الظواهر المسرحية في العالم العربي (الحلقة الثالثة) / أ.د. سيد علي إسماعيل
** خيال الظل:
أشرنا فيما سبق أن فن خيال الظل، كان يُقدم للجمهور في القرن التاسع عشر، بوصفه نوعاً من الترفيه والتسلية (1)، وتأكيداً على هذه المعلومة، نقول إن عروض خيال الظل ظلت تُقدم إلى الجمهور المصري حتى عام 1908، فقد وجدنا أدلة كثيرة على ذلك، منها ما ذكرته جريدة (المؤيد) عام 1897(2) بأن الجمعية الخيرية الإسلامية احتفلت بليلتها السنوية في حديقة الأزبكية تحت رعاية الخديوي محمد توفيق باشا، واشتمل الاحتفال على ” الموسيقى العسكرية والمزمار والطبل البلديان والألعاب البهلوانية والألعاب السيماوية وخيال الظل” بالإضافة إلى غناء عبده الحمولي والشيخ يوسف المنيلاوي ومحمد عثمان. كما أعلنت جريدة (المقطم) عام 1898 بأن المحفل الأكبر أحيى ليلة بحديقة الأزبكية خصص دخلها للأعمال الخيرية، واشتملت على غناء عبده الحمولي ومزمار بلدي وألعاب بهلوانية، وخيال الظل (3). كما ذكرت جريدة (المؤيد) عام 1908 (4) أن الاحتفال بعيد الجلوس السلطاني أقيم في حديقة الأزبكية، واشتمل الاحتفال على عروض خيال الظل.
بدأ فن خيال الظل في الاختفاء أمام انتشار فن الصور المتحركة – أي الأشرطة السينمائية – التي كانت تعرض بمصاحبة العروض المسرحية؛ كبديل عن خيال الظل أو الفصول المضحكة، ففي 28/1/1908 نشرت جريدة (المقطم) الإعلان الآتي: ” من الروايات البديعة المناظر التي تكثر فيها أدوار الغناء رواية (ضحية الغواية) فإنها فاقت غيرها من الروايات وخصتها أكثر الجمعيات بلياليها الخيرية. وقد عزم حضرة الممثل الشهير الشيخ سلامة حجازي مدير جوق التمثيل العربي على إحيائها هذا المساء في دار التمثيل العربي وجعل الموسيقى الشهيرة تطرب السامعين أثناء أدوار التمثيل. وفي الختام تعرض صور متحركة (سينماتوغراف) على الحاضرين. وخصصت ألواج للسيدات وباب لدخولهم وخروجهم منه فنحث الجميع على مشاهدتها، ونثني على حضرة صاحب الجوق وممثليه لا تحافهم بأمثال هذه الرواية “.
كما نشرت جريدة (المؤيد) يوم19/8/1914، تحت عنوان (البشرى الكبرى: جوق عبد الله عكاشة وأخوته) ” نزف إلى عشاق التمثيل الراقي ومحبي الطرب أحسن بشرى، تسر خواطرهم وتقر نواظرهم، ألا وهي أن جوق عبد الله عكاشة وأخوته قد عزم على تمثيل ثلاث روايات من أحسن وأجمل رواياته الأدبية في تياترو حديقة الأزبكية لمناسبة أيام عيد الفطر المبارك، حيث يقدم في الليلة الأولى رواية (طارق بن زياد)، وفي الثانية رواية (الكابورال سيمون)، وفي الثالثة رواية (هملت) الشهيرة. ويتخلل التمثيل مونولوجات جديدة ينشدها عبد الله عكاشة وأخوته زكي وعبد الحميد مما يعهده فيهم الجمهور من رخامة الصوت وحسن الإنشاد. فضلاً عن مناظر الصور المتحركة الجميلة (سينماتوغراف) وتطلب التذاكر من الآن من دار التمثيل العربي وفى أيام التمثيل من الباب الغربى لحديقة الأزبكية “.
ومن الواضح أن خيال الظل في عشرينيات القرن الماضي، أصبح من الذكريات الفنية الكوميدية، والدليل على ذلك أن مجلة التياترو المصورة في عددها الصادر في نوفمبر 1924، تحدثت عن الفنان الكوميدي علي الكسار قائلة: “هو رجل عصامي رفع ذكرى نفسه بنفسه شأن أصحاب العزائم القوية نفوسهم بالآمال، كان يميل من صغره إلى المسرح، وله ولع بنوع الكوميدي. ابتدأ التمثيل وهو في الرابعة عشر من عمره، ولما كان مجال التمثيل ضيق في ذلك الوقت أخذ يتمرن على فصول خيال الظل حتى جاء وقت صار ممن يشار لهم بالبنان فيه “.
