أيّام قرطاج المسرحيّة…هذا على الحساب فلا شيء في الكتاب/ بقلم: لطفي العربي السنوسي
لا يستقيم الحديث عن حال أيام قرطاج المسرحية بمعزل عن حال البلاد التونسية، الحال السّياسي والاجتماعي والاقتصادي ما بعد ثورتها الطريفة وهي ثورة ريادية ـ كما في الحكاية ـ تماما كريادة قرطاج المسرحية ـ في الرواية ـ والتي وصلت دورتها السابعة عشر ولم تنضج لكأنها الآن .. الآن ابتدأت.
هنا مقدمات للدخول والخروج سريعا بعد تصفح كتاب قرطاج ونحن بصددها نتابع منتهى الخيال الذي خطط ودبر ونفذ أشغال الدورة السابعة عشرة.
الباب الأول: المناخ العام يرمي بظلاله
تنعقد الدورة السابعة عشرة لأيام قرطاج المسرحية وسط مناخ سياسي واجتماعي واقتصادي متوتر ومتداع.
سياسيا يواصل الحزب الحاكم معركة الزعامة بين قيادات الصف الأول وقد تشظى إلى شلل ونحل بطابورين ـ طابور مرزوق أمين عام الحزب وله طموحات سياسية فوق إمكانياته وطابور حافظ السبسي نجل رئيس الجمهورية وله أيضا طموحات سياسية أكبر من امكانياته وبين هذا وذاك توزعت قيادات الحزب الحاكم على المنابر الاعلامية لمزيد توسيع دائرة المعركة التي تدنت فيها الأخلاق السياسية إلى أرذل المستويات… معركة أضفت بظلالها على حكومة الحبيب الصيد وقد وصلها ضجيج المعركة فأصابتها بأكثر من قذيفة صديقه».
لن نطيل في هذا الباب فقط نقول أن التونسيين قد خذلهم الحزب الحاكم بعدما أبانت قياداته انتهازية عالية بتهافتهم المرضي على غنائم الحكم؟
لاشيء تبدّل على المستويين الاجتماعي والاقتصادي بل توسعت دائرة الفقر والبطالة مقارنة على ما كانت عليه قبل الثورة مع تضخم الاسعار وارتفاع مستوى التداين وحالة الانكماش الاقتصادي وانتشار جرائم الحق العام والجرائم الارهابية والتطرف كل هذا أدّى إلى حالة من الاحباط العام تجلّت خاصة في عدم الإيمان بقيم العمل والاجتهاد والابداع مع عودة قيم التواكل وعقلية «البيليك» التي هتكت مؤسسات الدولة زائد توسع دائرة الرشوة والفساد والمحسوبية.
واقعة البيضة … والمأثور الاخواني
وسط هذا المناخ بما فيه من خيبة واحباط لم يعد التونسي معنيا بقيم الجمال والفن والابداع ولم تول حكومات ما بعد الثورة أي اهتمام بالعمل الثقافي فهو لا يمثل أولوية من أولوياتها المستعجلة بل أن وزير الثقافة الاخواني في حكم الترويكا وفي أول تصريح له أكد ودون تردد أن وزارته ستعمل على «أسلمة الثقافة» وكانت له صولات ومقولات مأثورة وأبدى عدائية وحقد كبيرين على أهل الفن والثقافة ما دفع بالسينمائي الشاب نصر الدين السهيلي إلى قذفه ببيضة على رأسه ببهو دار الثقافة ابن خلدون في ردة فعل ذات دلالة عميقة تعكس تردي الوضع الثقافي في تونس وتدهوره بعدما كنا نعتقد في ريادته خاصة في المجالين السينمائي والمسرحي؟
بعد واقعة البيضة تعمق حقد الوزير الاخواني على أهل الفن والثقافة فأصبحوا منبوذين لديه وأصبح منبوذا لديهم إلى أن رحل ولا أحد تأسف على رحيله.
منتهى الارتجال
لم يتبدل حال الثقافة ما بعد الثورة التونسية فلا الوزارة بوزرائها المتعاقبين قدموا بدائل ورؤى جديدة للعمل الثقافي ولا أهل الفن والثقافة بادروا بمقترحات وبدائل بل أن العائلة الثقافية بكل روافدها أصيبت بنوع من التقاعس فاستقال منها من استقال أمام «تسونامي» الخطاب السياسي وهجمة الاحزاب السياسية وسطوة الاخوان على المنابر وعلى الشارع فضمر الابداع وتعطلت ماكينة الانتاج وامتلأت الساحة المسرحية بالنطيحة والعرجاء فلم نشاهد غير ردود أفعال سطحية تحت عناوين مختلفة تحركت في مدار الثورة والثوار متمثلة خطابا ثوريا دعيا تخلى عن شروط المسرح في سبيل تحقيق خطاب «ثورجي» وشعبوي مباشر «يقول الثورة» بفجاجة و»قبح» أعمال نفر منها الجمهور وابتعد عنها وقد انخرط الفاضل الجعايبي مثلا في هذا «الانفعال» وقدم عملا متواضعا بعنوان «تسونامي» أدهش النقاد والمتابعين لتجربته المسرحية ـ لتواضعه وسطحيته.
سنوات كبيسة عرفتها تونس ما بعد الثورة على كل المستويات وخاصة في المجال الفني والابداعي وتحديدا في الرافد المسرحي الذي ضاقت مقترحاته إلى حد لم نعد نراه ما عدا من رحم ربك من شباب المسرح التونسي ممن سعوا لنحت تجربة بعيدا عن تجارب الآباء على سبيل الذكر فقد لفتت مقترحات المسرحي الشاب الشاذلي العرفاوي الانتباه من خلال عملين مميزين «ديزير» (رغبة) ومسرحية «برج الوصيف» وتعرض في قرطاج المسرحية كذلك تجربة غازي الزغباني (بلاتو) وحافظ خليفة في مسرحية «السقيفة» ووليد الدغسني في «الماكينة» وتجارب أخرى شابة تعد على أصابع اليد الواحدة.
قرطاج المسرحية: والقرار الخاطئ…
تجيء دورة قرطاج المسرحية هذه السنة بعد قرار تحويلها إلى تظاهرة سنوية وهذا قرار خاطئ اتخذه الوزير السابق دون استشارة العائلة المسرحية فهو قرار «اداري ـ مكتبي» لا يعي خطورته على الايام المسرحية ويجهل خصوصياتها وخصوصيات العملية الانتاجية.
فالانتاج المسرحي في الوطن العربي عموما وفي تونس خصوصا يعوّل على دعم الدولة بالكامل وهذا الدعم يخضع لشروط مرتبطة أساسا بعملية التوزيع للأعمال المسرحية المدعومة وبالتالي فإن المؤسسة المسرحية غير قادرة منطقيا على انجاز أكثر من عمل واحد في السنة فبعد حصولها على الدعم وتفرغها لانجاز العمل في مدة لا تقل عن الستة أشهر فإنها مطالبة بعد ذلك بتوزيع الانتاج حسب التواريخ والفضاءات والولايات التي تحددها إدارة المسرح وقد تمتد عملية التوزيع على موسم كامل أو أكثر ووفق هذا المنطق فإن أيام قرطاج المسرحية لن تجد أمامها عروضا مسرحية جديدة وستكون بالتالي مجبرة على تكرار نفس العروض لذلك كانت قرطاج المسرحية منذ تأسيسها تنعقد كل سنتين من أجل أن تفسح المجال للمبدعين المسرحيين لانجاز أعمال جديدة وبذلك تتجنب تكرار العروض ما ستقع فيه الأيام المسرحية في دورتها السنوية وعليه نؤكد ان قرار تحويلها إلى تظاهرة سنوية فكرة شعبوية لا علاقة لها بواقع الانتاج وطبيعته المخصوصة.
الدورة السابعة عشر لايام قرطاج المسرحية ـ وكما أشرنا ـ بداية ـ انعقدت ـ اعتباطيا ـ مرتجلة فلا تصورات ولا مقترحات لدى ادارتها بل هي تنازلت عن كل ما يدل عليها ويسمها لكأنها بلا ذاكرة وبلا تاريخ.
هي دورة تشبه «وزارة الثقافة» في اعتباطية خياراتها وقراراتها بل هي تشبه البلاد وهي ترتجل شؤونها اليومية؟
نعرف أيام قرطاج المسرحية منذ دورتها التأسيسية الأولى في زمن غير هذا الزمن الثوري لمّا كانت المغامرة بحساب عسير ولما كان الكلام غير مباح أو متاح وبرغم ذلك ترسخت قرطاج كفضاء للفرجة ولنقد الفرجة ومساحة شاسعة للتجريب ولممارسة التنظير وكان المسرح التونسي أواخر الثمانينات وبداية التسعينات «العراب» صاحب الريادة التي اجتمعت من حولها التجارب العربية استلهاما من التجربة بمحاكاتها أو محاذاتها وكان «عرب المسرح» مدهوشين بالمقترحات الجمالية والفنية للمسرح التونسي وخاصة تجربة الجعايبي وعز الدين قنون رحمه الله وتوفيق الجبالي ومحمد ادريس وكان للتجربة التونسية تأثير عميق على المسرح العربي وخاصة في سوريا وفي العراق وما سمي بمسرح الصورة في تجربة صلاح القصب الذي كان وما يزال منبهرا بأعمال المسرح الجديد.
أيام قرطاج أيضا كانت تستمد حضورها وقوتها واشعاعها من إلتماعات ـ المسرح التونسي فهي تظاهرة قرينة للتجربة فلا سبيل لغير المسارح الطلائعية تنظيرا وممارسة.
سعد الله ونوس عرفناه هنا بدار الثقافة ابن خلدون في منبر نقدي وحواري مباشر كذلك كان اللقاء مع الكاتب الفذّ فلاح شاكر وعواطف نعيم وصلاح القصب والكاتب المسرحي والشاعر السوري ممدوح عدوان وعبد الكريم بن رشيد في احتفاليته والطيب الصديقي في حلقاته.. أجيال وأجيال مرّت على قرطاج المسرحية ودفعتها لما كانت عليه من ريادة…
في هذه الدورة تم التنازل بوعي عن كل شئء فبعد الغاء جوائز التانيت في دورات محمد ادريس تجيء هذه الدورة لتتخلى عما يمثل جوهرها وروحها وعنوانها ونعني هنا مجالس الحوار والنقاش وما نسميه بالمجالس النقدية للعروض والتي كانت تنعقد كل صباح بدار الثقافة ابن خلدون في لقاءات مباشرة مع مسرحيين ومؤلفين وممثلين ويحضرها النقاد والاعلاميون من مختلف المنابر التونسية والعربية.
هذه المساحة كانت جوهر الأيام وأكثرها حيوية وحماسة وهي المتنفس الوحيد لجمهور الدورة للاقتراب ـ انسانيا وفنيا ـ من صناع الفرجة المسرحية وكانت أيضا مساحة للنقد ولفهم التجربة.
ومن غرائب هذه الدورة أيضا أنها تنعقد بلا محامل اعلامية ولا نقدية فهل يعقل أن لا تكون للأيام نشرية يومية ترافق الفعاليات وتكرم الضيوف من خلال محاورتهم ومحاورة تجاربهم إضافة إلى كونها دليل المهرجان وبوصلته … ثم ما الذي يتبقى ـ في الآخر ـ من الدورة … لا شيء ما عدا النشرية كوثيقة من أجل الذاكرة.
دورة تشبه وزارة الثقافة في اعتباطية خياراتها
يبدو أن إدارة المهرجان ومن ورائها وزارة الثقافة قد اختارت ان تنظم دورة بلا ضجيج وبلا خيال وبلا افكار أي مجرد حفلة تنكرية الدعوة فيها مفتوحة للكل كل المسارح دون استثناء ودون انتقاء ودون شروط فنية وجمالية في عملية تجميعية تفتخر بالكم غير معنية بجدّة التجربة وبمدى أهمية مقترحاتها…
هل شاهد مدير الدورة الاعمال «الكاراكوزية» القادمة من افريقيا (فقط لتسجيل البعد الافريقي للمهرجان) هل شاهد كم الاعمال العربية التي تحضر الدورة باعمال لا يمكن قبولها في دورة مدرسية (ولن نذكر العناوين تجنبا للاحراج).
لا نعتقد ان ادارة المهرجان قد وضعت مقاييس وشروط للمشاركة في قرطاج المسرحية وربما تفاجأت بهزال ورداءة عدد كبير من الاعمال المشاركة بما في ذلك بعض المشاركات التونسية فلجنة انتقاء العروض ـ كما نعلم ـ اكتفت بالاطلاع على مشاهد موضوعة على CD وهي غير كافية لتقييم العمل وبالتالي التأشير على حضوره.
لقد تم افراغ أيام قرطاج المسرحية من كل عناصرها الحيوية بتحويلها إلى مجرد حفل بلا رائحة وبلا مذاق وقد نجحت إدارتها في جمع كل ما هو ردئ إلى جانب القليل من الالتماع في بعض التجارب العربية والتونسية والحمد لله أنها بلا ذاكرة وبلا وثائق ولا محامل اعلامية فتدخل بذلك في المنطقة المنسية من ذاكرة قرطاج المسرحية.
أما عن إعلان قرطاج لحماية المبدعين المعرضين للمخاطر وندوة المسرح وحقوق الإنسان فسنخصّهما بورقة كل على حدة.
** لطفي العربي السنوسي (ناقد مسرحي، مدير رئيس تحرير جريدة » الصحافة اليوم« التونسية)