مسرحية العريش…. سؤال الإرادة المعطل/ د.سافرة ناجي
من الراسخ في تلقي أي عرض المسرحي انه عملية تواصل تبدأ من فعل الإعلان عنه ولفت الانتباه اليه. وأي علامة اعلان عنه تعد بداية لفعل الاتصال ما بين العرض المسرحي والمتلقي، والتي تبدأ بحسب العرف المسرحي من فولدر العرض الذي يقدم وصف مختزلا لصناع العرض وتكثيف دقيق لتيمته ومن هنا يبدأ التواصل الذهني معه، وهذا ما تميز به عرض مسرحية (العريش/ الزفان ) التي تفتح التواصل ذهنياً بدلالة كتابية تكشف عن ان العرض يستعير بنى التراث فرضية جمالية لسياقه الفني. مما تحيل الى تَّكون استباق في التلقي، لا سيما عندما يقوم صانع العرض بتحويل المكان ومقتربات العمارة المسرحية الى خشبة عرض مسرحي عبر تقسيم ثلاثي يجمع بين الدلالة المادية للمكان والدلالة الذهنية التي تجتمع بـثلاثية: (البخور، حلاوة المستكة ، الموسيقى التراثية) وعلى ضوء هذه الثلاثية يقسم أيضا بيئة العرض الى (ما قبل القاعة / طقس حرق البخور وتوزيع حلاوة المستكة على جمهور المتلقين) و(مكان التلقي/ جلوس المتفرجين/ سينوغرافيا الفرض الجمالي )، وتوزيع هذه الثلاثية عبر هذه المساحات الجمالية ليشرع اللعب المسرحي من لحظة تهيئة ملكات التلقي وتحضير ذائقته الشمية والذوقية بشكل مادي لا ذهني عبر ايقونة البخور وحلاوة المستكة، وكلا الدلالتين هما علامة ثقافية ذات معطى أيقوني مكاني، فيرسم ذهنيا توقع ما يمكن ان تكون عليه ماهية العرض، مما يفرز استنتاجا قاطعا باننا ازاء عرض طقسي . ليكون المتلقي احد انساق فعل الفرجة كما يشير فعل الطقس الى ذلك. اذ يكون المتلقي جزء من تيمة الضياع. فعند الدخول الى بيئة العرض لا يعرف المتلقي في أي اتجاه (هو) سوى انه مقذوف في ظلام دامس، ليكون جزء من لعبة الضياع القدرية، ولا بصيص ضوء امامه غير مجموعة من العميان تتحرك في تيه واضح. وهذا التشارك البيئي بين الباث والمستقبل يجعل من كلاهما عالقين في وحل الضياع، وقد تقطعت بهم السبل، عاقدين امالهم على حبال مقطعة، مما يؤكد على ان هذه الحبال المتدلية علامة على انقطاع الاتصال وهي إشارة لمحاولات فاشلة في الوصول الى سلم النجاة، وهذا ما تشير اليه حركة العصى العشوائية التي تتحرك في دائرة مغلقة على ثنائية (التيه/ العمى)، للبحث عن طريق للوصول الى سلم النجاة في فضاء مبهم، لا دليل الى الخروج من ظلمته وكل دالات النجاة: المصابيح / الفوانيس المعلقة في حبال النجاة معطلة هي الأخرى. مما تشير الى حقيقة قاطعة لا امل في الخروج من هذا التيه، فكل شيء معطل ( افراد ، وسائل، سينوغرافيا)
لتكون الصورة البصرية ذات الحبال المتدلية، والسلم، والفوانيس المعطلة ،والظلام، والشخصيات، التي تتحرك بعشوائية ذات مؤشر أيقوني على اننا في مواجهة لعمى ذواتنا أولا، قبل مواجهة العميان لمصيرهم المجهول لينبري سؤال ملح:هل نحن العميان، ام مجموعة العميان ؟. منْ رمى بهم في هذا التيه؟. هل الحبال المقطعة بقايا سفينة محطمة لبحارة ضلوا الطريق ليكونوا في هذا المكان المنبوذ ؟. منْ قام بعملية مسخهم؟ ،هل يعانون من مشكلة نفسية ؟. وبالتالي يرشح تساؤل الكينونة الأهم بوصفه علامة دالة على ماهية العرض الرئيسة : هل هم هاربون بأراداتهم، ام منفيون بإرادة قوى أخرى؟ لماذا غيبوا اراديا؟ كل هذه الأسئلة تتمظهر في التشكيل البصري والذهني للعرض، الذي يحيل التلقي الى عمق جدلية العلاقة الطردية بين الظلام والنور؟ لندخل مرة أخرى في دوامة السؤال من جديد: لماذا القبول بالظلام ونحن قادرون على اختيار النور؟ لماذا تعطلت إرادة التحرر من هذه الظلمة ؟ وما يحمل هذا التساؤل من محمولات رمزية تشكل مقترب تشارك بين الخشبة والمتلقي، والخشبة وخارجها، فهو يقبل القراءة والتأويل على مختلف الثقافات. وبهذا المقترب الجمالي يمزج العرض بين الدالة الثقافية ذات الهوية المكانية الى انفتاح دائرة السؤال الجمالي الكوني على مفهوم الحرية والتحرر من العبودية، اذ لا تكاد تخلو منها ثقافة عبر صراع الثنائية الميتافيزيقية الخير/ الشر / النور/ الظلام. فهو يقبل القسمة على كل الثقافات سواء كان بشكل مباشر، او غير مباشر، ناهيك عن جدلية الصراع الإنساني وسعيه لامتلاك القوة. التي يضعها العرض على مشرط الموقف الفكري من هذه الجدلية الكونية لمن القوة للظلام ،ام للنور؟ ، لتكون صراعا ادائيا ( في تقابل فكري لهذين المحمولين عبر تجسيد جسدي ولساني بـ ( نحن اسياد المكان، و لا للشمس، او الشمس لا، او اني الأقوى غصبن عليكم) ليحرك جدل هذا الصراع عبر تيمة (الغريب )، التي كانت المركز التي يتحرك في اطارها المضمون الفلسفي لبنية العرض (التيه) مما شكل معطيات الفرضية الجمالية، التي مزجت بين ثلاثة مذاهب اخراجية: فعلى مستوى الملفوظ اللساني كان واقعي بحت انطلاقا من مقولات ( نحن اسياد المكان، و يا غريب كن اديب، وانوار لا تحبك، لا تفتح الشباك)، وعلى مستوى الصورة البصرية فالسينوغرافيا اعتمدت تقنيات الرمزية المجردة الغائصة في الايهام والغموض الرمزي، كما يظهر ذلك في محمول (العريش/ بيت الخوص)، وما تحيل اليه هذه المفردة اللغوية من دلالات ابرزها (الأمان/ القوة ) واذا به عبارة عن ورق قش متناثر هنا وهناك، ولو افترضنا ان الحبال بديل موضوعي لصورة البيت الذي هو أصلا مصنوع من مواد سهلة الاختراق والازاحة، لتلتحم صورة الضعف المكاني بالضعف النفسي والبيولوجي لقهر الإرادة الإنسانية لدى الشخصيات، اذ كل الشخصيات يجمعها هم واحد هو العمى والقبول بالظلام والقذف بهم خارج الحياة. ولإثراء هذه الدلالة الفلسفية يعمل صانع العرض على رسم السينوغرافيا بين مستويين الأعلى يمثل الشمس (الحلم / الحرية) بعيد المنال وفصله عن بيئة الحدث ليكون السلم دلالة تعليق واتصال معطل لا يمكن الوصول اليه، والاسفل قاع مظلم لا سبيل للخروج منه باي حال، ليكون الهذيان عن الإرادة السلبية تجليا عن اللاوعي لشخصيات تعيش منطق الوعي المستلب من قبل سلطة غامضة تتشظى لاكثر من تأويل. لذلك تظهر البناء النفسي للشخصيات ذو تقنية تعبيرية تغيب الوعي في فعل اللاوعي، اذ لكل من الشخصيات حال لا يتصل مع الاخر الا في محاولة التحرر من هذا الواقع، ورغبة فتح الشباك ليقابلها رفض بـ (الشمس لا، والغريب) فكانا معادل الصراع بين آنات العرض. فجعل صانع العرض من تقنيات هذه المذاهب المحرك الفكري والايدلوجي لبنى العرض الدرامية، فكان لهذا التراوح سطوة تكرار لفظي تقابلها سطوة أداء في كل موقف يتكرر بذات الإيقاع الرتيب المنضبط على مفهوم التكرار العبثي في حد من حدوده ،ورمزي تعبيري في حد اخر. ليتحول فعل التكرار الى انزياح مفهوم الصراع من موقف الى اخر ليتماهى في مفردة (الغريب) ورفضه بشكل مطلق ، فلا مفر الا بإزاحة سيطرته المطلقة ، اذ يجهد بكل قوته الى غلق المكان، ورفض دخول الشمس، التي تشير الى انها ستفضح وجود الغريب وتكشف حقيقته. لذا نراه يسوس الوضع باتجاه التمسك بقوة الظلام، لذلك كان الصراع فكري بالدرجة الأساس، لينثال عنه صراع مادي افضى الى قيام الغريب بقتل الحياة، التي تجسدت بشخصية (انوار) بوصفها علامة امتداد للحياة، وقتل الحكمة (رشيد ) وايقونة التاريخ(عياد) كونه علامة شاخصة لحياة ما قبل الظلام. لذلك كان الإصرار على اغلاق النوافذ التي تشكل علاقة اتصال مع السلم المتدلي في وسط المسرح المؤدي الى الشمس، وربط هذه العلاقة عبر المرأة التي تستعيد بصرها عندما تتخلص من ضعفها وانهزاميتها وتخليها عن ضعفها والتمسك باحلامها، لتكون علامة على حيوية الوجود بربط علاقتها الوجودية بالشمس / البصر /البئر. وهنا ينفتح جدل الصراع لفعل انتصار الحرية والحياة بثلاثية (الشمس والمرأة، والماء). اذ بودنهم لا تكون ولا تستقيم الحياة. فهذه العلاقة التي تحمل دلالات غائرة في عمق الوجود الإنساني تمثل فعل اتصال لسؤال الكينونة (انا اريد انا موجود ) أي ان الإرادة تتعطل عندما تفقد الذات الإنسانية سمة الصراع من اجل الدفاع عن كينونتها في هذه الحياة ،
إرادة معطلة = موت ، ظلام ، نفي
إرادة فعل = نور، حياة ، حرية
فكان الصراع ما بين مجموعة العميان المنبوذين وبين الغريب هو صراع الوجود. وعلى ضوء سؤال الإرادة ينبري سؤال الرغبة ماذا تريد؟ وعندما تكون الأشياء مبهمة يحل الضياع ويتحول الوجود الى دائرة مغلقة على تعطل هذه إلارادة ، اذا هي جدلية البحث عن حرية الذات الإنسانية . وقد رسم صانع العرض رؤيته الجمالية على ضوء ما تحمل ثلاثية التقسيم بين التراث والحياة والارادة من دلالات واقعية تعبيرية رمزية ، وكانه اعلان صريح على تغيب الوعي إزاء اللاوعي والوعي إزاء الواقع، اذ جمع الشخصيات في دالة (العمى/ الضياع) عبر التداولية الثقافية لمفردة (العريش/ الزفان). وما تكتنز من دلالات تحيل في أولها الى محليتها المكانية والثقافية ذات الشكل التراثي المشفر عبر تقنية التمويه لهذه الدلالة وتشكيل حضورها البصري من حبال متدلية تغيب مفردات العريش وتصيره الى قش لا يقي من برد ولا يحمي من حر. وثانيا حلم العريش / البيت / الأمان لا يكون الا بحضور الشمس / ما دام الظلام حاضر / لا بيت ولا حياة قائمة ، وبالتالي حلم تحققها يحتاج الى فعل ثوري، لهذا ظهر السلم علامة تحرر، فكان فعل قوة هيمن بصريا وذهنيا على مفردات العرض ، مما منح العرض كثافة جمالية ايقظت لدى المتلقي سؤال ملح متابع لمتوالية العرض اللفظية والادائية ( متى يكون الوصل الى السلم وتبديد الظلمة؟) مما ازاح بنية التوقع ليكون للتكرار في هذا العرض عنصر لا توقع بالرغم من الكشف الدلالي لكل مفردات العرض ابتداء من الموضوع المحاكى الى جسد الموقف الجمالي من جدلية الصراع الإنساني، وعلاقته المتوترة على مستويات ذات ابعاد ثلاثية مجسدا مضمون خطابه عبر اربعة انساق: أولها ملفوظ الجسد البصري والمحكي اللساني، وثانيا سينوغرافيا المكان التي جمعت بين الصورة المجردة من الإيحاء والمشفرة على مضمون الموروث الثقافي ، وودلالة المسخ الجسدي الذي هو الاخر يحمل اكثر من دلالة عندما غيب الجسد بدلالة الطين فمرة يؤشر مسخ السلطة ومرة يحيل الى ما تحمل دلالة الطين من محمول ديني، ولتحقق كل هذه الدوال قد ابرم حضورها الجمالي طبيعة الأداء الذي كان منتمي الى اللعب المسرحي اذ قدمت الشخصيات اكثر من صورة ادائية، فكل صورة كان لها ايقاعها الخاص الذي لم ينفلت من الإيقاع العام للعرض، الذي حقق بعده الرابع عندما مزج اكثر من نسق مذهبي مسرحي، فعلى مستوى الملفوظ كان واقعي، وعلى مستوى الفكرة كان البناء النصي الرمزي التعبيري هو المهيمن، الذي قدم فلسفة بناء الفعل الدرامي اللامعقول وهو هنا يطرح سؤال اللاجدوى في حدود الواقعية التي تطرح مفترض السؤال بوصفه مفترض العرض. وعلى الرغم من مقترح النهاية لكنه يقبل التأويل، وممكن لأي متلقي ان يصيغ تساؤل دوامة الصراع الإنساني زمانا ومكانا وبحسب الموقف الفردي منها . وما يؤشر لهذا العرض انه قد ابتكر محمولات دلالية لها كثافتها الجمالية الخاص بجوهر العرض على الرغم من التناص الواضح مع نص (العميان لميترلينك) الذي يقدم مجموعة من العميان ليعيد صياغتها على وفق الموقف الفلسفي الديكارتي (انا اريد انا موجود) اذا تأويله قد انفلت من ضياع شخصيات عميان ميترلينك الى كوجيتو الإرادة التي هيمنت على بنى العرض بشكل يتسم بالبساطة وعمق دلالاتها اللفظية ذات الحضور الزماني والمكاني (الغريب، الشمس، الشمس لا، انوار ،رشيد). كل هذه الدلالات قد تشكلت عبر مدخل بصري بسيط ثري المعنى الذي ينفتح على عديد الاسئلة لاسيما وهو يرمي بمجموعة من العميان يبحثون في التيه عن مخرج مما هم فيه. هو صراع بين البصر والبصيرة، النور والظلام. حل للخروج من الازمة وبالتالي قد شكل صانع العرض تداخلا ما بين عمق الفكرة القدرية ودورها في تشكيل مصير الانسان، التي تحولت من معطياتها الميتافيزيقة لتكون حضور مادي في دالة الغريب، الذي يحاول جاهدا ان يمنع دخول الشمس الى حياتهم، التي اصبها الجذام والعمى بوصفه طريقا للخلاص من مأسوية الواقع وبين ارادة الحياة المعطلة. فهم شخصيات مستسلمة لإرادة الغريب، الذي اندس بينهم وقضى عليهم الواحد تلو الاخر. ولا شمس الا بالتخلص من الغريب بوصفه الرجس الذي يدنس المكان والانسان ويمنع عنه الشمس التعبير المجازي لديمومة وقوة الحياة، ولا حضور لها الا بالخلاص منه. وهذه الفرضية كانت القرار الدرامي لصانع العرض، اذ جعل من الفتى المعلق على سلم النجاة، وكانه المخلص الغائب الذي ينتظر دوره، ليكون فعل تحقق حلم الحرية، لاسيما انه غَيب عن فعل الحدث المباشر، فكان وظل إرادة نقية من دنس الغريب ليكون الخلاص على يده نقيا غير مدنس بالصراعات الدونية. وبهذه قد تحولت ارادة ضعف الشخصيات الى (قوة للفتى) التي خلصت المكان من ظلامه وبؤسه. فالحرية تحتاج الى قوة قرار وإصرار . اذا الحرية تؤخذ لا تمنح . فعبر كل تقنيات السينوغرافيا قد جسدت هذه الفرضية بصريا اذ ربطت الإرادة بالشمس واضاءت المكان ليتحول من ظلام الى ضياء.
تميز العرض على مستوى الأداء اذ كانت الشخصيات قد شخصت الحالة الدرامية عبر اللعب المسرحي، فغادر العرض تقنية الايهام بالأداء، الى لعب الادوار عبر مفردات التراث من ضربات العصي الجماعي ،الى النقر على الطبل، ثم الهاون. ابرز حضورها نسق الإضاءة وعنصر الابهار الذي عزز من صورة الإرادة المنتصرة عندما جعلت من الشمس هي (الانسان ، الحقيقة ، الوضوح )فكانت علامة صدق البحث عن الحرية بوصفها جوهر وقوة الإرادة عندما تكون هدف لا توازيها أي قوة . وبالتالي فان إنسانية الانسان لا تتحقق الا بقوة الإرادة والحرية .
تحية لكل فريق مسرحية العريش على متعة الجمال والوعي المسرحي الذي تميز به العرض.
ملاحظة: قدم هذا العرض بتاريخ 4/5/2018 ضمن فعاليات أيام كربلاء المسرحي الدولي بنسخته التجريبية الأولى.