" مقامات ابن تايه" والتيه في منطق القوى الخفية/ بقلم : علي عليان
فرقة مسرح رأس الخيمة من ضمن نتاجاتها الفنية قدمت عرضا لمسرحية مقامات ابن تايه ضمن فعاليات الدورة 22 لمهرجان الأردن المسرحي ضمن نسيج فني أبدع في تجلياته كاتب النص ومخرجه مرعي الحليان ضمن فريق مسرحي إماراتي راق له أن يمتع ويستمتع في مستويات أدائه المسرحي الخلاق طوال مدة العرض مما يجعله يرتقي إلى بناء عرض مسرحي متماسك إلى حد كبير سواء على صعيد الشكل أو مضمون النص الجدلي في طرح المفاهيم.
** النص :
في المقام يصحو الإنسان لسرد واقع متخيل لشخص تاه في التيه فأنبت جدلا بمسماه ” ابن تايه ” فهو تاه في ظلمة الأيام وتناقضاتها نتيجة للعقل المدبر المسيطر على مقدرات الحياة بكل تفاصيلها وإن كانت نشازا موسيقيا فهذا ليس هاما بقدر أن تكون ضمن التيار الأحادي الجانب في تفكير ممتد أفقيا إلى كل نواحي الحياة وعموديا لما هو أبعد من سطح الأرض، فبعد (نهارات علول) جاءنا ” المرعي الحليان ” بأفق جديد امتدت خيوطه إلى قلوب من سطروا الحكاية ونقلوها إلى قلوب متلقيها بأريحية شديدة فكانت خيوط ( مقامات ابن تايه ) تتصدر المنطوق الفعلي لشخصيات النص والتي حاكها بحرفية عالية لطرح الصراع الأزلي بين الخير والشر والفعل والفعل المضاد وتشابك شخصيات الحكاية ومحاولة تحررها من الطاقة السلبية في الحياة ، فحين يخلص الإنسان من تابو يقع في تيار تابو آخر أكثر تعقيدا يسلب الإنسان حريته أمام الطاقة الكونية المسيطرة على مقدرات العالم. وهنا فصلها الحليان من خلال شخصية ابن تايه ” سالم العيان ” ومن خلال شخصية ” المتعهد ” والصراع الداخلي بين الغني والفقير من خلال الزوجين وصراع الأجيال بين الابن وأبيه .
لذا وفي سياق التفسير الدلالي للنص نجد أن القوة المرئية تستمد قوتها من تحالفاتها مع عدة قوى خارجية وكذلك قوى مساندة لها من الداخل، كل هذا يضاف لما تملكه هي من أدوات وعناصر قوة ذاتية ضخمة يصعب إخفائها ويصعب تحريكها ونقلها من مكان لآخر على مسرح الأحداث دون علم القوة الخفية. وما أن استقرت القوى المرئية وتملكت كل المقومات حتى صارت عناصر وأدوات تلك القوة شواخص أهداف يسهل جداً على القوة الخفية ضربها والسيطرة عليها، ومن ثم تقطيعها كتجزأة المجزأ أصلا، هذه القوة الخفية برهنت للعالم أن من يملك ضخامة في القوة فهو بكل بساطة يستطيع السيطرة على كل الواقع، لكن أحيانا وأمام صمود الإنسان إما التحديات بكافة الوسائل المتاحة يجعل من ضخامة هذه القوة باتجاه انزلاق حاملها إلى مستنقع العجز والضعف الذي سوف يقودها للضمور والتهاوي مثلما ضمرت مع مرور الوقت أعداد القوى المتحالفة والتاريخ شاهد على كل الانهيارات أمام الصمود وتحدي الإنسان ورفضه للظلم وهذا ما نراه مسقطا على واقعنا العربي كما نراه في المحيط اليومي في مختلف بلداننا العربية بحيث أصبحنا نرى أن الخيانة أصبحت وجهة نظر يعتد بها بكل صراحة ووضوح إلى درجة التباهي بهذه الخيانات وبناء التحالفات حتى مع العدو التاريخي الأول .
