهم الرقابة في تقييد مخيلة الفنان المسرحي، وإحجامه عن العمل مع المديرية؟ يجيب جلول: «هذا غير صحيح. لا رقابة على النصوص المسرحية، باستثناء لجنة القراءة التي تعطي تقريراً فنياً بحتاً فقط لا غير. هذه لجنة موجودة منذ تأسيس «المسرح القومي» (1961)، يتبدّل أعضاؤها من حين إلى آخر. مهمتها فنية فقط. ليست لدينا لجان منع أو حذف. الموضوع فني ضمن الحدود المقبولة».
إلى ذلك، هناك مسألة الأجور. 90 بالمئة من الفنانين يتقاضون رواتبهم. يقول جلول: «كثيرون لم يُقدّموا عرضاً مسرحياً واحداً منذ نحو 20 عاماً، لكنهم يتقاضون رواتبهم. تبلغ نسبتهم 95 بالمئة، وهؤلاء يبقون في منازلهم. نتحدّث هنا عن 350 فناناً موظّفاً، معظمهم ممثلون متخرّجون من «المعهد العالي للفنون المسرحية» عُيِّنوا بموجب مرسوم الفنانين. هؤلاء غير مطالبين بدوام رسمي، لكن دائماً لديهم أعذار للامتناع عن العمل: هذا لا يعمل مع المخرج فلان، وذاك لا يعجبه نصّ فلان». يُضيف جلول أن «الفنان لا يوظَّف. ما يناسب العام 1961 لم يعد يناسب العام 2015، لا في الأنظمة ولا في القوانين». هكذا، لا تستطيع المديرية تغطية نفقات الدعاية والإعلام الخاصة بالعروض، فقانون المديرية كما يوضح جلول «لا يسمح بأخذ ليرة سورية واحدة من أي راعٍ أو مموِّل (سبونسر). واردات العروض كلّها تُحوَّل إلى خزانة وزارة المالية، الداعمة الوحيدة لـ «المسرح القومي» في سورية. حتى ثمن بطاقات الدخول لا يزال رمزياً (150 ليرة سورية، ما يُعادل نصف دولار أميركي). الثقافة في سورية غير مُربحة، لذلك أتمنى أن نشتغل على مفهوم شباك التذاكر، وأن يكون ريع هذا الشباك للفنان المسرحي». يُذكر أن الأجور التي يتقاضاها المسرحيون السوريون اليوم هي نفسها التي كانوا يتقاضونها قبل الحرب. الأحداث الدامية فاقمت المشكلة. الفنان المسرحي يتقاضى ما يعادل 1500 دولار أميركي مقابل عرض واحد، لكن اليوم بات المبلغ مساوياً لما يُعادل 300 دولار أميركي. هذه أجور لا تُذكر في مقابل ما يبذله المسرحيون من جهدٍ في الكتابة والإخراج والتمثيل، كما على صعيد الإضاءة والصوت والديكور. رغم ذلك، هناك مَن لا يزال يعمل على الخشبة، فهاجسه الحقيقي هو المسرح، ورغبته كامنةٌ في أن يقف على الخشبة.
لكن، لماذا لا تدعم المديرية الفرق والتجمّعات المستقلة؟ يجيب جلول: «في كل عام، لدينا تجربة أو اثنتان لشباب يقفون للمرة الأولى على الخشبة. المديرية تدعم تجمعات ما، وتوفر لها المسرح والتقنيات وتطبع لها بطاقات الدعوة، وتعطيها فنيي إضاءة وصوت مجاناً. لكننا لا نزال غير قادرين على أن نكون بديلاً عن مسارح «الجامعي» و «الشبيبي» و «الهواة» و «الحر» و «العمال». مؤسسات الإعلام لا تسأل عن ميزانية المسارح الشريكة لنا في الإنتاج، وأين تنفق الأموال اليوم؟ أين ميزانية «مديرية المسارح والموسيقى» في «وزارة التربية»، وهي مديرية يجب أن تكون منافسة في عملها ووظيفتها لـ «مديرية المسارح والموسيقى» التابعة لـ «وزارة الثقافة»؟ هذا يقودنا إلى سؤال عن المسرح المدرسي وجدية مَن يشتغلون فيه كموظفين، من أجل إخراج وإعداد عروض في المدارس. هؤلاء لم نشاهد لهم عرضاً واحداً منذ أعوام طويلة».