إشكالية البطل و المكان.. القوة العمياء في النص المسرحي/ د. منصور نعمان
ما المكان، ما سريته، مادرجة عمقه؟ وما صياغاته الفنية والفلسفية؟ وما الأطر التي يشتغل عليها ليبلور العمق الراسب في ذات البطل؟ تساؤلات متعددة تولد تساؤلات أخرى، تتمحور في المكان بوصفه قوة عمياء تتحرك في الاتجاهات كافة. فهل يقذف البطل الدرامي في المكان؟ أم أن البطل يستدرج مكانا ما ليكون قوقعته الذاتية أو هل المكان أليف أم معاد لرغبات البطل. وأي الأمكنة أكثر تعبيرا عن ذات البطل؟ فهل أمكنة الهوية الخاصة بالبطل مثل: أمكنة الطفولة، أمكنة الحب، الهجرة، السجن … الخ أم هناك أمكنة أخرى لايطالها البطل لكنها تشكل عالمه وحركته وتوقه العارم لبلوغها مثل :الأمكنة اليوتوبية، الماضي الجميل، أمكنة حلمية تخترق الزمن – مستقبلية – …الخ؟.
ما الأمكنة في النص؟ قد يكون النص بمنظر واحد، أو بأكثر من منظر، ولكن المنظر الملموس الذي يدور فيه الأبطال ضمن الحدث، ليس المكان الوحيد، فقد يدور البطل في أكثر من مكان في اللحظة التي يكون فيها ضمن المكان /المنظر الواحد .
إن طاقة الأمكنة وشعريتها لا تتكون من المفردات التي يذكرها المؤلف ويشكل من خلالها الفضاء الملموس للأبطال حسب، بوصف المنظر/ المكان، وكما وصفه (أرسطو):” حاو ومحو. ويقصد به يضم الأبطال داخله من جانب، ويشترط حركتهم ضمن حدوده من جانب آخر. وفي ضوئه فإن الأمكنة الأخرى تبقى خفية أو متخفية، إذ أنها لا تظهر للعيان، وصعب إدراكها، بوصفها تتشكل وتبزغ فجأة مثلما تختفي بالسرعة ذاتها، الأمكنة تتحرك وتذوب متلاشية بسرعة البرق، مثلما تتكون وتشكل طوبغرفيا ذات البطل ونسيج مشاعره وأفكاره.
إن شعرية هكذا أمكنة صعب أن تكون محيط ومحاط الأبطال، ذلك لأنها منغرسة في ذات البطل، متجذرة فيه، متعلقة بأفكاره وحزمة مشاعره، فالأمكنة لها طاقة سحرية مهولة بتحرك المشاعر وزج البطل في اتون تجارب تفتح تيارا كبيرا لدفق الأفكار ونموها وسيرورتها في مسيرة البطل التي قد تتلكأ أو تتوقف حينا، لكن من المؤكد أنها تستمر إن كانت الخسارة بانتظاره، كما هم حال التراجيديات الرصينة التي خلفها كبار المؤلفين في العالمد.
وعلى وفق ما تقدم، أيمكن القول: أن المكان الدرامي هو أكثر من مكان؟ وأن شرطية المكان المحدد في النص الدرامي الذي يصفه ويحدده المؤلف إنما هي شرطية مراوغة، هل يمكن أن نتفهم أن المكان هو الوحيد الذي يعنى المؤلف برسمه وتحديده فقط؟ أم أن هناك حزمة من الأمكنة قد يكون البطل قد وطأها بقدميه يوما، أو في أحلامه، أو في أفكاره، أو شكلت مرتع طفولة البطل وأمكنة ألفته ومنها: أمكنة الحب، والأبطال غير المرئيين، الوجوه التي تشكل حضورا وثقال بحياة البطل على الرغم من كونهم الآن في طي النسيان. أليست هناك مئات الأمكنة التي تتجذر ذكريات الحياة فيها؟ مئات من صور الأمكنة التي تبرز على حين غره: بلدان، مدن، عمارات، بيوت، غرف، شوارع، أزقة، انهر، جداول، بواد، جبال، تلال… الخ.
والسؤال الجوهري هاهنا: أليست هي أمكنة لديها سلطة على البطل؟.
وإذا كان الأمر كذلك لم يحدد المؤلف المكان في نصه ما دام هناك أمكنه غير معلنة؟ فما سرية المكان في عقل المؤلف؟!!
إن الطابع المميز للمكان الملموس الذي يحدده المؤلف ويعلن عنه، له خاصية جوهرية للحدث والأبطال، سواء أكان منظر/ المكان، واحدا أم مناظر متعددة، فالمؤلف يسعى للسيطرة على الحدث والأبطال، بكلمة أخرى يجتهد المؤلف بوصف حركة الحدث وأبطاله ضمن سقف زمني ما، ليقدم موضوعه وأفكاره وتقلبات الحدث وتغيرات المشاعر ضمن سياق يرتئيه، وبذلك تكون الملاحظات التي يوردها بين هلالين داخل النص الدرامي، وكأنها تشكل وكما ذهب الباحثون: نصا آخر داخل النص. ومن وجهة نظري أن المسألة أكبر من هذا، وأكثر عمقا، ذلك إن المؤلف يسعى إلى تقديم حياة من خلال حياة الأبطال، ليثير إشكالية الحياة ذاتها في عقل المتلقي، ومن خلال عالم افتراضي متخيل، يمكن أن نصدقه، ونؤمن به، وحينا نجله ونجعله مقياسا للحياة وكما وصف عالم الجمال الإسباني (بوزنكيت) الذي قال: الفن ليس انعكاسا للواقع، وإنما الواقع انعكاس للفن. أي عندما يكون الفن والأدب بأعلى مراتب الصدق، ولا يرقى إليه الشك.
إن عشق المؤلف لنصه وأخلاصه الكبير يدفعه لتصميم مكان ما يثير حفيظة البطل ويشل تفكيره ويدفعه وباستمرار من أجل تحطيمه وتقويضه وتهشيمه والثورة عليه، باعتبار المنظر/ المكان الملموس المحدد في النص، يشكل قوة عمياء للضغط على البطل أو الأبطال، ونقطة مفارقة بينهم، واستعارة حمى الفعل ورد الفعل، ومحاولة الخرق والفريق الآخر من الأبطال يقومون بالصد، فيحدث التجاذب والانشقاق بين المصارعين، لهذا يكون المنظر/المكان، القوة العمياء المحركة للأبطال من غير تحديد الوجه التي سيؤول إليها مصيرهم، فالنزعات العارمة، والشد بخطة الحدث، وخطة الأبطال التي يرسمونها للإيقاع بعضهم بالبعض الآخر، تجعل من المنظر / المكان الملموس المعلن، ساحة حرب لتصفية الحسابات بينهم، من هنا جاءت إمكانية توصيف المكان الدرامي بأنه مكان معاد للبطل، لأنه يسعى إلى قلب الطاولة على المناوئين له، ولدحرهم وسحقهم إن تطلب الأمر.
لذا يكون المكان الدرامي الذي يصفه المؤلف مكانا معاديا، وشعريته تكمن بالدرجة الأساس من وجهة نظري بوصفه- المكان المعادي – يستدرج الأمكنة الأخرى الأكثر ألفة وشفافية وتشكل عمقا في المكان المعادي، وللسبب ذاته تبزغ الأمكنة على لسان البطل وإن شكلت جزءا من هذيانه المحموم، أو جزءا من انتمائه للماضي القريب أو البعيد، أو حلم يصعب المسك به أو التمسك به.
إن الأمكنة المتعددة التي تخطر ببال البطل و تشكل ارتباطا بتيار وعيه وشفافية رؤيته، ودافعا قويا للحركة باتجاه خرق المكان الملموس، وكأنه بذلك يعيد نسج الأمكنة الأليفة البعيدة المغيبة عن الإدراك إلا بعقلة، مما يشكل عقبة مضافة، تزيد من فاعلية تحركه واستشاطته.
. إن المكان الذي يصوره المؤلف يصوغ بهذه الدرجة أو تلك، درجة العداء السافر للبطل وبدونه تكون حرية البطل في التعبير مكبلة ومحدودة .