** العرض:
جاء بناء عرض (مقامات ابن تايه) مبنيا على التوضيح العمودي للشخصيات رغم انبطاحية نفسياتها وتناقضاتها المجزأة ببناء سينوغرافي متعرج، ارتكز على البناء التدريجي للغة السينوغرافيا وبناء مكعبات ضوئية شكلت رقع الشطرنج أساسا لهذا البناء السينوغرافي من أجل التوصيل العمودي دون الولوج في بدايات العرض في مفاصل الحدث بل من خلال السردية التي يرتكز عليها بناء النص وأوقعت العرض في بعض مفاصله في رتابة هذا السرد. ولكن أسلوبية التمثيل التي ارتكز إليها ” الحليان ” كمخرج أنقذت النص من رتابة هذه السردية، فجاء أداء سالم العيان لشخصية ابن تايه معتمدا على تلقائيته كممثل بارع متمكن من كل أدواته وخصوصا في حسه العالي وصدق أداءه ، مما جعله يتغلب على الكثير من مفاصل العرض وبالتالي جاءت باقي أدواته سهلة ممتنعة، مما أعطى أبعادا عدة للشخصية وجعلها مركبة تركيبا دراميا خلاقا مما أثرى العرض بأدائه التمثيلي الساحر، ولأن الحليان كاتبا ومخرجا للنص فلم يتغلب فيه المخرج على الكاتب ولم يتمرد على نصه بل حافظ على كل مفرداته وهذه مسألة طبيعية حين يكون المخرج كاتبا من أجل المحافظة على سحر الكلمة أحيانا والنظر إليها كابن مدلل له وهنا السبب الرئيس في وقوع العرض في بعض مفاصلة في مطب الرتابة والملل حفاظا على سحر الكلمة، ولكن لو خرج من هذا من خلال دراما تورج محايد لكان أعطى العرض بعده التكاملي في الشكل والمضمون وتغلب على الكثير من مواقع الخلل. وفي السياق أيضا عند باقي الشخصيات الأخرى في الصراع الداخلي بين الزوج والزوجة ضمن نسيج الصراع الطبقي المفعم بتناقضات الواقع بكوميديا خفيفة محببة استطاعت أن تجذب حس المشاهد إلى هذين الزوجين رغم ثقالة دم الزوج التي أوصلها الممثل الذي أداها باقتدار وحنكة ورشاقة رغم بناء جسده الممتلئ. وفي المقابل جاءت الفتاة التي أدتها ميرة العلي بكل شفافية وخفة ظل تناغمت مع معطيات الشخصية وارتقائها مع الشخصية الأخرى وهي الزوج. أما شخصية الابن الانتهازي والتي أداها أحمد الزعابي باقتدار كبير كون هذه الشخصية تعيش صراعا داخليا بينها وبين ذاتها وبينها وبين أبيها وبينها وبين الحاجة إلى المال بل وإذلال الذات من أجل الحصول عليه بكل الوسائل حتى وإن كان بالمرور على جثة أبيه. أما المتعهد الموسوم باللباس الأنيق فهو متوفر بيننا بشكل دائم ويعيش في هذا العالم في كل وزمان ومكان وأداه هذا الشاب الرشيق بكل أريحية حتى وإن كان نشازا في طرحه لمنطق الأشياء وتفسيراتها لمفهوم سيطرة القوى الخفية.
وفي النهاية ورغم بعض الهفوات الصغيرة التي شابت العرض إلا أنه امتلك مقومات العرض الناجح بكل تفاصيله وصولا إلى محبة وذائقة الجمهور الذي خرج منتشيا وحصوله على وجبة فكرية دسمة جعلته قادرا على التخيل وتفسير الأشياء ومعطياتها. وأظهر العرض فريقا منسجما مع ذاته فاهما لأدواته مرتقيا بذائقة الجمهور محترما لتاريخ فرقة مسرح رأس الخيمة وما قدمته عبر تاريخها الفني العريق وإضافة نوعية لمسيرة المسرح في دولة الإمارات العربية المتحدة ومستكملا لتجارب كاتب النص ومخرجه “مرعي الحليان” الذي يدهشنا دائما بكل ما هو جديد وممتع وخلاق ، مع ضرورة الإشادة بعازفي الإيقاع وإضاءة عبد الله مسعود وكافة عناصر العرض.