اللغة في المسرح/ ياسين سليماني

العلامة اللافتة في المعمار المسرحي والنص تحديدا، تلك اللغة المستخدمة في صياغة الحوار. بحيث يتم الاعتماد عليها بدايةً لتخلق في المتلقي أشكالا من الوعي والإدراك والتأثير العقلي والنفسي وتتمكن من تحقيق التواصل مع تجربة أصحاب العمل. إنها واحدة من الشيفرات الأساسية التي تظهر مستويات متعددة من المعنى في رحلة توصيلها إلى القارئ-المشاهد. وإذا كان المسرح هو ” ذاك الهوس المقاتل تراكم الذات مع الزمن” بتعبير الصديق المسرحي محمد بويش فإنّ الواقع النقدي فيه لا يزال يخضع لاعتبارات كثيرة أهمها غير فني أساسا، وذلك من كثرة تدخل غير المتخصصين: كتابا أو مخرجين أو نقادا في شأنه.
ولعل الصحافة عبر بعض “الكتبة” الذين اعتقدوا في أنفسهم القدرة على تحليل العروض المسرحية، كان لها السبب الذين يكاد يكون مباشرا في مثل هذا التأثير السلبي على الكتابة النقدية عن المسرح. فكثيرا ما نشاهد عرضا ثم نقرأ عنه في الإعلام المكتوب عنه فكأنّهم شاهدوا عرضا غير الذي رأيناه تماما من كثرة الزيادات الوهمية التي يبتدعها هؤلاء مرة بعد مرة. فإذا ما قيّض القدر لنا أن نضع على بساط البحث قضية مثل اللغة العربية في المسرح، وما يسميه البعض بموجة استخدام الفصحى في الأعمال المسرحية، فإنّ نشوة الرضا تبلغ مبلغها الكبير لما تتأسس عليه مثل هذه الموضوعات من كشف للخبايا وتسليط للأضواء وإظهار للمضمر.
مبدئيا لا أعتقد أن هناك موجة حقيقية لاستخدام الفصحى في المسرح عندنا في الجزائر، وأكاد أجزم بأنّ لا مركزية للعربية في العروض التي تقدم هنا وهناك، وهي منحسرة بشكل كبير مقارنة باستخدام العامية التي لا يزال الجدل يدور من وقت لآخر عن استخدامها في المسرح، هل الفصحى أم العامية، أم ما يسمى اللغة الثالثة أو ما أحب أن أسميه باللهجة البيضاء المزيج بين الكلمات العربية الفصيحة والعامية، أو العامية المرتفعة أو المرتقية إلى درجة الفصحى؟ إذا اتفقنا أنّ اللغة لا تنشط دلاليا إلاّ من خلال سياق ثقافي مركّب، يتميّز بالتحول الدائم كما تعتقد نهاد صليحة.
ومن ثمة فإنّ الحديث عن الفصحى في المسرح، من قبيل تكرار موضوع كتب فيه الكثيرون دون أن يصلوا إلى نتيجة حاسمة. وأنا هنا أتفاعل مع المعطى الذي قدمه ميخائيل نعيمة مثلا في تقديمه لمسرحيته “الآباء والبنون” التي قرأتها قبل ما يقارب العشرين سنة. حيث يرى أنّ الكاتب في الكثير من المرات، يُكره على استخدام العامية بدلا عن الفصحى، في مواطن محددة، يراها ألفريد فرج، أحد أكثر الكتاب المسرحيين الذين انجذبت إلى مسرحياتهم، تقتضي لغة ذات طابع مركز ومعبّر تعبيرا مباشرا بلا تعقيد أو لف أو دوران، بلا استطراد أو تطويل، لغة تنأى عن التراكيب المتداخلة المعقدة.
هكذا يؤكد فرج، وهكذا نؤكد معه، لنقول أنّ المسرحيات الاجتماعية والسياسية التي تتفاعل مع ما يحدث في هذا العصر، هي أقرب لأن تقدم بالعامية منها إلى الفصحى، وتبقى الأخيرة للمواضيع التاريخية أو التي تتماس وتتقاطع مع التراث مثلا مثلما رأينا قبل أسابيع في مسرحية “نوار الصبار” الجيّدة، التي أنتجها لنا مسرح وهران والتي تحاكي زمن السلاطين والخلاف على العرش والدسائس داخل القصر والمؤامرات، وهي أفكار أدنى لأن تكون بالفصحى على أن تكون بالعامية. فإن لم تكن بفصحى حقيقية، فإنها تتعالى بعاميتها لتكون أقرب إلى اللغة.
في السياق ذاته، لاحظت وكتبت أكثر من مرة، حول مسرح الطفل، وكنت ولا أزال أرجو من كل كتابه في الجزائر أن يستخدموا الفصحى في تآليفهم، ذلك أن اللغة هدف في حد ذاته، إنّ المسرح ليس تعليما ولا تلقينا ولا ينبغي أن يكون كذلك، ولكن له أهداف ومرامٍ، ومن بينها الاستفادة من اللغة، ما أبهج أن أحضر عروض المسرح الوطني وأجد أطفالا في الطور الابتدائي يستمتعون بمشاهد عرض مسرحي ويكررون جملا منه عند خروجهم.
ولعلّي قبل أن أكون كاتبا أو ناقدا مسرحيا، فإنني كمتلقٍ أستطيع القول بأنّ استخدام اللغة الفصحى يجب أن يخضع لاعتبارات هامة، أولها ما تضيفه هذه الوسيلة من قيمة للعمل. على الكاتب أن يتساءل: هل كتابة نص بالفصحى أو بالعامية سيان؟؟ ـأم أنّ فرقا يتضح بينهما؟ في مسرحية عظيمة مثل “الرهينة” تتعالى اللغة لتكون شعرا متميزا ينطق به محمد الطاهر الزاوي ونوال مسعودي، تصفيقات الجمهور الذي غص به مسرح علولة بوهران، من ضيوف أجانب من تونس ومصر والسودان والكويت، ومتخصصين في المسرح من برج الكيفان وقسم الفنون بجامعة وهران، اللغة سوّقت جمالية خاصة للعرض المسرحي كان سيفقدها لو تم استخدام العامية على الرغم من أنني أشارك ميخائيل نعيمة ما رآه من وجود “عبقرية خاصة بها” فما أكثر المواقف التي تبدو فيها الفصحى -كما يقول- ركيكة والعامية بليغة وعلى العكس.
تلخيصا لما تمّت الإطالة فيه، لا أرى توسعا في استخدام الفصحى في المسرح، بل إنّ هناك مواطن كانت الفصحى أجدى فيها ورغم ذلك يستعيض الكاتب فيها بالعامية، خاصة مسرح الطفل، مع وجود مجموعة من المسرحيات شاهدناها في الفترات الماضية ترقى بفصاحتها إلى مصاف الأعمال المتكاملة.
 
** أ.ياسين سليماني/ جامعة وهران،الجزائر.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت