حقيقة بعثة الدكتور محمد مندور!! / أ.د سيد علي إسماعيل

بمناسبة الندوة المُقامة حالياً في المجلس الأعلى للثقافة حول الدكتور محمد مندور – لمرور خمسين عاماً على وفاته – تذكرت إنني كتبت عنه عدة أسطر، تحت عنوان (حقيقة بعثة شيخ النقاد)، وهذه الأسطر كانت ضمن بحث ضخم بعنوان (أثر الوثائق في تغيير المفاهيم)، شاركت به في المؤتمر الدولي حول (مناهج التجديد في العلوم الإسلامية والعربية)، الذي أقامته كلية دار العلوم بجامعة المنيا بالاشتراك مع رابطة الجامعات الإسلامية. وتم نشر البحث في كتاب أبحاث المؤتمر – الجزء الثالث – عام 2005. وبمناسبة مرور نصف قرن على وفاة الدكتور محمد مندور – وإقامة ندوة المجلس الأعلى للثقافة – أعيد نشر هذه الأسطر؛ لأنها ستكون مفاجأة للجميع، حيث إنها تعتمد على وثائق غير منشورة؛ ناهيك عما فيها من حقائق .. لم يقرأها أحد!! وربما لم يسمع بها أحد من قبل!!
حقيقة بعثة شيخ النقاد الناقد الكبير محمد عبد الحميد موسى مندور، المعروف بالدكتور محمد مندور، والمشهور بلقب (شيخ النقاد) – ذلك اللقب الذي أطلقه عليه فؤاد دوارة – له قصة عجيبة في مشواره التعليمي، عندما كان مبعوثاً إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه في الأدب العربي. وهذه القصة رواها عام 1964، ونشرها فؤاد دوارة أكثر من مرة (1). وحول هذه القصة يقول مندور:
” كان الهدف من بعثتي في باريس الحصول على ليسانس من السربون في الآداب واللغات اليونانية واللاتينية والفرنسية وفقهها المقارن، مع حضور محاضرات المستشرقين وتحضير دكتوراه في الأدب العربي مع أحدهم. وقد نفذت الجزء الأول في تسع سنوات من عام 1930 إلى 1939، ولكني لم أقدم الدكتوراه لأن الجو السياسي كان قد أكفهر في أوروبا عقب فشل مفاوضات تشمبرلين المشهورة مع هتلر، وأحسسنا أن الحرب قائمة لا محالة، ففضلت العودة إلى مصر دون أن أكتب رسالة الدكتوراه (2)”.
ونلاحظ على هذا القول، أن محمد مندور لم يحدد المدة المقررة لبعثته من قبل الجامعة، بل حدد الفترة التي قضاها في الحصول على الليسانس فقط، وهي تسع سنوات! علماً بأن البعثة التعليمية في هذا الوقت لا تستغرق سوى أربع سنوات أو أكثر قليلاً، للحصول على الدكتوراه، لا تسع سنوات للحصول على الليسانس! كما أنه يفسر عدم حصوله على الدكتوراه، بأن السبب في ذلك هو الحرب! ويفسر مندور طول مدة مكوثه في فرنسا، دون الحصول على الدكتوراه، بأن عراقيل صادفته، بالإضافة إلى تهديد مدير البعثة بفصله. وعن هذا الأمر قال مندور:
” وبعد أن فرغت من دراسة اللغة اليونانية القديمة وآدابها سنة 1936، أحسست برغبة عارمة في زيارة بلاد اليونان للبحث عن الأماكن التي ورد ذكرها فيما قرأت من التراث اليوناني القديم، وكان لي زميل في هذه الدراسة اسمه جاك تريليه، فاتفقنا على أن نقوم معاً برحلة إلى بلاد اليونان وجزرها المتناثرة في بحر إيجة وجزيرة صقلية باعتبارها جزءاً من بلاد الإغريق القديمة، وسافرنا بالفعل رغم اعتراض مدير البعثة في باريس على سفري، لأنه كان يظن الأمر مجرد نزوة سياحية .. .. عدت من هذه الرحلة التي تفوق في أهميتها قراءة ألف كتاب لأفاجأ بمدير البعثة وقد أوقف مرتبي لأنني خالفت رأيه، وعلمت كذلك أنه كتب إلى الجامعة يطلب فصلي من البعثة .. .. وحدث أن مرّ الوفد المصري للمفاوضات بباريس عائداً من لندن عقب توقيع معاهدة سنة 1936، وكان يضم الرئيس السابق مصطفى النحاس، والمرحوم مكرم عبيد وزير المالية، وعلي الشمسي، فذهبت إلى الفندق الذي نزلوا فيه، وقابلت الشمسي وشرحت له المأزق المالي الذي وجدت نفسي فيه دون مرتب، فدهش الرجل وقادني إلى مكرم عبيد وأخبره بما حدث وأبدى استهجانه لتصرف مدير البعثة، فما كان من وزير المالية إلا أن أخرج ورقة بيضاء من جيبه وكتب عليها أمراً بصرف مرتبي فوراً، وبذلك انحلت الأزمة بصفة مؤقتة، وإن بقيت مع ذلك مهدداً بالفصل من البعثة فيما لو استجاب مدير الجامعة لطلب مدير البعثة. (3)
مثل هذه العراقيل – من وجهة نظر مندور – هي التي صادفته ومنعته من الحصول على الدكتوراه! وبالرغم من ذلك، يقرّ مندور بأنه حصل بدلاً من الدكتوراه – المبعوث إلى فرنسا من أجلها – طوال تسع سنوات، على: الليسانس من السربون، وعلى دبلوم في القانون والاقتصاد السياسي والتشريع المالي، وحضور محاضرات الفلسفة والتاريخ والاجتماع وعلم النفس بالإضافة إلى البرامج المقررة من قبل البعثة (4). هذا ما أقرّ به مندور! وكلامه هذا أصبح حقيقة ثابتة عند الجميع، لأن محمد مندور هو المتحدث الأوحد في هذا الموضوع، ولا يملك المرء ما يناقض كلامه. ولكن كلامه هذا له وجه آخر مجهول، تكشف عنه مجموعة من الوثائق الرسمية، التي لم تظهر ولم تنشر إلا في هذه الدراسة!!.
فعلى سبيل المثال، نجد مجموعة من هذه الوثائق تتعلق بمجمل شهاداته الدراسية، ومنها نعلم أن محمد مندور المولود عام 1907 في كفر الدير مركز منيا القمح، حصل من مدرسة طنطا الثانوية على شهادة الدراسة الثانوية (القسم الثاني) الأدبي في شهر يونية 1925، وكان ترتيبه في جدول الامتحان الثاني عشر بالنسبة إلى الناجحين البالغ عددهم أربعمائة وستة وتسعين. كما حصل على الليسانس (عربي وسامي) من كلية الآداب جامعة فؤاد الأول عام 1929، وعلى ليسانس الحقوق من جامعة فؤاد الأول عام 1930. وقضى في باريس تسع سنوات، فحصل على الليسانس في الأدب الفرنسي من السربون عام 1933، وعلى شهادة فقه اللغة الفرنسية من السربون عام 1934، وعلى دبلوم في الاقتصاد السياسي من جامعة باريس عام 1934، وعلى الليسانس في اليوناني القديم من السربون عام 1936، وعلى شهادة أصوات ونطق اللغة الفرنسية من معهد الأصوات بباريس عام 1939، وعلى دبلوم علم الأصوات التجريبي من معهد الأصوات بباريس عام 1939(5).
وشهادات مندور هذه – رغم دقتها وتوثيقها واتفاق معلوماتها مع فحوى كلام مندور السابق- إلا أنها لم تشفع له أمام عدم حصوله على الدكتوراه، المبعوث من أجلها. بل أن مهمته كانت الحصول على الدكتوراه، لا على شهادات متنوعة، لا علاقة لها بمهمته الأساسية، مهما كانت قيمتها العلمية (6). وإذا كان القارئ قد تعرف على وجهة نظر مندور في أمر بعثته إلى فرنسا، وتعاطف معها لأنها وجهة النظر المتاحة؛ فإن الوثائق التي بين أيدينا، تأتي بوجهة نظر أخرى! .
تقول هذه الوثائق، من خلال مذكرة مؤرخة في 17/7/1939: ” إن محمد مندور أفندي سافر للبعثة في 13/7/1930 للحصول على الدكتوراه في أدب اللغة العربية، وعلى أن يتصل بأساتذة اللغة العربية بالسربون ومدرسة اللغات الشرقية وكلج دي فرانس. ومدة بعثته من أربع إلى ست سنوات. رسب أربع مرات متتالية في شهادة الدراسة العليا في الأدب الفرنسي أي في سنتي 1931، 1932. رسب للمرة الخامسة في يونية سنة 1933. نجح في شهادة الدراسة العليا في الأدب الفرنسي في نوفمبر سنة 1933. نجح في نوفمبر سنة 1934 في شهادة الدراسات العليا في فقه اللغة اليونانية، كما رسب فيها في فرصة نوفمبر سنة 1935 أيضاً. ورسب فيها للمرة الثالثة في يولية سنة 1936. عرضت مسألته على لجنة البعثات فقررت بجلستها المنعقدة في 16/8/1936 عدم صلاحية العضو للبعثة وإعادته، إلا أنه أرسل التماساً بوقف هذا القرار، ورأى مدير البعثة أن هذا القرار أثرّ فعلاً في أعصابه تأثيراً يستوجب الشفقة. عرض الأمر على الجامعة فقررت في جلستها في 16/12/1936 إبقاء محمد عبد الحميد أفندي إلى امتحانات يونية سنة 1937 فإذا لم ينجح يفصل من البعثة. فوافقت لجنة البعثات على التماس مجلس الجامعة بجلسة 25/3/1937. بحيث إذا رسب يفصل حتماً بدون عرض أمره على لجنة البعثات. نجح في يونية سنة 1937 في شهادة اللغة اليونانية، ورسب في يونية سنة 1938 في شهادة فقه اللغة والأجرومية. عرض أمره على لجنة البعثات في جلسة 24/9/1939 فوافقت على منحه فرصة أخرى في نوفمبر سنة 1938، فإذا ما رسب يعود نهائياً. تقدم في نوفمبر سنة 1938 فرسب أيضاً. وعلى ذلك أرسل تلغراف لمدير البعثة بتاريخ 17/12/1938 لعودة العضو المذكور، إلا إذا رغب في البقاء على نفقته الخاصة. وفعلاً بقى على نفقته إلى يولية سنة 1939 حيث عاد إلى مصر في 17/7/1939. وعلى ذلك لم يتم الدراسة التي أوفد من أجلها في البعثة” (7).
وهذه الوثيقة المهمة، تفند جميع أقوال مندور السابقة، وتضرب بها عرض الحائط! فهذه الوثيقة تثبت أن مدة بعثته الأساسية كانت ما بين أربع إلى ست سنوات. ورغم ذلك تحملت الجامعة المصرية بعثته تسع سنوات! وتؤكد الوثيقة أيضاً أن من المفروض أن يتصل مندور بأساتذة اللغة العربية بالسربون ومدرسة اللغات الشرقية وكلج دي فرانس، من أجل الحصول على الدكتوراه. ولكنه لم يتصل بأحد! كما تؤكد الوثيقة أن لجنة البعثات عام 1936 قررت عدم صلاحيته للبعثة ووجوب إعادته منها، إلا أن مدير البعثة أشفق على مستقبله وتعاطف معه، فأعطاه فرصة أخرى. وهذا المدير هو نفسه مدير البعثة الذي اتهمه مندور في أقواله، بأنه كتب إلى الجامعة يطلب منها فصله من البعثة!! وأخيراً تثبت هذه الوثيقة أن محمد مندور رسب أكثر من عشر مرات في امتحانات المقررات المؤهلة للدكتوراه، وهذا أمر لم يكشف عنه مندور في أقواله!!
 
** الهواميش:
(1): أدار فؤاد دوارة حورا مع الدكتور محمد مندور حول بعثته إلى فرنسا وعلاقته بأستاذه الدكتور طه حسن عام 1964. ونشر هذا الحوار في مجلة (المجلة) عدد 96 ديسمبر 1964 (ص 44 ـ 52)، وفي عدد 98 فبراير 1965 (ص 58 ـ 71)، ونشره مرة أخرى في كتابه (عشرة أدباء يتحدثون) عام 1980، ونشره أخبرا في كتاب (محمد مندور ـ سلسلة نقاد الأدب ـ عـدد 17 ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 1996). كما نشر نبيل فرج مجموعة من رسائل مندور إلى طه حسين بخصوص هذا الموضوع في مجلة القاهرة عدد 133 ديسمبر 1993 ( ص 107 ـ 165).
(2): فؤاد دوارة ـ محمد مندور ـ سلسلة نقاد الأدب ـ عـدد 17 ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 1996 (ص 25).
(3): فؤاد دوارة ـ محمد مندور ـ السابق ـ ص (30 ـ 34).
(4): راجـع السابق ـ ص (25 ـ 26).
(5): راجـع: وثائق ملف 61461 المحفوظ بقلم الوزارات بدار المحفوظات العمومية بالقلعة.
(6): يقول د.لويس عوض عن هذا الأمر، عندما تعرف على مندور في باريس أيام بعثته:”لم يشأ منذور أن يخطف العلم خطفا ويعود بعد أربع سنوات حاملا دكتوراه الجامعة أو حتى دكتوراه الدولة في الأدب العربي كما كان مقررا له أن يفعل، بل رأى في بعثته الفرنسية فرصته الثمينة للتغلغل في أسرار الحضارة الأوروبية ودراسة الأدب والفن على الطبيعة وليس في صحائف الكتب”. دظ لويس عوض ـ جريدة الأهرام 28/5/1965، نقلا عن كتابه (الثورة والأدب) ـ ص (15).
(7): وثائق ملف رقم:61461 ـ السابق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت