محمد بنجدي .. الرجل الذي يعيش واقفا !/ بقلم : سمير بنحطة (ومع)

ركض محمد بنجدي برجليه في مرابع الطفولة بجرادة ثلاثة أعوام قصيرات سرعان ما انقضت، ثم توقفت الأطراف عن الحركة.. في لحظة فارقة من خمسينيات القرن الماضي، صار محمد بنجدي، الفنان المسرحي العالمي، يكابد إعاقة مزدوجة.
لم يكن ثمة من خيار غير السفر بعيدا بعدما عز الشفاء. رحل الصبي رفقة والده إلى دوار سلاويت، بنواحي دبدو، لعل جو البادية يعيد للجسد المتداعي شيئا من عافية. وهناك حدث ما لم يكن في الحسبان: برئ الطفل من أمراضه، عدا رجله اليسرى التي باتت تخطر على الأرض بعرج شديد.
“شيء خير من لا شيء”، يعقب محمد. اختار الصبي النبيه أن يعكف على الدرس والتحصيل غير عابئ بالإعاقة ولا آبه بعوائقها. وبينما كان الناس من حوله يقولون إنه “المكتوب على الجبين الذي لا فكاك منه”، كان القدر الرحيم ينسج، من وراء أستار الغيب، للصغير المعاق فصول بطولة حقيقية، عنوانها التحدي.
صهرت الحياة محمد بنجدي في بوتقة التحدي، فخرج من رحم المحنة إنسانا “كاملا”، برغم الإعاقة، ينضح ب”الجمال والرقي”، بتعبير المسرحي البلجيكي آلان دوفال. “لم أشعر يوما أن بنجدي يعاني من أي إعاقة”، يقول دوفال، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، قبل أن يضيف أن الإعاقة دفعت بنجدي إلى “تحريك الجبال الرواسي”، بفنه وإرادته قطعا.
في بداية الستينات كان اللقاء الأول مع الركح. في ذلك اليوم، انعطفت حياة بنجدي، دون سابق إشعار، نحو عوالم الفن اللامتناهية. “كنت مستغرقا في شغبي الطفولي بالحي الشعبي بجرادة حين أتى من يخبرني أن الوالد يبحث عني”، يقول محمد.
كان ذلك يعني، في عرف الأب الصارم، أن أمرا جللا ما قد حدث. قال الوالد يتابع محمد إن مدير المدرسة الابتدائية يطلبه في أمر هام. لا مفر من “فلقة ساخنة”، فكر محمد وقتئذ.
لكن مسرحية “الصبي الأعرج” لمسكيم غورغي ألقت إليه بطوق النجاة. كان فنانون مسرحيون فرنسيون بجرادة يبحثون عن طفل يؤدي دور الصبي الأعرج في المسرحية فأرشدهم مدير المدرسة إلى تلميذ من ذوي الاحتياجات الخاصة هو محمد بنجدي.
وحين صعد محمد على الركح للمرة الأولى، فتح عينيه من هناك على آفاق الحياة الرحبة. أيقن، ساعتها، أن الجسد الذي يحجب بأستاره الكثيفة شفافية الروح لن يحول بينها وبين التحليق بعيدا حيث لا أستار ولا حجب، ولا أرض ولا سماء.
تذكر، وهو يؤدي دور الصبي الأعرج، كيف كافح الأب الشفيق لكي يجد ابنه مقعد درس في المدرسة الابتدائية بجرادة، وكيف جمع سكان الحي ليبنوا مدرسة جديدة من أجل مقعد الدرس الأثير ذاك.. “جمل نفسك يعزوك”، كانت وصية الأب، بلغته “الشرقية” الجميلة. “كن رائدا أو لا تكون”.
وكذلك كان بنجدي الذي صار، بعد حين، كاتبا عاما لمجلس جامعات مسرح الهواة الدولي فنائبا للرئيس وعضوا دائما في الهيئة الدولية ذاتها. وكتب، بعد محنة البدايات الصعبة، عشرات المسرحيات وأخرج مثلها في العديد من بلدان العالم.
من كان يخمن أن ذلك الصبي المعاق سيسحق المستحيل بقدم واحدة “إن بين جنبي نفسا غير يائسة. كالنسر لا أرضى بغير القمم موطنا”، يجيب محمد. وإلى ذلك، لم يحط بنجدي نجاحه بهالة النجومية الزائفة، كما تؤكد العديد من الشهادات. كان للرجل إسهام كبير للغاية في “تسويق مدينة وجدة بل والجهة الشرقية عامة ثقافيا في أوروبا”، يؤكد مصطفى الرمضاني، الأستاذ الجامعي والمؤلف المسرحي.
ويضيف الرمضاني أن بنجدي أشرف على تنظيم مهرجانات مسرحية دولية، بوأت الجهة الشرقية مكانة متألقة في الميدان المسرحي، وكان بمثابة السفير الثقافي للجهة خارج الوطن، إذ استطاع بتجربته وعلاقاته المتعددة أن يستقطب فرقا من مختلف بقاع العالم.
فتح الرجل، الذي يصفه مقربون منه ب”المناضل الثقافي الوطني”، للعديد من الفرق المسرحية أبواب المشاركة في مهرجانات مسرحية عالمية واستقطب العديد من الفرق الدولية للمشاركة في مهرجانات دولية احتضنتها مدن مغربية. “بنجدي يشتغل في صمت وبعيدا عن الأضواء، ويدعم المهرجانات المسرحية بالوطن”، يؤكد ابراهيم الدمناتي، أحد مؤسسي مهرجان فاس الدولي للمسرح الاحترافي.
ومن زاوية المزايا الشخصية، يعتبر الدمناتي أن “بنجدي رجل يندر أن يوجد مثله. ولا ينفك، إلى ذلك، يدعم الإبداع والمبدعين”. وهو عين ما تراه اعمارة حجرية، الممثلة بفرقة كوميدراما للمسرح. “محمد فنان بكل المقاييس. هو الأب والأخ والصديق بالنسبة لي. وبفضله فتحت للحركة المسرحية بالجهة الشرقية آفاق كبيرة على الصعيدين الوطني والدولي”، تؤكد حجرية وهي تغالب دموعها، في تصريح للوكالة.
ولم تنس المهرجانات الدولية، ولا الانشغالات الفنية والفكرية اليومية، محمد بنجدي انتماءه للجهة الشرقية، فكرس جزء من حياته لإدارة العديد من المهرجانات المسرحية في قرى ومدن صغيرة بالجهة، من بينها تافوغالت ودبدو والعيون سيدي ملوك. كان يزاوج، في توليفة عجيبة، بين دعم الفرق المسرحية بمدن الجهة الشرقية وبين الانفتاح على المسرح العالمي، لا سيما الأوروبي، كما تؤكد العديد من الشهادات.
اقتبس محمد بنجدي وألف وأعد وأخرج العديد من المسرحيات باللغة الفرنسية وشارك في أخرى باللغة الإنجليزية. كما اشتغل مساعدا للمخرج المسرحي البرتغالي كارلوس كافاليرو في إعادة تجسيد ملحمة وادي المخازن مسرحيا وعلى الطريقة السينمائية. وهي الملحمة التي شارك في أداء الأدوار فيها 106 ممثل وممثلة في الهواء الطلق وعرضت في العديد من المدن البرتغالية.
بنجدي، الفنان العصامي يؤثر الاشتغال في الظل، يقول فنانون بالجهة الشرقية. و”فضلا عن العلاقات التي تربطه بفناني العالم، فهو صاحب موهبة وذكاء وصبر خارق”، يؤكد المؤلف المسرحي مصطفى الرمضاني. وهي الموهبة التي قادته إلى التوقيع على حضور لافت في مسرحية عرضت بالعديد من المدن الفرنسية منذ 2014، ألفتها المسرحية الفرنسية فرانسواز أوليفي وأخرجها فيليب لوكونت.
استهلمت أوليفيي فصول هذا العمل المسرحي من حياة الفنان بنجدي منذ ولد في العام 1955، ومثلت إلى جانبه في تجسيد إحدى الشخصيات. كان عنوان المسرحية: “الرجل الذي يعيش واقفا”. كأنه لم يرخ جسده يوما على أريكة أو كرسي. أو كأنه قضى حياته منتصب القامة، شامخ الهامة، واقفا على قدم واحدة.. باعتداد. هكذا تحكي المسرحية.
لكن ما لم تقله مشاهد العمل الدرامي أن بنجدي، بعد رحلة الكفاح الطويلة وبعد جهد العقل والقلب والأعصاب، يرقد حاليا بأحد مستشفيات بربنيون الفرنسية بعد أن أضنى جسده مرض عضال. “الرجل الذي عاش واقفا” أقعده المرض وتكاليفه المادية بعد أن أفنى حياته خدمة للفن في بلده، آملا أن يستعيد عافيته في القريب العاجل ليسحق المستحيل، مرة أخرى، بالقدم الواحدة ذاتها.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت