حالة عشق تحت التهديد / د. حسن عطية

 
على مسرح الغد  
 
عن: الكواكب 
 
يتأثر المبدع الجاد عادة بزمنه الذي يعيشه، وبأوضاع وأفكار هذا الزمان، لكنه حينما يشرع في الإبداع يدرك بوعيه أنه يصنع فنا يخاطب مجتمعه في زمنه، دون أن يحبس نفسه داخل هذا المجتمع بظروفه وأفكاره، بل يتجاوزهما ليخاطب مجتمعات أخرى وأزمنة مختلفة، فالفن الحقيقي الجاد والخالد هو فن غير موسمي وغير مرتبط باحتفاليات عابرة، يعبر عن واقعه الساخن بأعمال راقية تتكامل في ذاتها لتعيش لأطول مدى ممكن، وأن ظلت حاملة بصمات مجتمعها وزمنها، يتطور فكر صاحبها، وقد تتغير قناعاته، لكنها تظل منتمية إليه لا يستطيع أن يتنكر لها، حتى ولو انقلب عليها مدعيا أنه كتبها وهو مغمي عليه، أو أن وعيه كان مستلبا وحينما عاد إليه وعيه المفقود أدرك فداحة ما أبدعه.
والأمر قد يكون واضحا وبسيطا في حقول الشعر والرواية والسينما أيضا، لطبيعة هذا الإبداع لصيق الصلة بمبدعه، وارتباطه الوثيق بمجتمعه وزمنه ورؤية صاحبه لهما، بينما الأمر يختلف في حقل المسرح، حيث تتداخل رؤيتان  في العرض المسرحي الواحد، وهما رؤية كاتب النص الدرامي المرتبطة حتما بلحظة كتابته له في زمن سابق ورؤيته المستقبلية، ورؤية المخرج ومعه بقية صناع العرض المسرحي والمتعلقة باختياره لهذا النص بالذات لتوجيهه لجمهوره في زمن العرض الراهن، مما يتطلب اتفاقا مسبقا بين المخرج ورؤية النص وكاتبه، وألا هدم النص وأطيح برؤية كاتبه، وصار النص مجرد هيكل مفرغ من الأفكار يعاد ملؤه بإضافات غنائية ولصقه بمونولوجات خارجية  باسم بدعة أسمها (الدراماتورج) فاسدة التفسير والاستخدام.
وعرضنا الحالي الذي افتتح مساء الجمعة قبل الماضية بقاعة مسرح الغد، وحمل اسم (عشق) رغم أن نصه الأصلي يحمل عنوان (تحت التهديد)، كتبه صاحبه الكاتب الكبير “محمد أبو العلا السلاموني”، منذ نحو نصف قرن من الزمان، كباكورة أعماله الساعية للاكتمال، وتعددت الرؤى الإخراجية له، وقدمه في العرض الحالي المخرج الشاب “محمد متولي” الذي سبق أن قدمه باسمه الأصلي على مسرح الهناجر عام 2008، وفاز العرض وقتها بأربعة جوائز أساسية في الدورة الرابعة للمهرجان القومي للمسرح 2009، وهى جائزة أفضل نص لأبى العلا السلامونى، وأفضل تمثيل رجال لعلاء قوقة، وأفضل تمثيل نساء لأمل عبد الله، وجائزة الموسيقى لعمرو شاكر، وهذا الأخير هو الوحيد من مجموعة العرض السابق الذي شاركه في العرض الحالي، فما الذي جذب مخرجنا النابه لهذا النص بالذات لكي يخرجه أكثر من مرة، حيث يبدو أنه أخرجه من قبل للهيئة العامة لقصور الثقافة؟، وما الذي دفع فرقة الغد للموافقة على تقديم عرض لنفس المخرج والكاتب بعد نحو سبع سنوات من تقديمه في أحد مسارح وزارة الثقافة الاحترافية؟ .
كتب “السلاموني” نصه هذا في أجواء فكرية وسياسية هيمنت على المجتمع المصري أواسط ستينيات القرن الماضي، وتنازعتها تيارات متعددة تكشف عن ثراء هذه الفترة المتنكر لها بعد ذلك، حيث تجاور الفكر القومي العروبي، إلى جانب الفكر الماركسي، وأفكار اليمين المحافظ، وتسللت الفلسفة الوجودية لأروقة الجامعات والصحافة والفنون، وعرف  الآداب والمسرح ترجمات روايات (كافكا) الكابوسية ومسرحيات “بيكيت” و”يونسكو” العبثية، وذلك وسط صراع سياسي تصدرته سلطة وطنية اهتمت بتأسيس مجتمع عادل علي حساب حرية أفراده، ملقية ف  بداية الستينيات بالمناوئين لها ف  سجونها، حتى صار السجن أحد أيقونات ذاك الزمان، نجده ف  قصائد “احمد عبد المعطى حجازى” و”صلاح عبد الصبور” وروايات “نجيب محفوظ” الستينية، ورددت الأصداء قول “سعيد” ف  (ليلى والمجنون) “في بلد لا يحكم فيه القانون يمضي فيه الناس إلي السجن بمحض الصدفة”، وتلونت غالبية هذه الأعمال بتهويمات “كافكا” وسجونه الملغزة واعتقال أبطاله غير المبرر منطقيا.
** الخروج مسخا:
في هذه الأجواء اقتحم “السلامونى” عالم المسرح، وهو بعد فب الخامسة والعشرين من عمره، متسلحا بثقافة فلسفية، باعتباره دارسا للفلسفة في الجامعة، وبإحساس وطني، وفكر تقدمي، ورغبة في الرقي بفن المسرح الحواري، ربما تأثرا هنا بكاتبه المفضل “توفيق الحكيم”، وجاء نص (تحت التهديد) ليقدم لنا عملا محكما يدور حول سجين سابق، قبض عليه في تهمة لا جريرة له فيها، واعتقل لسنوات عشر (خمس في العرض المسرحي الجديد) ليخرج من السجن مسخا مشوها، يمارس بسادية عنفا مع زوجته، ويحبس نفسه عاما كاملا داخل ورشة عمله (الأتيليه) القابع ببدروم بيته، والذي يبدو بدوره منعزلا عن العالم، حتى ينتهي من نحت ثلاثة تماثيل تمثل عنده وكيل النائب العام الذي وجه إليه تهمة اغتيال رجل وجد “بمحض الصدفة” مقتولا بورشة عمله، دون أن تكون له أدنى علاقة به، والقاضي الذي حكم عليه بالسجن دون أدلة دامغة سوى وجود جثة القتيل بمسكنه، وأخيرا المحامى الذي لم يستطع بدفاعه المتهافت إنقاذه من السجن .
ينطلق الحدث الدرامي في هذه الليلة الليلاء التي اكتمل فيها عامه الأول بعد خروجه من السجن، وانتهى فيها من نحت تماثيل أفراد محاكمته لاستعادتها من وجهة نظره، ومحققا خلالها مواجهته لزوجته التي هجرته سنوات السجن عنها، وهجرها هو عمدا طيلة العام الفائت، رغم جوعهما معا لحرارة الجسد وسكينة الروح، ويبدأ في مهاجمتها متهما إياها في البداية بأنها هي من أبلغت عن وجود الجثة بورشته السفلية، بصيغة أوحت للشرطة أنه القاتل، ثم يثنى باتهامها بوجود علاقة مريبة بينها ومحاميه، الذي مال يوما نحوها، ويتحول تشابكهما لحوارية ساخنة بينهما، ينتقل بعدها لإعادة بناء محاكمته عبر التماثيل التي صنعها لعناصرها الأساسية.
** سيمترية:
بسينوجرافيا قسمت قاعة مسرح الغد إلى قسمين متعادلين، مقدمة صياغة تقليدية يقع فضاء المسرح في نصفها الأمامي، وصالة الجمهور في نصفها الخلفي، وبديكور متماثل التكوين، صممه “محمود الغريب”، تتصدره خمسة قضبان مائلة على اليمين ومثلها على اليسار مؤكدة على حضور جدران السجن المحيطة بعالم هذا المثال، الذي أضاف له المخرج مهنة الرسم دونما مبرر درامي، والمتحرك داخل الأتيليه الخاص به على أرضية المسرح، تتواجد خلف القضبان تماثيل تكاد يتماثل حضورها بين يمين ويسار المسرح، ترتفع خلفه منصة مستطيلة يبرز على يمينها حائط مائل من النوافذ الزجاجية، ومثله بالضبط على يسارها، وترتفع في عمقها ثلاثة مكعبات مفرغة تحتوى تماثبل نصفيه، وتحتها يتحرك ثنائي راقص “هدير” و”زيزو”، يرتديان نفس أزياء وألوان ثنائي التمثيل في المستوى الأدنى، وأن عبرا بالرقصات التي صممها “طارق حسن” عن غير ما يجيش بأعماق بطلي المسرحية المتصارعين، حيث يعانى المثال من تمزق داخلي، وشعور بالغبن، ورغبة في الانتقام، واتهام لزوجته، ورفض لنسيان الماضي والغفران للفاعلين، فسنوات السجن القاسية تركت بنفسه جراحا لا تندمل، وسنوات طفولته وصباه قبلها ليس بها سوى قهر الأب وعذاب زوجة الأب وقسوة المعلمين عليه وسخرية التلاميذ منه، فهو شخصية منكسرة منذ الصغر، منطوية على ذاتها، ومنعزلة عن الحياة باستغراقها في نحت التماثيل البديلة للأنفس الحية، ولهذا فالعالم داخله مشوه، وهو لا يرى العالم خارجه مخالفا لما هو قابع داخله، ولذا جاء ديكور العرض المتماثل وملابسه الواقعية متعارضا مع طبيعة النص التعبيرية وعالمه الكابوسي وموضوعه الذي لا تتماثل فيه الذات المتحدثة مع بقية الذوات التي يخلقها بأزميله أو بوحي خياله.
**المثال ومحاكمته:
والأمر كذلك بالطبع مع الرؤية الإخراجية المحتوية لكل عناصر العرض، والتي لم يأت “محمد متولى” بجديد في إخراجه الثاني اليوم، ولم يبدو في الأفق أي تبرير لفرقة مسرح الغد في إعادة إنتاج ما أنتجه مسرح الهناجر من قبل، سوى في تغيير عنوانه دونما مبرر، وهو ما يجعل له وللكاتب نصا آخر يؤرخ به غير النص الأصلي، هذا إلى جانب دفعه لممثل شخصية (المثال) لتجسيد شخصيات المحاكمة الثلاثة، بارتداء قناع لكل واحد منهم، ومحاولة تلوين صوته لتقديم كل شخصية، وهو أمر بغير ذي أهمية، فسواء جسد وجودها هو بنفسه أو جسدها ممثلون آخرون لن تتغير الدلالة، فهي شخصيات صنعها وفق خياله المريض، وراح يستعيد بها موضوع محاكمته الذي صار هاجسا يلح على عقله، وأضحت أقواله عن أبيه وزوجة أبيه وعالم الطفولة مشكوكا في صحتها، بل وأمست زوجته ذاتها وجودا مريبا، فهي جزء من خياله المريض، وتسلله ليلا لرؤيتها عارية هو رغبة دفينة بأعماقه لتلمس الوجود الحي وسط حالة الذهان المنغمس فيها.
كما لم يستطع المخرج خلق عوالم مرئية تخفف مما أشرنا إليه من حوار طويل بين الزوج والزوجة، ولم يستفد من كتلة الديكور المرتفعة لكي تكون له مساحة تجسد بالإضاءة والمؤثرات الصوتية ما يعتمل في نفس الشخصية الرئيسية من مشاعر مضطربة، وألقى بالحمل كله علي الممثل “رامي الطنبارى” لكي يتحمل مهمة تجسيد شخصية “المثال” الممزقة، مضيفا إليها الكثير من أقوال الشخصية الدرامية المقتطعة من حوارها ليجسد بها وبصورة مباشرة وقوع الشخصية في نهاية العرض تحت أشكال عدة من تهديدات الآخرين, ونجح “الطنبارى”  كثيرا في تجسيد التمزق الداخلي
لهذه الشخصية، وإن غالى في بعض انفعالاته مما أثر على أداء الممثلة “لمياء كرم” وقدرتها على تجسيد ردود أفعالها في تشابكها معه، وأن أكدت بوجودها على المسرح أنها موهبة يمكن لها أن تتألق مستقبلا باستكمال حرفتها وامتلاكها لثقافة متعددة وعميقة.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت