مسرحية "بين بين": "شكون شكرك أ لعروس…؟" / لحسن قناني

** ملحوظة:
هذه المقالة كنت قد كتبتها في يناير المنصرم إبان فعاليات مهرجان المسرح العربي في دورته السابعة بالرباط ولكنها ضاعت مني، أو على الأقل ذلك ما اعتقدته، إلى أن عثرت عليها بالصدفة خلال الأيام الأخيرة، “قابعة” بين دفات كتاب
 
لابد أن أشير في البداية إلى أن الذي دفعني إلى تدوين هذه الملاحظات عن مسرحية “بين بين”، هو أنني كنت قد أعلنت عن وجهة نظري فيها بكل عفوية وتلقائية، في إحدى الندوات الفكرية لمهرجان المسرح العربي بالرباط في دورته السابعة، مبينا بأنني أنا شخصيا وباعتبار انتمائي للمسرح المغربي، أعلن وبكل صراحة وصدق، بأنني لا أتشرف بتاتا بأن تمثلني مسرحية على هذا النحو من الهزال في مهرجان من هذا الحجم (على الأقل على المستوى الجغرافي)؛ ولم يخطر ببالي أبداً وأنا أفصح عن هذا الرأي بأن بعض الأشخاص ممن كنا نعتقد أنهم “كرمة وفيها الكرموص…”، والذين يبدوا أن مثل هذا البوح التلقائي الصريح والمجرد من كل رياء أو نفاق لا يخدم مصالحهم، ولا يصب فيما يعتقدون أنه الصواب الأوحد، طبعا دلالة الصواب في هذا السياق لا يمكن أن تحيل إلا على المعنى البراغماتي النفعي، لأن دغمائية من هذا القبيل، لا يمكن أن تتمثل غايتها في الدفاع عن الحقيقة، بقدر ما تتمثل في تحصين مواقع معينة (غير مستحقة) ضمن خريطة لعبة الشطرنج الثقافية، لأن المسرح في مضمر رأيهم، ليس إلا لعبة شطرنج محكوم عليها بالموت والضحالة ما لم يكونوا هم “شاهاتها” والأوصياء على “قلاعها”؛ قلت، لم يخطر ببالي أبداً وأنا أفصح عن رأيي في هذه “المسرحية” بأن “القضية فيها إنّ”، وبأن هؤلاء الأشخاص سيناصبونني العداء، وكأنني دنست أقدس مقدساتهم، ولهذا أجدني مضطراً لأن أدون وجهة نظري ولأقول لهؤلاء: أولاً، إن كان هذا كل ما وسعه فهمكم لمبدأ الاختلاف الذي ما فتئتم تتشدقون به، فدونكم البحر لتشربوه. وثانيا أن أوضح لكل هؤلاء ولغيرهم من مليشيات التدخل السريع التي ناصبتني العداء، ومن المظليين les parachutistes الذين نزلوا إلى ساحة المسرح المغربي من السماء وأصبحوا “بقدرة قادر” هم سدنتها وكهنتها، يفرضون الوصايات ويصدرون الفتاوي، أن أوضح لهم بأنه لا يرهبني الإرهاب الفكري، وبأنه لم يكن في نيتي بتاتاً أن أزعزع حصون مصالحهم الضيقة، وأنا أدعوهم بكل صدق إلى أن يهنئوا ما شاء لهم الهناء بهذه المصالح، لأنني أنا شخصيا لا أعبأ بمثل هذه المصالح: فأنا مثلاً لا أطمح بتاتاً مثلما يفعل بعضهم، إلى أن أتربع على كرسي منصب معين ممتطياً جثت الأصدقاء، مستعجلاً نهايتهم المأسوية !… كما أنني لا أطمح نهائيا في أن أكون رئيس هيئة معينة، وأستغل منصبي لتحصين مصالحي والحضور في كل المحافل والمهرجانات المسرحية وطنياً وعربياً ودولياً، ولأجعل إسمي ينحشر بدون “فرشة” في كافة جنيريكات السيتكومات الرمضانية الشوهاء والمسلسلات المطبوخة الجوفاء، جاعلاً من هذه الهيئة ومن رجالها ورموزها مجرد مطية لتحقيق مآربي الذاتية.
طموحي أنا أيتها “السوسة” التي ما فتئت تنخر جسد المسرح المغربي، لا يتجاوز الغيرة على هذا المسرح وعلى مناضليه الشرفاء، ولا يتجاوز الهيام بالمسرح والرغبة العارمة في مشاهدة عرض مسرحي جميل أنيق، سلس ورائق، وأن أتمكن عبره من تملس ينابيع الفرح الفني في الأغوار السحيقة للتجربة الجمالية المتميزة بالإبداع والأصالة والفرادة والتجلي كما عبر جورج هانز غادامير، وذلك من قبيل ما تجسد في مسرحية “خيل تايهة” لفرقة ” نعم ” من فلسطين، ومسرحية “دموع بالكحل” و”الرابوز” وغيرها من المغرب.
وعليه فإن رأيي في مسرحية “بين بين”، لم يكن إذن موقفا من الشباب.
فالأمر لا يتعلق بصراع للأجيال وذلك على اعتبار أن طواقم المسرحيات الثلاثة المنوّه بها أعلاه، أضف إليها “حرير آدم” من الأردن، وغيرها كثير، كلها مكونة من الشباب، وبالنسبة للمغرب من خيرة الشباب من خريجي المعهد الذين نعتز بهم، ونرى فيهم امتدادنا الجميل.
الأمر وما فيه إذن أن مسرحية “بين بين”، كانت فعلا هزيلة وخالية من كل عناصر التمسرح، وبالتالي لم تكن جديرة بتمثيل المسرح المغربي في تظاهرة من هذا الحجم، فمسرحية “دموع بلكحل” أو مسرحية “الرابوز” كانتا أولى منها بهذا التمثيل، علما بأن ثمة مسرحيات أخرى في الموسم الفارط، كان بإمكانها أن تمثل المغرب في هذا المهرجان ولم تشملها الانتقاءات الرسمية، وذلك من قبيل المنجز المسرحي لكل من فرقة اللواء من الدار البيضاء وفرقة محترف الجوهرة السوداء من جرادة وفرقة الشامات من مكناس وغير ذلك كثير. أما مسرحية “بين بين” فإن المشكل المطروح بالنسبة لها لا ينحصر فقط في هزالها، بل في الطريقة التي وصلت بها إلى التتويج في المهرجان الوطني للمسرح الاحترافي بمكناس، إننا هنا أمام المئات من علامات الاستفهام والتعجب التي يمكن أن تشكل سينوغرافيا فريدة من نوعها لمسرحية تراجيدية عنوانها “وا مسرحاه” أبطالها مجموعة من المؤلفة بطونهم مربوطون بخيوط من فضة يتم تحريكهم بها كالكراكيز بواسطة أيادي خفية قريبة / بعيدة. ثم أن الرأي الذي عبرت عنه في ما يتعلق بهذه المسرحية ليس رأيي وحدي بل هو رأي أغلب النقاد والأكاديميين والمبدعين المسرحيين، الذين أتيحت لهم فرصة مفاتحتي في أمر هذه المسرحية، فكلهم ـ وليعفني القراء من ذكر الأسماء ـ متفقون بالإجماع على أن ليس هناك ما هو أبعد عن تمثيل المغرب في هذه التظاهرة من مسرحية “بين بين”. و على كل حال فهذا الرأي هو ما عبر عنه بصريح العبارة و بكامل الوضوح الشاب الباحث بيدري في تدخله الذي تلا تدخلي  مبينا أن هزال هذه المسرحية هو بداهة لا يمكن أن يختلف حولها اثنان .
وحتى يكون لحديثنا عن هذه المسرحية أرضيته الحجاجية سنحاول قدر الإمكان إخضاع هذه المسرحية لشيء من الفحص النقدي وإن كنا نشك في أن يكون للمعالجة النقدية المفصلة للعروض التي من هذا القبيل كثيراً من الجدوى والفائدة، لأنه وكما يقول بريخت “حين لا يكون بالمستطاع قول ما يعني هذا العمل أو ذاك، فما هو إلا لأن العمل نفسه بلا معنى، وهو بلا معنى لأنه مجرد من أي مدلول”، اللهم إلا إذا كان هذا المعنى تافها مبتذلاً، وفي هذه الحالة لا يحتاج إلى تشغيل أدوات الحفر والتفكيك النقدية، لأن الغث عادة ما يكون مثقاله خفيفاً، وبالتالي عادة ما يكون طافياً على السطح، وفي غير حاجة إلى جهد جهيد لتقريبه إلى مرآة العين النقدية.
وإذا كان النقد عموماً هو عبارة عن ولادة جديدة للعمل الفني، فإن الشيء الذي لا يعني شيئاً، لا يمكن أن يولد من جديد، ولكن مع ذلك لا نريد أن نغلق هذا الباب دون أن نقوم ولو بإطلالة خفيفة وسريعة على مسرحية “بين بين” حتى لا يقال عنا أننا صادرنا على المطلوب.
من بين العبارات المأثورة عن هتلر قوله أن الكذبة بقدر ما كبرت بقدر ما انتشرت وسهل على الناس تصديقها، ويبدوا أن الأشخاص آنفي الذكر والذين نصبوا أنفسهم أوصياء على المسرح المغربي دون وجه حق، وما فتئوا يعملون على هندسته على مقاس مصالحهم الذاتية وطموحاتهم الخاصة الدنيئة، مستعينين في ذلك بالكولسة والإعلام المفبرك والدعاية المغرضة وأساليب التمويه والمخالطة و”التامافيوزيت”، والعقلية التآمرية بحكم وجودهم على رأس بعض الهيئات المهنية الخاصة بأبي الفنون أو بحكم قربهم من مراكز القرار الثقافية واحتيالهم عليها، قلت يبدوا أن مثل هؤلاء الأشخاص فهموا جيداً هذا الدرس الهيتليري المقيت، وأصبحوا يراهنون ضمن وسائل تمويه أخرى على تقديم الأشياء في غير أحجامها الطبيعية، وذلك إما بالمغالاة في تضخيمها أو بالمغالاة في تقزيمها، وعلى هذا النحو راح هؤلاء الأشخاص متوسلين في ذلك بما جُبلوا عليه من أساليب ملتوية يكيلون بمكيالين، إذ في الوقت الذي يعملون فيه على تجاهل الأعمال الإبداعية الجيدة، ويتظاهرون بعدم ملاحظتها فارضين عليها صمت القبور، نراهم يلجئون عكس ذلك إلى تضخيم الأعمال الإبداعية المتواضعة وحتى الهزيلة في كثير من الأحيان، وينفخون في كفاءات أصحابها ويبالغون في تقدير مجهوداتهم كما فعلوا مع مسرحية “بين بين”، إذ لا زال هؤلاء الأشخاص مستعينين في ذلك بعلاقاتهم الأخطبوطية، يثنون على هذه المسرحية وينفخون فيها ما وسعت أوداجهم حتى ظننا أن ميلاد هذه المسرحية شكل اللحظة التي بلغ فيها تاريخ الفن منتهاه، وأن ما قبلها وما بعدها باطل. فماذا كانت الحقيقة ؟.. الحقيقة الوحيدة هنا هي ما يعبر عنه المثل الشعبي الدارج: “شكون شكرك ألعروس ؟ مّا وخالتي… والواقفة ﯖبالتي ” لأن العرض الذي قُدم لهذه المسرحية وذلك يوم الأحد 11 يناير على الساعة 20h30 بالمسرح الوطني محمد الخامس، ضمن فعاليات الدورة السابعة لمهرجان المسرح العربي أبان أن كل ما روّج له الكتبة المأجورون و”الكارون” أصواتهم وحناجرهم، عن هذه المسرحية كان من قبيل الاستيهامات المفبركة التي تدخل في صميم الخطاب الإشهاري المبني على المدح والإطراء وتجميل العيوب والتغاضي عن الأخطاء، ومعلوم أن أحكام هذا النوع من الخطاب لا تنبني على الاستقصاء والاستقراء والتحليل والتعليل، بل تنبني على الاختلاق والفبركة والتوهيم، وأن ولاءه لا يكون للمناهج والنظريات والقيم الإبداعية، بل يكون للصداقات والعلاقات والتوصيات، وبالتالي تكون الدعاية في مثل هذا الخطاب هي الهدف وليس الحقيقة.
وحتى لا يتخذ حديثنا عن هذا العرض طابعاً تجريدياً سنعمل على الوقوف عند بعض محطاته الأساسية، ومن حيث يبتدئ البدء سنبدأ أي من العنوان.
ـ العنوان / التغليط:
يشبه العنوان في المجال الفني تلك البوابة التي يتركها المبدع شبه مفتوحة ويدعونا من خلال ارتيادها إلى الولوج إلى عالم التجربة الإبداعية، فمهمة العنوان، لا تنحصر في كونه كناية أو استعارة للأثر الإبداعي إلى أقصى الحدود، فهو قبل كل شيء عنصر من البنية الإجمالية للأثر، يستبقها ويدل عليها بتكثيف أنظمتها الدلالية وعلى هذا النحو، يشتغل العنوان كأداة وصل وتعديل للقراءة أو الفرجة في حالة العرض المسرحي، وذلك بالقدر الذي يحاول فيه العمل على تحيين عنصر من الحكاية أو الإيحاء بأجواء عالم الأثر، إلا أن المعنى الذي يدشنه العنوان يظل معلقاً، ينتظر اكتماله هناك، في المجاري التي يسلكها انسياب الفرجة، وبفضل ذلك يستطيع العنوان أن يهمس للمتفرج بأفق انتظار ممكن.
فهل العنوان في مسرحية “بين بين” توفرت فيه جملة الكفاءات المذكورة أو بعضها على الأقل ؟.
الواقع أن عنوان “بين بين” انعدمت فيه كافة الكفاءات المذكورة لأنه لم يكن ثمة ما يصل بين دلالة العنوان وبين خطاب المسرحية فعبارة “بين بين” إذا فهمت في معناها القريب، تقوم على إضافة نفس الكلمة إلى ذاتها، ولما كانت كلمة بين هي ظرف مكان، فإن مضاعفتها عن طريق الإضافة تدل على ذلك الحد الذي يتوسط حدين متقابلين، فأن يقول أحدهم بأن حاله “بين بين” فمعنى ذلك أنها ليست لا بالحسنة بإطلاق ولا بالسيئة بإطلاق بل هي في منزلة بين هاتين المنزلتين.
وهذا المعنى لا أثر له في خطاب العرض، طبعا عندما نتحدث عن خطاب العرض هنا فنحن لا نقصره على الملفوظ بل نجعله مترتباً عن جملة ما يعتمل داخل هذه المساحة الفارغة التي ندعوها الركح..
ما يزيد في الطين بلة أن ما كتب عن هذه المسرحية في النشرات اليومية للمهرجان، لم يعمل إلا على توسيع مساحة التعتيم عن نوعية العلاقة التي يمكن أن تجمع بين هذا العنوان وبين خطاب العرض.
فإذا رجعنا إلى العدد 4، الصفحة 8 سنعثر على كلمة فضفاضة عن المسرحية جمعت في بضعة أسطر من المصطلحات ما تضيق عن استيعابه مصنفات الفلسفة المعاصرة بكاملها، وبالأخص في حديثها بكل ذلك “البُهر” عن مفهوم الذات ومفهوم الآخر (طبعاً لا يخفى على أحد أن هذه الكلمة كانت موجهة مباشرة إلى لجنة التحكيم، وبالتالي تدخل ضمن الآليات الجهنمية الرامية إلى النفخ في الفئران وجعلها بحجم الفيلة).
فلو كانت هذه الكلمة قد دُبجت للإحالة على الطريقة التي عالج بها جيل دولوز إشكالية مفهوم “الآخر” من خلال رواية vendredi ou les limbes du pacifique، لقبلناها بصدر رحب، أما أن تقال عن مسرحية “لا ساس لها ولا راس” فذلك ما نجده غير مستساغ في هذا السياق، خصوصاً وأن المواضيع التي تم التطرق إليها (موضوع حمودة؟!) و(موضوع الهجرة أو الباسبور الأحمر) و(موضوع الزواج)، لم تكن على تلك الدرجة من العمق التي تؤهلها لتقول ما قالته الكلمة الآنفة الذكر، وخصوصا مرة أخرى أن السلك الناظم بين هذه المواضيع كلها كان منعدما، وهذا ما اعترف به أعضاء الفرقة أنفسهم في العدد 2 من النشرة اليومية للمهرجان (صفحة 14)، إذن فالأمر وما فيه أن هذه الكلمة تدخل ضمن الأساليب الملتوية للكولسة والدسيسة والإعلام المفبرك والدعاية المغرضة، وميكانيزمات التمويه والتغليط و”التامافيوزيت” والعقلية التآمرية، وذلك من أجل اصطياد لجنة تحكيم المهرجان العربي كما تم اصطياد لجنة تحكيم مهرجان مكناس.
وهكذا فإذا كان العنوان عموماً هو الجسر الذي يمده العمل الإبداعي قصد التمهيد لعملية التواصل مع الجمهور، فإن العلاقة بين العرض والمتلقي في مسرحية “بين بين” أنبنت منذ البداية على الالتباس والتغليط والتوهيم بالإمتلاء هناك حيث لا يوجد إلا الخواء…، لأن كل ما حبل به البهر أو الإبهار الذي اشتملت عليه عبارة العنوان هو العتمة.
ـ الخطاب / “الحمُّودَوي”:
إذا كان العنوان باعتباره أحد عناصر الجذب والاستهواء الهامة ضمن استراتيجية التلقي، قد انبنى على الالتباس والتوهيم والإبهار، فإن خطاب المسرحية لن يكون أحسن حظاً، إذ لم يقتصر التنافر على العلاقة التي ربطت بينه (أي الخطاب) وبين فكرة العنوان، بل تعدت ذلك إلى العلاقة أو بالأحرى اللاّ علاقة التي تربط بين المشاهد أو بالأحرى السكيتشات.
تبدأ المسرحية بمشهد قصير جداً، يقتحم فيه الممثلون الركح وينخرطون مباشرة في لعبة كنا نلعبها ونحن صغاراً “تخيل لو أن كذا وكذا…”، وهو مشهد كان بإمكانه أن يكون واعداً لو أن ما تلاه كان يصب في نفس الاتجاه ضمن بنية متراصة، لا يأخذ أي عنصر من عناصرها قيمته فيها، إلا بالنظر إلى علاقات التمفصل التي يرتبط بموجبها مع بقية العناصر ضمن نسقية الكل الذي ينتظمها جميعا…
ولكن  ما حدث هو أن هذا المشهد القصير جداً، سيكون متبوعاً بأغنية ، ويا لها من أغنية، أغنية “حمودة يا الكاويني حمودة !” والتي طالت حتى ظننا أنها لن تتوقف حتى يوم الحشر.، وإذا أضفنا إلى ذلك أن هذه الأغنية “البهلوانية” ليس بحوزتها من الكلمات إلا ما سبق ذكره، تبين لنا بأنه لم تكن ثمة أي علاقة تربطها، لا بما سبق، ولا بما سيلحق، إن لم نقل بأن لا علاقة تربطها بأي شيء على الإطلاق، إذ يحق لنا أن نتساءل والحالة هذه عن أي صلة إذن يمكن أن تجمع بين “حمودة يا الكاويني حمودة” وبين الهذيان الذي ورد في العدد الرابع من النشرة اليومية للمهرجان، والذي مفاده أن العرض “قائم على الكشف عن المضمر فينا…مضمر الكراهية والخوف، مضمر البند والإقصاء، مضمر الشك واللايقين،… وذلك خوفا من الآخر… بل خوفا من الذات التي قد … تصير عدواً لذاتها” !!! ؟
طبعا لا صلة هناك بين “حمودة” وبين كل هذا السيل من الهراء اللهم إلا ذلك الميل المغرض لرسم الصراصير بحجم الدناصير، والفئران بحجم الفيلة.
بعد أغنية “حمودة” ستتوالى جملة من السكيتشات، انطلاقا من سكيتش “الباسبور لحمر”، مروراً بسكيتش حول الزواج وآخر… لست أدري حول ماذا …؟!… لأن كل هذه السكيتشات، كان يشوبها طابع التسطيح والتبسيطية والافتقار للعمق الفني وغياب الرؤية التاريخية، ولم يكن ثمة أي رابط ومن أي نوع كان، لا منطقي ولا درامي يربط بينها، كما أن كافة هذه السكيتشات كانت متخللة إما بعودة “حمودة يا الكاويني حمودة” وما يجري مجراه، أو بذلك النوع من الصخب أو بالأحرى “الصْدَاعْ” الصادر عن آلتي “الباتري” والقيثارة الكهربائية، والذي لم يكن له ما يبرره في سياق العرض. طبعا من حيث المبدأ لا يمكن إلا أن نقول: أهلا للموسيقى كجزء لا يتجزأ من فرجات العرض المسرحي وعلاماته، ولكن بالشكل الرائع والأصيل الذي حضرت به في مسرحية “خيل تايهة”، وليس بهذا الشكل / النشاز، المجرد من أي وظيفة  أو دلالة، والذي ارتكز في مسرحية “بين بين” على الصخب والتبجح والإبهار، أكثر من ارتكازه على الالتحام بمجمل مكونات العرض، والعمل بفضل ذلك على الإخصاب المتواتر للفرجة المسرحية كما حدث في مسرحية “خيل تايهة” التي حصلت على الجائزة الكبرى للمهرجان رغم كيد الكائدين وتآمر المتآمرين الذين لم يدخروا جهداً في كواليسهم الجهنمية للتقليل من قيمتها لصالح مسرحية “بين بين”، ولكن هيهات ففي نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح، أما الغُثاء فيذهب هباءً..
فإذا كان العمل الإبداعي كما وصفه همنجواي، هو أشبه ما يكون بكتل الجليد في البحار المتجمدة، والتي لا يشكل الجزء الظاهر منها، إلا عُشر الكتلة، أما التسعة أعشار الباقية، فتبقى متوارية تحت الماء، وهي التي من المفروض أن تنصب على استكشافها العملية النقدية، فإن خطاب العرض المذكور أي “بين بين” بلغ من الفقر والابتذال والتسطيح والتبسيطة إلى الحد الذي جعله يبدو عبارة عن ظاهر بلا باطن وسطح بلا عمق ولا أبعاد ولا محيطات.
هذا كل ما في الأمر ولا نعتقد أنه بإمكان حتى الحفر الهيدغري والهيرمينوتيقا الديريدية أن تستنبط من هذا العرض أكثر مما تم استنباطه، لأنك إذا وضعت في القدر بصلاً فلن تحصل إلا على البصل وإذا طحنت تبنا فلن تحصل إلا على التبن، ولا يمكن لأي أداة نقدية مهما كانت إجرائيتها ونجاعتها أن تستنتج من “حمودة يا الكاويني حمودة !” وما رافقها من سكيتشات متواضعة أكثر مما تم استنتاجه.
ـ الأداء / “السكيتشوي“:
لابد من الإشارة هنا أن طغيان أسلوب “السكيتش” على مستوى الكتابة كان لابد أن يفرض نفسه حتى على مستوى الأداء.
إن السكيتش كنص مكتوب يستدعي من حيث طبيعته باعتباره سكيتشا الاعتماد على “الثنائي” duo على مستوى الشخصيات ولا يند عن  هذه  القاعدة إلا لماماً، وطبعا ستظل هذه القاعدة سارية المفعول حتى عند الانتقال من النص المكتوب إلى العرض، الشيء الذي يجعل الأداء بدوره واقعا تحت هيمنة هذه الثنائية وخاضعا لإكراهاتها، ولعل ذلك ما انعكس بشكل واضح في عرض “بين بين”، إذ حافظ هذا العرض في مجمله، على الطريقة التقليدية لأداء السكيتشات والتي يقف بمقتضاها أحد الممثلين على اليمين والآخر على اليسار ويتداولان الحوار، يتوسطهما الميكرو..
طبعاً الميكرو في هذه المسرحية كان حاضراً، ولكن تم إرجاعه إلى الوراء أي إلى الوسط من خلفية الركح وتم تخصيصه لترديد وإعادة ترديد أغنية “حمودة يا الكاويني حمودة !”.
ولكن مع ذلك ظلت الطريقة التقليدية ذاتها في أداء السكيتشات طاغية على أداء الممثلين في مسرحية “بين بين”، أي وقوف الثنائي في خط جبهي في مواجهة الجمهور وتبادل الحوار بالحفاظ على الوضعية ذاتها، الشيء الذي ما كان إلا أن يكون له انعكاسه على مستوى الحركة والتنقلات والتي وقعت في مجملها في المونوطون والتكرار، وذلك لأن اللعب في مجمله كان يحدث في مقدمة الخشبة دون اهتمام بتنويع التنقلات وتخصيب الحركات، ولا تبادل حتى للمواقع في كثير من الأحيان، ما عدا بعض الاستثناءات القليلة التي ظلت بعيدة عن أن تشكل قاعدة للحكم، ولا يمكن لبعض الحركات المفتعلة المفصولة عن سياقاتهم الدلالية أن تشكل فارقا، وإلا لكان عرض “الزيبق” المتخم بالحركات الراقصة التي لا صلة تربطها بأفق انتظار الخطاب المفترض للمسرحية، هو أحسن عرض في المهرجان.
ـ التشخيص / التصنع:
قد تكون أهم نتيجة يمكن استنباطها من تحليل من هذا القبيل، تم ليس بناء على “النفخ والتضخيم”، سواء “التكوْلُسي” منه أو الإعلامي، بل على العرض كما تمت معاينته في صورته الموضوعية، هي أن التتويجات التي حظيت بها هذه المسرحية لم تكن مستحقة، بل كانت “مخدومة”، بدهاء ممنهج لا يعلم آلياته إلا الله والراسخون في الكولسة والتخرويض والتآمر..
فإذا كان القانون الأساسي لعمل الممثل كما يرى ماير خولد هو “القدرة على توجيه الجسد في الفراغ”. وبالتالي فإذا كانت الكفاءة في التشخيص تتوقف على قابلية الممثل في أن يجعل من جسده لغة قادرة على إنتاج المعنى، فإن التشخيص في المسرحية التي نتحدث عنها، كان يندرج ضمن ما يسمى بالتمثيل الآلي، وهو تمثيل يستقى أصوله من القوالب المستنسخة، فإذا كانت المادة الأساسية في فن الممثل، وكما يقرر ستانسلا ﭭسكي هي الفعل، وكان “الفعل هو حركة إرادية لسلوك إنساني موجه نحوهدف معين”.
فإن هذا التمثيل يلجأ إلى الانفعالات المفتعلة الزائفة، التي هي نوع من المحاكاة المصطنعة للجانب السطحي من المشاعر الجسمانية، والتي لا تقدم للجمهور في نهاية المطاف غير القناع المميت لشعور غير موجود، الشيء الذي ما كان من جرائه إلا أن يقود إلى طغيان التكلف والكليشيهات الجاهزة، وذلك سواء تعلق الأمر بالحركات والأوضاع أو تعلق بالإلقاء والأداء.
ومما زاد في حدة هذه الآلية هو مضاعفة الأدوار، إذ تمت المراهنة في كافة التقمصات على استجداء الضحك والتصفيق، وهي الغاية التي لم يتوان الممثلون من أجل بلوغها التوسل بأقصى درجات التصنع، خصوصاً إذا علمنا أن هذا الأمر كان يؤدي إلى الإساءة إلى نقاء وسلامة التلفظ، وبالتالي إلى ابتلاع الممثل لبعض الحوارات أو لمقاطع منها، الشيء الذي ترتب عنه تشويش معاني الرسائل الكلامية مما انعكس بالسلب على عملية التواصل.
وما كان لتشخيص من هذا القبيل إلا أن يسقط في أكثر أنواع التشخيص ابتذالا ما دام الرهان منصب أساساً على استجداء تعاطف الجمهور. وقد سبق لـ “غروتوﭭسكي” أن حذر من مغبة الوقوع في مثل هذا النوع من التشخيص، لأن فن التمثيل في نظره “حين يستغل من أجل المال أو من أجل كسب عطف الجمهور، فهو فن يتاخم البغاء”. وحينئذ لن تكون له أيّ علاقة بفن التمثيل الحقيقي، وذلك على اعتبار أن الفرق بين الممثل الطاهر (الصادق) والممثل المومس (المتصنع) هو نفس الفرق بين تصرف غانية، وطابع العطاء المتولد عن حب حقيقي…”.
وليس معنى كل هذا الحديث عن التشخيص في مسرحية “بين بين” أن العيب يكمن في العناصر الشابة التي قامت بأداء الأدوار في هذه المسرحية، بل على العكس من ذلك، إن هذه العناصر الشابة أبانت عن امتلاكها لقدرات واستعدادات هائلة في فن التمثيل، وبالأخص الفتاة التي تم التركيز على صوتها الجميل، لأداء أغاني رديئة ركيكة، لا علاقة لها لا بالمسرح عموماً ولا بخطاب المسرحية موضوع الحديث، وهو الأمر الذي أدّى إلى إهدار طاقاتها الكامنة وعدم استثمارها فيما من جرائه أن يقوم بإخصاب الحقول الدلالية والجمالية للعرض، ونفس الشيء يمكن قوله عن (الممثل السمين) فهو أيضاً يمتلك كفايات تشخيصية متميزة، بالأخص فيما يتعلق بتفجير الكوميك، ولكنه يحتاج إلى نص كوميدي حقيقي لإبراز هذه الكفايات.
ـ الإنشاد / التقصار:
من المعلوم أن الإنشاد عموما يمكنه أن يضطلع بدور وظيفي مهم في العرض المسرحي وذلك على عدة مستويات، سواء على المستوى التقني البحث وحيث يمكن للأغنية المندمجة أن تشكل مناسبة لتحريك قطع الديكور (إذا كان هذا الأخير متحركا)، أو على المستوى الدرامي، وحيث يمكن أن تسند للأغنية مهمة الإعلان عن تبدل المشاهد والتعليق عليها والربط بينها، أو على مستوى الفرجة، على اعتبار ما يزخر به الإنشاد بصفته شكلا من أشكال التعبير الفني المعتمدة على السماع، من طاقة على تفجير المتعة في تقاليدنا الفرجوية، أو على المستوى الدلالي وحيث يمكن أن تشكل حقنا دلالية مشاغبة تستهدف خلخلة البنيات الكلامية للنص الأدبي بما يجعل السائب فيه يطفو على السطح مثلما حدث بشكل غاية في الإبداع والإتقان والأصالة في مسرحية “خيل تايهة”.
إذا كانت هذه هي جملة المهام التي يتحتم على الأغنية إنجازها داخل العرض المسرحي، فإن الأغنية في مسرحية “بين بين” بدت كالزوائد في نسيج العرض، بحيث أن اللجوء إليها لم يكن لضرورة مسرحية أو درامية، أو حتى ضرورة تقنية بحثة، بل كان بغرض التقصار و”النشاط”، بحيث بدا العرض المسرحي في مجمله عبارة عن سهرة غنائية رديئة تتخللها سكيتشات لا تخرج مراميها هي الأخرى عن إضحاك الجمهور وتسليته بالمعنى الذي يُستهدف فيه الضحك كغاية في ذاته، ولا تكون فيه للتسلية أية غاية خارج ذاتها.
ـ الكوميك / التهريج:
قد يكون من نافلة القول التأكيد على أن أهمية الكوميك كأسلوب من أساليب التعبير الفني لا تتجلى فقط في كونه مجرد وسيلة للترفيه والتسلية غايتها خفض التوتر النفسي وتحرير الانفعالات الحبيسة، بل تكمُن في قدرته على إدخال الشيء إلى دائرة الضوء، ووضعه تحت العدسة المكبرة لمنظار الاتصال المألوف، وهو الأمر الذي يقتضي عدم النظر إلى الفكاهة كترف فني، بل كقناة فنية نموذجية لا تتحدد غايتها في ذاتها بل في مدى تعالقها مع الوضع البشري في مختلف تجلياته.
إذا كان ذلك كذلك، فهل كان للضحك في مسرحية “بين بين” ما يبرره، أم أنه كان ضحكاً بلا سبب ؟
نؤكد في البداية على أن ثيمات من قبيل الهجرة ومشاكل الزواج وغيرها مما تطرقت له المسرحية، هي من الثيمات ذات الأهمية البالغة والتي يمكن أن يتأسس عليها خطاب مسرحي تتحقق فيه المعادلة الصعبة للجمع بين الإمتاع والتنوير، ولكن شريطة أن تتم معالجتها انطلاقا من مقاربة فنية تستهدف العمق في الرؤية التاريخية، والصدق في التناول الفني، والقدرة على سبر أغوار المضمر، وتتوسل بالوعي التنويري المطابق في مقابل الوعي الإيديولوجي الزائف، أما إذا اقتصرت المعالجة على التبسيطية والتسطيح كما حدث في مسرحية”بين بين”، فإن الضحك في هذه الحالة سيتحول إلى ضحك من أجل الضحك وسيكون أقرب إلى البسط والتهريج منه إلى الفكاهة الفنية، خصوصاً وأن الضحك في هذه المسرحية لم يكن مؤسساً بمعنى أنه لم يكن نابعاً من الأسس التي تنبني عليها الفكاهة في مفهومها الفني الدقيق، والتي ترتكز على خلق أوضاع كوميدية حقيقية مترتبة عن البراعة في التنذر، وعن تلقائية السياق والموقف والكلام، وبالأخص عن القاعدة الذهبية للفكاهة والتي تجعل الكوميك يتولد عن عدم التناسب بين الأفكار والمواقف والملفوظات، بل كانت مبنية في المسرحية على ضغضعة المتلقي واستنفار غرائزه بشكل عام والجنسية منها على وجه الخصوص.
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت