" اثر التلقي".. جديد الباحثة المغربية د. نوال بنبراهيم/ بشرى عمور
صدر حديثا كتاب “أثر التلقي” للدكتورة نوال بنبراهيم وهو من منشورات طوب بريس بدعم من وزارة الثقافة ويقع في 177 صفحة.
وقد صرحت الكاتبة في مقدمة كتبها:” لقد عرف تاريخ الأدب وتاريخ الفن بصفة عامة ركاما من المناهج النقدية والاجتهادات التنظيرية التي حاولت بسط طروحات متعددة اعتبرتها ملتحمة ومتكاملة ومن بين هذه النظريات نذكر نظرية التأريخ الأدبي والنظرية الماركسية ثم النظرية البنيوية التي ركزت مفاهيمها الإجرائية على ثلاثة أقطاب هي: المؤلف والسياق والنص.
وكما هو معلوم، فإن التأريخ الأدبي قد رصد أدواته الإجرائية لدراسة بيوغرافية المؤلف باعتباره سلطة مركزية، وتناول تحليله الأنواع الأدبية بطرق خطية أملت أحكاما تعميمية استعانت بالمعايير التاريخية والاجتماعية وأحكام الناقد الذاتية.
وقد وجهت الماركسية من جهتها عنايتها إلى اكتشاف وظيفة جديدة للظاهرة الفنية لعدم إقتناعها بنتائج النظرية التأريخية. ومن ثم انصبت أسسها الفكرية على الاهتمام بآليات الواقع من خلال تحديد العلاقة الجدلية بين الإبداع الأدبي والبنية التحتية.
أما النظرية البنيوية، فقد اختزلت أبحاثها بتركيزها على النص بحيث التجأت إلى تفتيت الجمالية الأدبية بواسطة منظومة من العلاقات المنغلقة تعمل على استقصاء شكل الإنتاج الأدبي حتى تتمكن من إبراز طرقه الجمالية.
قد يلاحظ القارئ أننا لم نطل الاستدلال على أن هذه النظريات الثلاث قد حصرت البناء الدلالي للمؤلفات في إطار مرجعي، أو أنها قدمت دراسة سوسيو ثقافية للظاهرة الأدبية، أو أنها استوعبت التجربة الفنية في إطار مغلق، كما أعطت دراسات أحادية الجانب لأنها ركزت على عامل واحد دون باقي العوامل، بل استهدفنا أن نلفت النظر إلى شيء مهم هو أنها سهت عن محور يعد عنصرا أساسيا في العملية التواصلية هو المتلقي.
وعليه، فإنها لم تؤسس نظرية تهتم بالمتلقي الذي يلعب دورا فعالا في إنجاز الإنتاج الفني بل اعتبرته عنصرا سالبا لا يتجاوز دور المستهلك. وهو أمر إن صور شيئا فإنما يصور الإهمال الذي لقيه المتلقي من قبل الدراسات الفارطة، وبذلك “يكون تاريخ الأدب والفن بصفة عامة قد ضيق الخناق.. على القارئ أو المستمع أو المتفرج المتأمل “.(1) و لهذا كان من اللازم أن تظهر نظرية ترد الاعتبار إلى المتلقي وتبرز أهميته في دراسة الظاهرة الأدبية والفنية.
وبهذا الصدد لا نخفي أن نظرية جمالية التلقي بزغت على يد هانس روبير ياوس Hans Robert Jaussوأن نظرية الأثر الجمالي التي ظهرت على يد ولف كانك آيزر Wolf Gang Iser لتأكيد عجز الإنتاج الفني عن خلق حوار تذاتي intersubjectif دون بناء ذات واعية تنقل وجوده من القوة إلى الفعل حتى يكتسي طابعا إجرائيا لا يكتفي باقتلاعه من الجمود وتفجير حمولاته الاحتمالية، وإنما يكثفه بدلالات غير منتهية تكسبه وجودا مستمرا.
وبناء على ذلك، قررنا أن تكون صيغة الكتاب هي “أثر التلقي”، لنهتم بالمتلقي الذي يقتلع العمل الفني من الجمود ويفجر حمولاته الدلالية واستراتيجياته التأويلية المتعددة من جهة ، ولنهتم من جهة ثانية بالأثر الجمالي الذي يتشكل باندماج العمل الفني والذات المتلقية، فيقوم التواصل على علاقة ثنائية تتأطر بالتفاعل الدينامي بين العمل الفني والتلقي الذي يروم إلى انفتاح التجربة الذاتية على التجربة التذاتية .
وتتألف صيغة موضوع الكتاب “أثر التلقي” من وحدتين هما: التلقي، والأثر وتعد ركنين أساسيين في استراتيجيته، ووحدتين مترابطتين لأن الاقتضاء التخاطبي يستلزم تظافر جهود مقاربات النص ومقاربات المرسل إليه بهدف توطيد تداولية الإنتاج. إن كنه الأثر الجمالي لا ينبثق إلا في حقل التلقي الذي يجسد فعلا إنجازيا يضمن إرساء المؤلف عن طريق زعزعة بنيته المنغلقة إثر كل قراءة، الأمر الذي يثير صدى جديدا.
ويبدو أن الوحدة الدالة المفسرة لمصطلح التلقي قد وردت في معجم لسان العرب لابن منظور بالشكل التالي: تلقاه أي استقبله وفلان يتلقى فلانا أي يستقبله: وأما قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات: فمعناه أنه أخذها عنه، ومثله لقنها وتلقنها، وقيل فتلقى آدم من ربه كلمات أي تعلمها ودعا بها”. (2) بينما صاغت المعاجم الفرنسية أحيانا معنى هذه الوحدة ب”فعل استقبال مرسل إليه بضاعة ما كلية “ماديا” و”فعليا”، (3) وجعلتها أحيانا أخرى تكتسي معنى “أخذ، استقبل ما هو مرسل ومبثوث”. (4)
غير أن معنى لفظ “التلقي” انحصر في استقبال الشيء المادي والمجرد دون أن تضم التعريفات إيحاءات ثانوية تضفي صفات تفسيرية عميقة على اللفظ. ولذلك كان لا بد أن نحاول استكناه البنية التحتية للمصطلح الذي يشمل مرحلتين تعتبران ركيزة أساسية وشرطية في كل مقاربة تواصلية.
أ- أولاهما: هي التلقي الحسي الذي يتوقف على انعكاس صورة المحسوس الخارجي في الجهاز العصبي المركزي نتيجة تأثير العالم الموضوعي على الحواس التي تقوم بمهمة نقل الإرساليات الحسية من المحيط الخارجي إلى الدماغ.
إلا أن ما ينبغي الإشارة إليه أن نشاط استقبال النصوص المكتوبة لا يستلزم تتبع نظام مراحل استقبال الصور الحسية، وإنما يتكئ الإجراء الإستقبالي على اشتغال الذاكرة بالدرجة الأولى اشتغالا يعين على فهم الفونيمات المقروءة وتشكيل فعل تصوري يلائم المعنى بالارتكاز على حمولة التجربة الماضية.
ب– والمرحلة الثانية ترتكز على نشاط تلقي الذاكرة التي تستقبل الإرسالية وتخزنها أولا، وتحرك التجارب الاستقبالية الماضية ثانيا، ثم تمزج التلقيات الحاضرة والماضية ثالثا لاكتشاف معاني الرسائل المبثوثة أو إعادة إنتاج صور فكرية.
وبناءا على ذلك، يبدو أن حدود مسافة التلقي لا تنجلي إلا بتفاعل عنصرين أساسيين هما الموضوع الخارجي والمتلقي. وعن طريق هذا الإجراء تتم عملية صياغة الدلالة الأولى التي تنحصر في تحقيق معنى النص وفهمه ليلج المتلقي بعد ذلك حدودا ثانية تأتي نتيجة حتمية لتلاقح فعلين ديناميين: تلقي الحس وتلقي الذاكرة، وذلك وفق آلية من العلاقات تفرز الأثر. ومن هنا، نستطيع تسمية الحدود الثانية بأثر التلقي الذي يولد نتيجة مخاضات حقل التلقي التي تفرز أثرا انفعاليا وأثرا إبداعيا.
ويقوم المنهج الذي نعتمده في هذ الكتاب على الأساسين التاليين:
المقارنة:
تدخل المقارنة في حوار ثنائي يستوعب أوجه الاختلاف والائتلاف التي تطبع وجهات نظر منظر جمالية التلقي (ياوس) ومنظر الأثر الجمالي (أيزر).
العلاقة الثنائية:
ينصب الكتاب في بؤرة تتلاقح فيها علاقاتان تتقاطع وفق فعاليات دينامية تتداخل فيما بينها.
أ-علاقة تركيبية تدمج المفاهيم الإجرائية في علاقة خطية تتالف في سلسلة تركيبية وتخضع لوحدة ترتيبية تسمح بولوج علاقة استبدالية في مرحلة تالية.
ب- علاقة استبدالية ترتكز على المستوى التركيبي لتغوص في المدلول الكموني لمفاهيم نظرتي التلقي والأثر.
وإذا كانت مقاربة الفصل الأول تهتم باستكشاف المقابلة الثنائية بين ياوس في كتابه “من أجل جمالية للتلقي” (5)Pour une esthétique de la réception و أيزر في كتابه ” فعل القراءة نظرية الأثر الجمالي”(6)l’Acte de lecture théorie de l’effet esthétique، فلأنها تحاول تجلية نقط الاختلاف والائتلاف بين الدارسين. ولذلك ستقوم المقاربة بتفكيك البنى الكبرى لاستراتيجي الكتابين حتى تتمكن من تبين الطابع المتجانس لبعض الرؤيات المقولية والغوص في المقابلات التضادية لبعض المفاهيم التي تتطرق إلى ظاهرة التلقي والأثر.
ولا ننفي أن هذا الإجراء قد مكننا من الإطلاع على النظريات السابقة التي تناولت الإنتاج الإبداعي بالدرس والتحليل وضربت في أعماق التنظير دون أن تنتبه إلى الذات المتلقية التي تعتبر شرطا ضروريا لإنجاز التجربة الجمالية، وهيأ الفرصة لنا لرصد البنيات المركزية لمثيرات الأثر الجمالي لاستجلاء طرق تقديم النص واستقصاء الاستجابات الممكنة التي وإن كانت تنقد العمل الفني من الطابع الافتراضي، فإنها تترك المجال مفتوحا لنسيج تأويلات احتمالية. وبهذه الطريقة تتطور التجربة الجمالية.
أما الفصل الثاني، فإنه يستقطب تقاطبات عاملية تصوغ توجيهاتها حول مسافة التلقي التي تعد بوثقة تنصهر فيها آليات تلقي الحس وتلقي الذاكرة، بينما يتشعب الطرح الثاني من الفصل الذي عنوناه بأثر التلقي إلى عنصرين:
أ- يحثك العنصر الأول بالملامح الأولية لخصوصية الأثر التي تحرك نشاط الحالات النفسية وتخلف بصمات ملموسة على المستوى الفيزيولوجي.
ب– ويتحسس العنصر الثاني الإجراءات العميقة التي تتكفل بعملية إعادة إنتاج جديد يملك أفقا مغايرا يفرض تركيبا جديدا لبنيات العمل الإبداعي الماضي ويقدم كتابة ثانية تنأى عن إنتاج المؤلف. وبصفة عامة، فقد توخينا في هذا الفصل إبراز علاقة التلقي بالمسرح من جهة، وإظهار الفروق التي توجد بين النصوص المكتوبة والعروض المسرحية من جهة ثانية”.
** الهوامش:
1/ Hans Robert, Pour une esthétique de la réception, préface de Jean Starobinski, Gallimard. Paris, 1978, p :11.
2/ فن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت ط:1، 1990، م.15، ص:256.
3/Le Robert, Dictionnaire Alphabétique et Analogique de la langue française, société nouveau Littré, Paris, Tome VIII, p :87.
4/ Grand Larousse de la langue française, Larousse, Paris, 1977, tome siexième, p :4926.
5/ Hans Robert Jauss, op. cit p :11.
6/ Wolf Gang Iser, L’Acte de lecture théorie de l’effet esthétique, Pierre Mardaga, Bruxelle, 1985.