وقبل أن يختفي هذا الفن نهائياً، كانت البقية الباقية منه تُعرض في الأعراس والأفراح الشعبية، وقد نقل لنا الأديب الساخر عبد العزيز البشري (1886-1943)، هذا الأمر في مقالة بعنوان (كيف كان الشباب يزَوَّجون)، قائلاً:”أسوق حديثي هذه المرة للخطبة والزواج في مصر إلى مؤخرات الجيل الماضي……. فليلة (الزفة) أو ليلة (الدخلة)، ليلة تولم الولائم، ويقدم لجمهرة المدعوين شهي المطاعم. وأولى هذه الليالي تخص بخيال الظل، وهو عبارة عن دكة كبيرة تعلو واجهتها شاشة بيضاء تقرب مساحتها من شاشة السينما الآن، أما جوانبها الأخرى فتحجب بألواح من الخشب يداخل بعضها في بعض، وفيها باب لدخول اللاعبين وخروجهم، وفيها تضيئون مشاعل قوية لتجلو على النظارة ما يعرضون من الصور في وضوح وجلاء. أما هذه الصور فلأناس، ودواب، وطيور، وأشياء وتسوى هذه الصور من الجلد ونحوه، تصيغ بمختلف الأصباغ لتحاكي ألوان ما يبدو من الأجسام والثياب. ويمثل خيال الظل رواية قوامها عشق وصبابة بين فتى مصري صميم، وفتاة بنت راهب مسكنها مع أبيها الدير! ويتخلل هذه الرواية صور استعراضية متنوعة. وكل من يحرك صورة من صور هذه الأناس يجري الكلام على لسان صاحبها في دقة وبراعة تقليد، حتى كأنها هي التي تتحدث بأسماع الناس. فهناك المغربي، والسوري، والبربري وابن البلد المصري. ومن هؤلاء ونسمع ما شاء الله من رائع النكت، وقد يكون بعضها من عفو الارتجال. ولقد كان أفخم خيال للظل هو الذي يديره المعلم حسن قشاش، وكان سيد أصحاب النكتة فيه غير مدافع، هو المرحوم ناجي [أي الممثل الهزلي المعروف وقتئذ محمد ناجي]، وقد رآه كثير من أهل هذا الجيل ممثلاً بشخصه في الأعراس، أو في دور التمثيل في الفصل المضحك الأخير. أما دور ناجي في خيال الظل، فكان تمثيل الغلام بولس شقيق علم، وكان، رحمه الله، يرسل بالنكتة بعد النكتة في خفة روح ولطف إيقاع، حتى يكاد يشق أضلاع النظارة من شدة الضحك المتواصل بغير انقطاع “.
ومع انتشار المسرح وتألقه، وكذلك فن السينما، أصبح خيال الظل تاريخاً وذكرى حتى عام 1942 عندما بدأ الباحثون والكُتّاب ينظرون إليه نظرة تقدير بوصفه أدباً وتاريخاً!! فبدؤوا في التنقيب عنه وعن تاريخه، والتعريف به وبأهم خصائصه وبأهم أعلامه. ومثال على ذلك مقالة الدكتور (فؤاد حسنين)، المنشورة في مجلة (الثقافة) عام 1942 تحت عنوان (محمد بن دانيال)، وفيها أبان أن موطن هذا الفن هو بلاد الهند ومنه انتقل إلى الصين ومن الصين انتقل إلى العالم الإسلامي، حيث إن المؤرخ الفارسي رشيد الدين المتوفى عام 1388 قال في كتابه (جامع التواريخ) إن لاعبين من الصين عرضوا خيال الظل أمام ابن جنكيز خان. وهذه الحادثة دليل على انتقال هذا الفن من الصين إلينا. كما أشار الباحث إلى حديث ابن إياس في تاريخه عن مصر بأن السلطان جقمق عام 1451م أمر بحرق شخوص خيال الظل جميعها. وفي موضع آخر قال: ” أشيع أن السلطان سليم شاه لما كان بالمقياس أحضر في بعض الليالي خيال الظل فلما جلس للفرجة قيل إن المخايل صنع صفة باب زويلة وصفة السلطان طومان باي لما شنق عليها وقطع به الحبل مرتين، فانشرح ابن عثمان لذلك، وأنعم على المخايل في تلك الليلة بثمانين ديناراً، وخلع عليه قفطاناً مخملاً بالذهب، وقال له : إذا سافرنا إلى أستنبول فامض معنا حتى يتفرج ابني على ذلك. ويرجح أن هذا هو أول عهد الأتراك بخيال الظل، كما أن ذلك العصر كان فاتحة دخول هذا الفن إلى أوروبا عن طريق تونس، إيطاليا، ألمانيا، فرنسا. ومن كلام ابن إياس يُفهم أن هذا الفن أصبح في مصر حرفة، وأصبح في استطاعة الخيال أن يعبر به عن الأحداث التاريخية. وأشهر شخصية في هذا المجال هو الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن دانيال بن عبد الله الخزاعي الموصلي المتوفي سنة 1311م، وكان طبيباً للعيون وشاعراً وأفضل من كتب في فن خيال الظل لا سيما أعماله المؤلفة المتمثلة في (طيف الخيال، عجيب وغريب، المتيم)، وهي مسرحيات هزلية من العصور الوسطى، وضعها أيام الظاهر بيبرس بعد عام 1267م، بالشعر والنثر المسجوع، والمواضيع التي تناولها فيها تتفق معظمها والأحداث التي يعرضها المؤرخ ابن إياس لهذا العصر” (5).
وبعد أيام كتب فؤاد حسنين مقالة أخرى بعنوان (لعب المنار)، وهي مسرحية مصرية ترجع إلى القرنين الثاني عشر أو الثالث عشر الميلادي، وهي من النوع الذي وضع خصيصاً لفن خيال الظل، وهي تعالج الحروب الصليبية حتى سميت بـ(حرب العجم)، ووقعت حوادثها في الإسكندرية، فأطلق عليها لعب المنار. وهذه المسرحية لم تصلنا كاملة، وإن كان قد وصلنا جزء كبير منها في مخطوطة للشيخ سعود، والشيخ علي النحلة، وداود العطار أو المناوي الذي كتب هذه المخطوطة، وهو أحد أبناء مصر الذين عاشوا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهو الذي أسندت إليه رئاسة فرقة خيال الظل المصرية التي سافرت عام 1612 إلى أستنبول لإحياء حفلات زواج الوزير التركي محمد باشا السابع الذي حكم مصر حتى أغسطس عام 1611 بكريمة السلطان العثماني أحمد الأول (1603 – 1617). ويحدثنا المناوي هذا إنه تشرف بالمثول بين يدي السلطان الذي أجزل له العطاء، ومن ثم عادت الفرقة في عام 1613 إلى مصر عن طريق دمشق والقدس (6).
هاتان المقالتان شجعتا الأديب أحمد أمين، فكتب المقالة الثالثة عام 1943 عن (لعب التمساح)، وهي مسرحية ظلية من القرن السابع عشر، من وضع ثلاثة من المؤلفين: الشيخ سعود، والشيخ علي النحلة، وداود المناوي، ويرجع الفضل في اكتشافها إلى المستشرق الألماني (بول كاله)، الذي حضر إلى مصر عام 1906 للبحث عن مخطوطات وشخوص تتصل بخيال الظل فعثر عام 1909 على شخص يدعى (درويش القصاص) الذي أمده بمخطوطة هذه المسرحية (7).
وفي عام 1951 تعرفنا لأول مرة على معلومات عن محمد بن دانيال من خلال مقالة منشورة عنه، جاء فيها: ” الذي خلد ذكر ابن دانيال هو تفوقه بهذا الفن، فكان له اليد الطولى فيه، فإنه يضع الرواية ويكتبها وينظم الأصوات ويلحنها، ويعين الأزياء وما يحتاج إليه التمثيل ويشترك بنفسه في العرض، فهو الكاتب والناظم والمغني والمخرج والممثل، فيجيد ويبدع. وقد لعبت أيدي البلى بكثير مما كتبه هذا العبقري، ووصل إلينا من آثاره ثلاث روايات منها نسخ في مكتبات مصر وأوربا. ولم أقف إلا على قطع من كل رواية من هذه الروايات الثلاثة، نشرها الدكتور تقي الدين الهلالي سنة 1948م، وطبعها في مطبعة الاعتماد ببغداد. والروايات الثلاثة هي: (طيف الخيال) وتعطي صورة رائعة للحال السياسية والثقافية في مصر على عهد السلطان الظاهر بيبرس. (عجيب وغريب)، وهي تمثل صوراً كثيرة لسوق يدخلها الممثلون، واحداً بعد واحد، ويعرضون بمسرح عظيم بضائعهم، وقد اشتهرت هذه التمثيلية بين المستشرقين بواسطة التأليف البديع الذي نشره الأستاذ جورج جاكوب (جورج يعقوب) بعنوان (سوق سنوية مصرية في القرن التاسع عشر الميلادي). (المتيم) التي اشتملت على أشياء ممتعة منها تحريش الديوك على القتال، ونطاح الكباش والثيران بقصد الفرجة والتسلية (8).
وفي عام 1957 كتب أحمد باشا تيمور – والد الأديبين محمود ومحمد تيمور، وشقيق الأديبة عائشة التيمورية – أول كتاب باللغة العربية عن هذا الفن بعنوان (خيال الظل واللعب والتماثيل المصورة عند العرب)، تحدث فيه عن ابن دانيال، وعن خيال الظل كما شاهده وعاصره في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لا سيما خيال الظل المتنقل، الذي وصفه بقوله: “يتخذون – لخيال الظل – بيتاً مربعاً يقام بروافد من الخشب ويكسى بالخيش أو نحوه من الجهات الثلاث ويسدل على الوجه الرابع ستر أبيض يشد من جهاته الأربع شداً محكماً على الأخشاب وفيه يكون ظهور الشخوص. فإذا أظلم الليل دخل اللاعبون هذا البيت ويكونون خمسة في العادة منهم غلام يقلد النساء وآخر حسن الصوت للغناء فإذا أرادوا اللعب أشعلوا ناراً قوامها القطن والزيت تكون بين أيدي اللاعبين أي بينهم وبين الشخوص ويحرك الشخص بعودين دقيقين من خشب الزان يمسك اللاعب كل واحد بيد فيحرك بهما الشخص على ما يريد”.
أما الدكتور إبراهيم حمادة فكتب عام 1963 أفضل كتاب في اللغة العربية عن خيال الظل، وهذه الأفضلية مرجعها أن الكتاب كُتب بأسلوب البحث الأكاديمي، كما أنه اشتمل على بابات خيال الظل، أي مسرحيات خيال الظل الثلاث الخاصة بمحمد بن دانيال بعد تحقيقها ونشرها بصورة كاملة. وفي هذا الكتاب نجد الدكتور إبراهيم حمادة، يصف مسارح أو محال خيال الظل كما كانت في مصر، قائلاً: ” كان مسرح خيال الظل عبارة عن حاجز خشبي بعرض الصالة يفصل المشاهدين المصفوفين عن اللاعبين، ويرتكز هذا الحاجز على الأرض ويرتفع فوقها حتى قبيل السقف بقليل وفي وسطه – على بعد متر ونصف من الأرض – فتحة طولها نحو المتر وعرضها متر ونصف تقريباً وقد شدت عليها ستارة من القماش الأبيض الرقيق الشفاف وفي أسفل الشاشة من داخل المسرح – جهة اللاعبين – ثبت قضيب مفرغ من الخشب ليحمل الدمى المشتركة في اللعب وعلى الأرض صندوق كبير يحوي مجموعة من شخوص العروض التمثيلية وهي عبارة عن أشكال طول كل منها حوالي القدم مصنوعة من جلد الحيوان الصلب على هيئة الشخصيات المشتركة في موضوع التمثيلية وأحياناً على شكل حيوانات كالحمير والكلاب والماعز أو أشياء جمادية كالسفن والبيوت والأشجار، ولهذه الشخوص الجلدية مفاصل وثقوب نفذت بقدر ولغرض محقق، يدفع اللاعب فيها عصية لتحريكها وتمثيل الشخصية المذكورة في النص كما أن بعضاً منها مثبت على قضيب حديدي رفيع أو سلك صلب، وعند العرض تطفأ أنوار الصالة وتغلق النوافذ والأبواب ثم تثبت الشخوص في القصيب الخشبي فتغدو ملتصقة بالشاشة ثم يضاء من داخل المسرح مصباح زيتي أو مجموعة من الشموع تحبس أنوارها بواسطة حواجز أو برانيط تمكن الضوء من أن يتركز على الشاشة وعندئذ تظهر ظلال الشخوص على الشاشة وتنعكس من الجهة الأخرى فيراها المتفرجون واضحة فيبدأ اللاعبون تحريكها بعصيهم وهم يؤدون بأصواتهم الجهيرة حوار القصة التمثيلية وتتبادل الشخوص الحوار والمواقف والحركات كما يتبادل الممثلون على خشبة المسرح حوارهم ومواقفهم وفي بعض الأحيان تصحب اللعب أنغام موسيقية يوقعها المساعدون” (9).
والجدير بالذكر إن خيال الظل كان موجوداً في سورية، وكان معروفاً بـ(خيمة كراكوز)! وقد أدرج هذا الفن ضمن الصناعات، التي اشتمل عليها (قاموس الصناعات الشامية) في أواخر القرن التاسع عشر كصناعة رائجة، وجاء في القاموس عن الكراكوزاتي: إنه ” من يلاعب صوراً مصنوعة من جلد على صفة الإنسان، تعرف بالخيالات. ويقال لها خيال الظل. وهي متعددة ولكل منها اسم مخصوص به، وصاحبها يشتغل بالقهاوي، ينصب ستارة من قماش في زاوية القهوة، يربط بأسفل الستارة خشبة على عرض الستارة، ويضع فوقها سراجاً يوقد من زيت الزيتون، وهو يقف خلف الستارة، يلاعب الخيالات، ويأتي لكل واحدة منها بلغة وكلام خاص. فتارة يضحك، وتارة يبكي، وتارة يغني على حسب حركة الخيالات. وتكون القهوة مملوءة بالمتفرجين، وغالب من يتفرج على الكراكوزاتي الأولاد الصغار. وقد يوجد ممن أتقن هذه الحرفة، مع سرعة حركاته، من يكون صوته جميلاً، فيقصده الشباب والشيوخ يتفرجون على ألعابه، ويترنمون بجميل صوته، وتروج هذه الحرفة في زمن الشتاء رواجاً رائداً. وما تجمع تلك القهوة بذلك الوقت ينقسم شطرين بين القهوجي والكراكوزاتي” (10).
وفي عام 1994 قام حسين حجازي بنشر نصوص من بابات خيال الظل في كتاب ضخم، وهي البابات، التي كانت تُعرض في سورية، جمعها الباحث من المخايلين السوريين أنفسهم، أو من تبقى منهم، وهذه النصوص هي: كركوز وعيواظ، جهنم، طرّة ونقش، سندريلة عيواظ، الأونطة، العفريت، المارستان، كركوزان وعيواظان، الوزير الخائن (11).
هذه المحاولة لجمع نصوص بابات خيال الظل في سورية، جعلت سعد الله ونوس يدعو لمشروع لإحياء هذا الفن من جديد، قائلاً: ” إن الجهد الذي بذله حسين حجازي، وهو هاو وقليل الإمكانيات، أمدنا بكنز ثمين من النصوص كان ينبغي أن تتضافر جهود جماعية وخلال سنوات لتقصيها وتسجيلها وإنقاذها من عاديات الاندثار. ورغم أن الوقت بدا يصبح متأخراً بالنسبة لمثل هذا المشروع، إلا أن وجود أمثال هذا الهاوي المتفاني في حب عمله، يحفزنا على مطالبة وزارة الثقافة باستدراك هذا الأمر، ووضع خطة لجمع كل ما يتوفر من نصوص هذا الفن وأدواته ورسوم شخوصه وآليات ممارسته. واستطرد في التمني فاتخيل أن الوزارة تنشئ داراً لهذا الفن. وتكفي هنا قاعة وملحقاتها، تقدم فيها بابات خيال الظل كما كانت تقدم في غابر الأيام. وبهذا نحفظ فناً، كما حفظت البابات مسرحها القديم” (12).
هذه الدعوة تحققت بالفعل؛ ولكن ليس في سورية، ولم يقم بها أي مسئول، أو تبنتها أية وزارة سورية، فهذا المشروع قام به الدكتور نبيل بهجت في مصر، وكوّن فرقة (ومضة) المسرحية لفنون خيال الظل القراقوز منذ عام 2003، ومازالت تعرض حتى الآن! وسيأتي الحديث التفصيلي عنها فيما بعد!
** القراقوز:
يُقال إن فن القراقوز أنتج مسرح العرائس، ويُقال أيضاً أن خيال الظل هو الذي أنتج القراقوز – أو (الأراجوز) باللهجة المصرية – ولكنني أرى أن فن العرائس المتحركة – أي مسرح العرائس – هو الذي أنتج القراقوز في مصر! فمصر عرفت مسرح العرائس في أواخر القرن التاسع عشر، وعرفته في صورته الغربية كما كان يعرض في حينها. ففي عام 1890 نشرت مجلة (المقتطف) مقالة بعنوان (الأشخاص الخشبية)، وفيها نجد الكلام عن أمريكي يزور مصر ويعرض عروضاً فنية أدهشت الأبصار وحيرت الأفكار، عندما شاهد الجمهور ” أشخاصاً من الخشب تقوم وتقعد وتمشي وترقص وتتكلم وتغني ويشاركها في أعمالها المختلفة عدد عديد من الحيوانات بين دب وثور وحمار وكلب وهرّ وما أشبه. وكان يريهم عظام الأموات تنفصل وتتصل وتقوم وتقعد وتعمل غريب الأعمال كأنها حيّة عاقلة” (13).
وفي عام 1897 جاءت فرقة (أخوان براندي) إلى مصر، وعرضت عروضاً للقراقوز الميكانيكي على مسرح حديقة الأزبكية، كما أخبرتنا بذلك جريدة (المقطم) (14)، التي وصفت عرضاً من عروض هذه الفرقة، قائلة: “لا يزال براندي أخوان يوالون تمثيل ألعابهم الغريبة مع أركوز وفنتوش في تياترو حديقة الأزبكية. وقد غص المرسح ليلة أمس بالمجتمعين ومثلت الألعاب الجميلة المضحكة من فتاة ترقص، وقزم ينكت، وهرم يسكر، وهيكل يرمي بأطرافه ورأسه إلى الأرض، ثم يعود فيتلقفها واحدة واحدة ويركبها في أماكنها. كل ذلك تفعله هذه الأشخاص الخشبية بخفة ورشاقة لا مزيد عليها كأنها تحس وتدرك وهي لا شعور لها ولا حياة فيها” (15). كما نشرت جريدة المقطم أيضاً إعلاناً عام 1900، قالت فيه: ” تقيم الجمعية الخيرية الإيطالية حفلة أنس ورقص وتعرض فيها التماثيل المتحركة هذه الليلة في الأوبرا الخديوية تحت رعاية حضرة مدام توجيني قنصل إيطاليا الجنرال ووكيلها السياسي في هذا القطر” (16).
ومن المحتمل أن هذه العروض استمرت وأثرت على البيئة الشعبية والفنية في مصر، فخرجت منها – أو على غرارها – عروسة القراقوز!! وكلمة (قراقوز أو قره جوز) يختلف الباحثون في اشتقاقها ومدلولها الاصطلاحي، فيقول البعض أنها كلمة تركيبية مكونة من لفظين أولهما (قره) ومعناها أسود على نحو ما نجد في لفظة (قراميدان أو قرة ميدان)، التي يسمى بها في القاهرة الميدان الذي يقوم فيه السجن العام ومعناها الميدان الأسود. وثانيهما لفظة (جوز) ومعناها (عين). وعلى هذا التعبير يكون معنى (القره جوز) هو العين السوداء! ولكنهم يختلفون بعد ذلك في سبب تسميته بهذا الاسم، فيقول البعض أنه سمى بالعين السوداء لأن الذين يقومون به من الغجر والغجر سود العيون، وإن رجح البعض الآخر كما يذكر الدكتور محمد مندور أنه سمي بالعين السوداء، لأنه ينظر إلى الحياة بعين سوداء، أو من خلال منظار أسود! فالقره جوز يقوم على الشكوى من الحياة ومحنها ومفاجآتها وتقلباتها ونقد أحوالها. والراجح أن هذا الفهم الإنساني الأخير هو الذي أوحى إلى المستشرق الألماني الشهير ليتمان بأن يبحث لهذا الفن عن اشتقاق تاريخي آخر فزعم أن لفظة (قره جوز) تحريف تمّ تحت تأثير اللغة التركية لاسم (قره قوش) أو (قرقوش) الوزير الظالم في العصر الأيوبي، فبعد انتهاء عصره، أخذ الناس يتندرون به ويسخرون من مظالمه، وسموا الفن الذي يشخص هذه السخرية وذلك الانتقام بلفظة قرقوش، التي تحرفت إلى (قره جوز) (17).
وعرائس الأراجوز تصنع من القماش مع الاستعانة بالجص والخشب والسلك والورق وعناصر أخرى كالقش أو القطن أو الجلد، وتلبس الشخوص ملابس الشخصيات المراد محاكاتها في التمثيل، ومن المعتاد أن يكون تركيب الوجه تركيباً مضحكاً، أما بأنف متضخم أو شفتين ورمتين أو صلعة مرنانة أو قفا عريض يتميز به جندي أبله يرمز إلى بطش الحاكم، وهذا الجندي يتلقى الصفعات من الأراجوز البطل انتقاماً يرضي جمهرة المتفرجين. وبدلاً من أن تتحرك هذه الدمى خلف الستارة كما هو الشأن مع عرائس خيال الظل، فإنها تعلو ساتراً من قماش سميك يحجب اللاعبين، وهذه الدمى تظهر بوضوح للعيان ولا تحتاج إلى إضاءة خاصة أو إظلام خاص بل يمكن اللعب بها في أي وقت من النهار أو الليل كما نشاهد في الساحات الشعبية وليالي الموالد.
ويتميز الأراجوز الشعبي بصوت أجش ينفرد به عن بقية الشخصيات المشتركة، ولاعبه يضع في فمه زعاقة (مزمار صغير يثبت في مقدمة سقف الحلق) لتنكير الصوت حتى يوهم المتفرجين بأنه صوت (خاص) بالأراجوز الصغير الحجم، ويبدو أن الشخصية الرئيسية في لعبة الأراجوز اكتسبت اسمها للعبة ذاتها وأصبحت علماً تعرف به، وقد تميزت شخصية الأراجوز بخصائص الخفة واللياقة وحسن التخلص في المآزق بالتحايل واستغلال الخبث والدهاء، مثلما أصبحت كلمة (جحا) عندنا تعني نمطاً معيناً من سلوك فكه ساخر لا يخلو من حكمة المجرب الداهية. والنص الأدبي للأراجوز غالباً ما يكون مرتجلاً أو نصاً محفوظاً يتصرف فيه اللاعب وقت الحاجة بالإضافة والحذف، وهو إلى ذلك – في كثير من الأحيان – مسلوب المضمون الاجتماعي والمغزى الفني، فتمثيلياته – كما جرت – لم تشكل أدباً أو نصاً مستقيماً فيه قصة متطورة محبوكة أو استعراضات كلامية، فهو فن فقير من هذه الناحية يستهدف الإضحاك والتسلية السطحية بنكات مصوغة في تركيب حواري مزدحم بالتعليقات والقفشات والسخرية من بعض الشخصيات، ولهذا لم يسجل الأرجوزات على الورق ولم تحفظ لنا نصوصها في صحائف (18).
يقول الدكتور علي الراعي: “ترك فن الأراجوز أثراً واضحاً على الكوميديا المصرية كان أبرز مظهر له هو تحول الأراجوز من دمية إلى شخصية إنسانية ………. وقد حدث انسلاخ طريف وواضح في (الأراجوز البشري) من (الأراجوز الدمية) في حالة الفنان محمود شكوكو، الذي كان يلقي مونولوجاته الفكاهية وهو مرتدٍ لطرطور الأراجوز، وكان يعمد إلى إعطاء نفسه الرخصة ذاتها للتعليق على الناس والتندر بهم، التي هي من امتيازات الأراجوز الدمية. ثم اقترب شكوكو خطوة أخرى من فن الأراجوز حين أنشأ فرقة للأراجوز حدثت فيها أكثر من مقابلة طريفة بين الأراجوز الدمية والأراجوز البشري. وقد منحت شخصية الأراجوز الفنان شكوكو شعبية واسعة وصلت إلى حد أن التماثيل كانت تصنع له، وتباع على نطاق واسع في الأسواق الشعبية وعلى عربات اليد، كذلك كانت أغطية الرأس تصنع على غرار طرطور الأراجوز وتباع باسم محمود شكوكو ” (19) .
ويعد محمود شكوكو (1912 – 1985) أول من أدخل فن الأراجوز علي المسرح المصري باستخدامه فن عرائس الماريونيت، التي كان يقوم بتصنيعها بيديه مستغلاً خبرته في العمل في ورشة والده للنجارة خلال عمله بها في صباه. ويُقال إن السفير الروماني عندما شاهد شكوكو علي المسرح أعجب به وقدم له دعوة لزيارة رومانيا للدراسة والإطلاع علي هذا الفن بصورة أعمق، وبالفعل سافر شكوكو وأحضر معه بعد عودته الكثير من الأسس والأفكار المتطورة التي ساهمت في تأسيس مسرح العرائس في مصر, وقدم بعد ذلك أوبريت الليلة الكبيرة التي تم تنفيذها علي هذه الدراسة التي قدمها شكوكو وقام بوضع خبرته فيها. ومن الثابت أن صورة شكوكو في ملابس الأراجوز كانت تُجسد في صورة تماثيل جصية، تُباع على العربات في حواري وأزقة القاهرة، كما كانت تماثيل شكوكو تصنع أيضاً من الحلوى وتُباع بجانب الحصان والعروسة ضمن حلوى المولد النبوي.
وقد عُرف القراقوز في بلدان عربية أخرى غير مصر، مثل ليبيا، التي يقول عنها بشير محمد عريبي: عُرف القارقوز بمدينة طرابلس منذ العهد العثماني بقارقوز حمزة يتولاه الوسطي، ويفتح القارقوز أبوابه خلال ليالي رمضان المبارك بعد صلاة المغرب ويمتد إلى منتصف الليل، وقد أبدع الوسطي في تقديم الروايات الفكاهية والاجتماعية التي يقوم بتأليفها بطرب ويضحك الأطفال كثيراً، وعندما يخرج الأطفال من القارقوز يشترون الحمص والفول المتوفر بأثمان زهيدة ويعودون إلى بيوتهم جماعات جماعات. وكان المحل الذي يقدم فيه القارقوز يقع في نهاية سوق الترك من جهة سوق الربع. وفي بنغازي كان للقارقوز عدة محلات أشهرها قارقوز بازاما الواقع بشارع سيدي سالم وأشهر من عمل بالقارقوز سالم المكحل (20).
** الهواميـش:
(1): – شذ عن هذا الأمر بعض البلدان، مثل الجزائر، حيث كان المخايلون الجزائريون يستخدمونه في مكافحة الاحتلال الفرنسين مما أدى إلى قيام سلطات الاحتلال الفرنسية بمنع خيال الظل في الجزائر عام 1843. للمزيد ينظر: سعاد محمد خضر –المسرح الجزائري المعاصر – مجلة الآداب اللبنانية – مارس 1967 – ص(73).
(2): – جريدة (المؤيد) – 15/12/1897
(3): – ينظر: جريدة (المقطم) – 4/11/1898
(4): – جريدة (المؤيد) – 30/8/1908
(5): – د.فؤاد حسنين – محمد بن دانيال – مجلة الثقافة – السنة الرابعة – 1942 – ص (4053 – 4056).
(6): – راجع: د. فؤاد حسنين – لعب المنار – مجلة الثقافة – السنة الخامسة – 1943 (ص 1055).
(7): – راجع: أحمد أمين – لعب التمساح – مجلة الثقافة – السنة الخامسة 1943 – ص(10، 11).
(8): – راجع: سعيد الديوه جي بالموصل – ابن دانيال الموصلي (646 – 710 هجرية) – مجلة الكتاب – السنة السادسة المجلد العاشر – 1951 – ص(611 – 617).
(9): – د.إبراهيم حمادة – خيال الظل – سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية – عدد32 – الهيئة العامة لقصور الثقافة – نوفمبر 1998 – ص(22، 23).
(10): – سعد الله ونوس – مقدمة كتاب: حسين سليم حجازي – خيال الظل وأصل المسرح العربي – منشورات وزارة الثقافة – دمشق – 1994 – ص(15).
(11): – ينظر: حسين سليم حجازي –السابق.
(12): – سعد الله ونوس –السابق– ص(20).
(13): – مجلة المقتطف – سبتمبر 1890– ص(829، 830).
(14): – ينظر: جريدة المقطم – 2/10/1897.
(15): – جريدة المقطم – 8/10/1897.
(16): – جريدة المقطم – 10/1/1900.
(17): – راجع: د.علي إبراهيم أبو زيد – تمثيليات خيال الظل – دار المعارف – 1983 – ط2 – ص (42).
(18): – د.إبراهيم حمادة – خيال الظل – سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية – عدد32 – الهيئة العامة لقصور الثقافة – نوفمبر 1998 – ص(88، 89).
(19): – د.علي الراعي – كتاب فنون الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب الريحاني المنشور مع كتبين في كتاب مسرح الشعب – مكتبة الأسرة 2006 – ص(202، 203).
(20): ـ راجع: بشير محمد عريبي – الفن والمسرح في ليبيا – الدار العربية للكتاب – ليبيا تونس – 1981 – ص(70، 71).
أ.د. سيد علي إسماعيل / قسم اللغة العربية – كلية الآداب – جامعة حلوان