حسن المنيعي الرائد المجدد/بقلم: خالد أمين
عتبـــــــــــة
واكب أستاذ الأجيال حسن المنيعي أبرز منعطفات المسرح المغربي منذ ستينيات القرن الماضي إلى اليوم 8 دسمبر 2018 الذي يكرم فيه بأيام قرطاج المسرحية عن جدارة واستحقاق. وها هو اليوم أيضا يستمر بنفس التأمل الريادي بعد أزيد من خمسة عقود من المواكبة الرصينة للمنجز المسرحي المغربي والعربي في حدود علاقتهما بالآخر. ويعد آخر إصدار لحسن المنيعي تحت عنوان “شعرية الدراما المعاصرة” الصادر ضمن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة السنة الماضية خير دليل على ريادة الرجل ومواكبته آخر مستجدات الساحة المسرحية العالمية… إذ سعى لفك شفرات نقاش ساخن وملتبس في غالب الأحيان بخصوص شعرية مسرح ما بعد الدراما…
كم يلزمني من العمق وإعمال الفكر كي أفي اللحظة حقها وأنا أبحر في مسار بحثي حافل ووازن: مسار الباحث الموسوعي وعميد النقد المسرحي المغربي الدكتور حسن المنيعي. في الواقع، لا تفي عبارات المجاملة والمدح بخاصة لباحث ظل ولا يزال يعانق ومضات الفكر وإشراقاته الخلاقة. لقد نأى المنيعي بنفسه عن المطامح المادية والمآرب الشخصية الضيقة وهستيريا السياسة والمناصب، مكرسا حياته للبحث والكتابة في أكثر ميادين الثقافة والفكر والفن تعقيدا. هكذا تداخل في شخص المنيعي المفكر الحداثي الهادئ والباحث الشغوف والإنسان النبيل والمتواضع. وهو ما يتجلى لدى أستاذ الأجيال في رحابة تفكيره ورؤيته الموسوعية ومنهجه المنسجم والإيمان بالاختلاف بمعزل عن أي نزوع نحو إقصاء الآخر.
إن قائمة أعماله التي تجاوزت العشرين،[1] تبحر بنا بين مختلف ميادين النقد الأدبي والفني، من شعر ورواية وتشكيل ومسرح. كما أنها تقارب بطريقتها ومعالجتها العقلانية قضايا كبرى تؤرق المثقف العربي أينما كان؛ دون انزلاق في متاهات التعصب والماهوية المطلقة؛ رغم ارتباط هذه القضايا أساسا بالمأزق النقدي العربي وإشكالية تأصيل المسرح ممارسة وتنظبرا، وإشكالات الهوية. يقول الأستاذ بشير القمري في شهادة بليغة عن حسن المنيعي: “إنك تستحق كل الألقاب، فأنت الذي وهبتنا قلق السؤال، ووهبتنا إلى جانب محمد برادة، وأحمد اليابوري، ومحمد السرغيني، وعباس الجراري، والمرحومين أحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني، تأشيرة العبور إلى المغرب النصي الحديث وإلى مسافات النهضة العربية. وأنت أيضا من نظمت رفقتهم إشارات المرور المتوازنة بين القديم والمعاصر…”[2]
مضمار الشمولية
تمتد عطاءات المنيعي على عدة مستويات؛ كما أن كتابته لا يمكنها أن تكون إلا تأسيسية ورائدة ومستفزة للأنساق النقدية السائدة. فقد رافق حسن المنيعي مسارات ومنعطفات المسرح المغربي مند فجر الاستقلال إلى الآن. كما بدا متفردا ورائدا في “إضفاء الشرعية الأكاديمية والمعرفية” على هذه الممارسة الإبداعية الوليدة والطارئة بالمغرب الحديث والمعاصر منذ كتابه الأول “أبحاث في المسرح المغربي” الصادر سنة 1974. وهو كتاب مؤسس ينخرط في سياق “مسار في التأليف وجهته هي التأصيل؛ من ذلك أطروحة أحمد اليابوري في نهاية الستينات عن القصة والرواية في المغرب (1967) وأطروحة الراحل الشاعر عبد الله راجع بعنوان “القصيدة المغربية المعاصرة: بنية الشهادة والاستشهاد”.[3] والحال أن “أبحاث في المسرح المغربي” هو الكتاب المرجعي الأول والرئيس الذي يستحيل القفز عليه بالنسبة لكل من يسعى لمعرفة تاريخ المسرح المغربي؛ وهو في الأصل أطروحة جامعية تحت إشراف الأستاذ شارل بيلا بجامعة باريس. وقد قال عنه قيدوم المسرحيين المغاربة الأستاذ عبد الله شقرون “وعندما أصدر النير والمنير “أبحاث في المسرح المغربي” سنة 1974، أي منذ أربع وثلاثين سنة، أدركت إذ ذاك أنه في هذا المصنف يتكلم عما شاهده فعلا وقرأه مرجعا أساسا في ميدان المسرح المغربي دون أحكام جاهزة ولاسيما حول مسرح أفواج الشباب المغربي الساعي إذ ذاك إلى المعرفة.”[4]
على امتداد أكثر من خمسة عقود يظل المشروع النقدي لحسن المنيعي منشغلا باصطناع الآليات وتبيان الخلفيات الناظمة لملكة الذوق واللذة الجمالية. لذلك تستشرف كتابته رحابة حقل “النقد الجمالي”؛ لأنها كتابة حول “الذائقة” أو حول “فهم” الذائقة بالدلالة التي يستعملها ابن طباطبا في “عيار الشعر” لفهمه “للفهم”[5]. من هنا نلاحظ اتساع مستويات الممارسة النقدية عند المنيعي، وتميزها بمنطق شمولي يقوم على تناسج الفنون والأجناس والمعارف؛ ومضمار الشمولية هذا جعل من المنيعي ظاهرة فريدة في الحقل الثقافي العربي والمغربي بخاصة. لذلك، يمكن “اعتبار حسن المنيعي ناقدا أدبيا وناقدا مسرحيا وناقدا مخرجا. الشيء الذي يجعل منه ناقدا شاملا.”[6] ولعل شمولية المعرفة المسرحية لدى المنيعي هي التي جعلت حسن يوسفي يتحدث عن كتابته في إطار “علم المسرح” الذي يؤطر ضمن منظومة شاملة ومتعددة الأبعاد.
كما أن لحسن المنيعي تراكما إيجابيا آخر يتجاوز المجال المسرحي، ليظهر في ريادة الرجل التي تمتد إلى مجال النقد الفني والتشكيلي بخاصة (إلى جانب رفيق دربه الأستاذ محمد السرغيني). فمؤلفه تحت عنوان “عن الفن التشكيلي” من الكتابات الأولى التي رافقت تطور حركة الفن التشكيلي بالمغرب.. رصد فيه أبرز المنعطفات الإبداعية للفنانين المغاربة المرموقين وضمنا صديقه الراحل محمد القاسمي. كما تمتد ريادة حسن المنيعي إلى النقد الروائي إلى جانب الأستاذين أحمد اليابوري ومحمد برادة فهو «ليس – كما هو شائع- مجرد ذاكرة نقدية للمسرح المغربي ونقده فحسب؛ بل هو – كذلك- ذاكرة نقدية للرواية المغربية والعربية؛ إذ كل ما يمكن أن يقال عنه في مجال النقد الروائي لا يقل في شيء عما هو ثابت عن منجزه العظيم في خدمة المسرح المغربي والعربي.”[7]. وفي هذا المعنى تميز المشروع النقدي لحسن المنيعي بإقراره مبدأ وحدة الأثر الجمالي؛ أو ما عبر عنه محمد أمنصور في سياق مماثل، ب«أصالة التجربة الإبداعية أيا كان القالب الأجناسي الذي تتقنع به»[8].
على امتداد مسيرته البحثية الفريدة والاستثنائية دأب المنيعي على استيعاب واستبطان كل المناهج النقدية المتاحة في أفق استثمارها حسب منظوره الخاص وخبرته الكبيرة ورصيده الهائل في مشاهدة العروض المسرحية الغربية والعربية والمغربية على حد سواء. لذلك لا نجده يتعسف على منجز إبداعي ما من خلال إخضاعه بطريقة قسرية لأنساق نظرية منكفئة على ذاتها ومغلقة. يتبنى نقد المنيعي الهوية داخل الاختلاف، وفي الوقت ذاته، يستشرف الاختل(ا)ف[9] وإزالة ومحو كل الثنائيات التراتبية والتقاطبات التي ما زالت العديد من المقاربات تكرسها، من قبيل: (نص/ عرض، حضور/ غياب، متعالي/ محايث، غرب/ شرق، ثقافة عالمة/ثقافة شعبية، مسرح غربي/ مسرح عربي…). إنه نقد يقوم على هندسة ذهنية تقارب النصوص/العروض وتتجاوز بنياتها لتقتحم المواقع والأمكنة التي تنبعث منها وتكتب بها تلك النصوص/العروض. أما الأسلوب الذي انتهجه الدكتور حسن المنيعي لإيصال أفكاره ومقارباته العميقة، فيتميز بميسم “البساطة الممتعة والمعمقة”، حسب تعبير محمد المعزوز. إنها بساطة العارف والتي لا يقدُرها إلا باحث خبير بجوهر المنظومات المفاهيمية وآلياتها النقدية والمنهجية… وهي بساطة بيداغوجية نفاذة تتوغل في أعماق المتلقي وتيسر فعل التواصل الذي يعتبر من أهم ركائز مشروع المنيعي النقدي.
مضمار الترجمة
لعل انشغال حسن المنيعي بالترجمة من حيث هي نافذة أخرى ضرورية لتحقيق رهان التواصل البناء ومد جسور التبادل بين الأنا والآخر واستكمال المعرفة وتوسيع الآفاق والمدارك لخير دليل على رحابة أفق اشتغاله. والحال أن المنجز الترجمي للمنيعي كان ولا يزال -إلى حدود آخر إصداراته تحت عنوان “المسرح ورهاناته” (2012) وشعلاية الدراما المعاصرة (2017) – وسيلة فعالة للحوار والانفتاح، ورفضا للانحسار داخل قالب ضيق لا ينتج إلا رأيا واحدا… يتفق العديد من الدارسين «أن فعل الترجمة الذي مارسه المنيعي بوعي لم يكن فعلا زائدا بقدر ما كان لبنة نقدية مؤسسة، أثار من خلالها جملة من المفاهيم والاستشكالات التي بإمكانها تقوية المقاربة العلمية في الممارسة النقدية»[10]. لقد أضحى فعل الترجمة عند المنيعي ضرورة قصوى لتجاوز القصور المهول في مجال الدراسات المسرحية؛ لذلك احتلت الترجمة موضعا محوريا في منجزه انطلاقا من كتابه الثاني “التراجيديا كنموذج”.
يعد حسن المنيعي من المصادر الرئيسة في مجال ترجمة النقد المسرحي الغربي ونقله إلى المكتبة المغربية والعربية. وأهم ما يميز ترجمة المنيعي تجاوزها لبنية ‘الترجمة المنطقية’ أو ‘التوصيلية’ التي يسيطر عليها هاجس المعرفة والمعنى، وكذلك بنية ‘الترجمة التوصيلية’ أو ‘التحصيلية’ التي تهيمن عليها حرفية اللفظ. فهو يراعي في ذلك المجال التداولي العربي إلى درجة تخفي بتأصيلها فعلَ النقل، فتؤثر في المتلقي العربي كما لو أنها مكتوبة في الأصل بالعربية. وهكذا يمكن اعتبار ترجمة المنيعي ‘ترجمة تركيبية (تأصيلية)، بالمعنى الذي ساقه الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان: «فالمترجم التأصيلي هو إذن عبارة عن المترجم الذي ينقل النص الفلسفي على مقتضى التأصيل، لا فارق بينه وبين المؤلف سوى أن هذا ينشئ ابتداء من نصوص متفرقة معلومة وغير معلومة، دامجا بعضها في بعض، وذاك ينشئ ابتداء من نص واحد معلوم، دامجا بعضه في بعض.»[11]وخير دليل على هذا اشتغاله الترجمي في كتابه البديع “الجسد في المسرح”. فقد جاء الكتاب شهادة تبين بوضوح خبرة المنيعي في إعداد وتعريب مواد دسمة استقاها من كلدن كريك الذي يعتبر الجسد مكان الإيهام لكل الأشكال، ومن أنطوان أرطو الذي اعتبر الجسد وسيلة حقيقية للإيهام. ولذلك عُدَّ الكتاب راهنيا بالنسبة للعاملين في المسرح لأن “جسد الممثل” يبقى العنصر الفاعل في الفرجة لأنه (رياضي فيزيقي حقيقي).
كما تبرز أصالة المنجز الترجمي للمنيعي أيضا في التقديم المكثف الذي أنجزه لهذا الكتاب، وقد تعقب فيه مفهوم الجسد ناقلا القضايا الاستشكالية المرتبطة بالموجبات التداولية للغة العربية.. ومستعرضا تمظهراته عند علماء النفس والأطباء الذين يعتبرون الجسد عنصرا ماديا قابلا للانجراح أولا… قبل أن يعبر إلى ما كان رونالد بارت يسميه بـ “جسد الفرجة” والذي هو جسد يكون دوما في حالة فرجة تجاه جسد آخر أمام الجمهور كالاحتفالات والأعياد والرقصات والطقوسية أو جوانب من الحياة الجماعية كالمسرح»[12].
كما كان لأستاذ الأجيال الريادة والتفرد في تناول مبحث ‘المسرح والسيميولوجيا’ الذي خصص له كتابا بأكمله تحت عنوان “المسرح والسيميولوجيا”، تضمن دراسات أصلية له وأخرى مترجمة عن رولان بارت، ويوري فلتروسكي، وأمبرتو إيكو وآخرين. يقول في مدخل الكتاب بكل تواضع: «إذا كان يقصد بالسيميولوجيا (علما) في ضبط العلامات على مستوى إدراك العالم الذي يحيط بنا، والوقوف على تلفظها وبدائلها، فإن هذا الكتاب يقدم للقارئ العربي صورة مصغرة عن تعاملنا مع المسرح وذلك للإحراجات المنهجية التي تعترض سبيلها والتناقضات التي تتنازع حقولها.»[13]. ومن المؤكد أن ما قدمه في هذا الكتاب يعتبر جسرا هاما بين المناهج السيميائية الغربية والمتلقي العربي، فقد حرص الرجل كل الحرص على توليف وتأصيل كل ما هو آت من الغرب بطريقة لا تختزل ذاكرة المتلقي العربي.. ولذلك أشاد الباحثون بترجمات المنيعي الغزيرة التي تلبي حاجة معرفية وملئها لمساحات صمت مهولة في عدد كبير من المواضيع. فهي ترقى إلى مستوى الترجمات التأسيسية ‘المنبهة للفكر’ و’الباعثة على العطاء’ في مجالنا التداولي العربي. ولنا أن نستحضر رؤيته لفعل الترجمة من قوله:
«ترجمة عمل مسرحي ليس فقط مجرد ‘عمل لسني’، ولكنه أيضا فعل ‘تملك’ ثقافي وفني. لهذا لجأ المسرحيون العرب إلى الترجمة ليكونوا دوما في حالة ‘تفاعل’ مع المسارح الأخرى دون أن يتخلى أي منهم عن هويته وأصالة كتاب بلده.»[14].
فحسن المنيعي يعتبر ترجمة النصوص الدرامية فعل تملك ثقافي وفني، كما يؤكد بأن الترجمة المسرحية في العالم العربي تكتسي أهمية خاصة لتحقيق الأهداف التالية: “1- الاطلاع على النظريات الغربية واستيعابها… 2- معرفة أنماط وأنساق الكتابة الدرامية والركحية… 3- الخوض في مناقشات حول أصالة المسرح العربي وتفاعلاته مع ثقافات أخرى. 4- تدريس المسرح في الجامعة، وخلق فرص البحث…”[15] وتشكل هذه الأهداف مجتمعة أساس الحداثة المسرحية العربية.
الريادة والتفرد
منذ كتابه التأسيسي “أبحاث في المسرح المغربي” (1974) إلى شعرية الدراما المعاصرة (2017)، بدا التفرد والريادة واضحين في منهجية المنيعي النقدية؛ حيث أثار الانتباه إلى الخبرات الموشومة في الجسد الفرجوي الطقوسي الشعبي العربي والمغاربي منه بخاصة، ذلك الجسد الذي هو ـ في اعتقادنا الشخصي المتواضع ـ يحمل في جوهره كثيرا من الأجوبة التي قد تسعفنا لتحقيق المراد: مسرح معبر عن خصوصيتنا نحن، هنا والآن، لكن دون ماهوية مطلقة… لقد طرح المنيعي مشروع التأصيل ومسرحة الأشكال الفرجوية لأول مرة في تاريخ النقد المسرحي المغربي، وتفرد في كتابة دراسة مؤسسة حول “أثر بيرانديللو في مسرح توفيق الحكيم” في كتابه الموسوم “هنا المسرح العربي، هنا بعض تجلياته” حيث فكر توفيق الحكيم والتأثيرات الخارجية عليه (خاصة أثناء إقامة الحكيم في باريس خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1925 و1927)، مركزا على النقاط المحورية في أعمال الحكيم: الفكر الاجتماعي، المسرح الذهني، ليخلص إلى تأكيد تناص ممارسة الحكيم النصية وكتابات بيرانديللو المسرحية (التي لا يعترف بها الحكيم نفسه).
وفي الكتاب ذاته، تطالعنا دراسة متفردة تسلط المزيد من الضوء على محاولات البحث عن صيغة مسرحية عربية. قدم فيها المنيعي دراسة مؤسسة حول نماذج من مسرحة التراث الفرجوي الذي تزخر به الذاكرة الشعبية في الوطن العربي لدى يوسف إدريس وعز الدين المدني ثم الطيب الصديقي. وقد أنهاها بخلاصة مهمة مفادها:
«إن رفض الشكل الإيطالي يبقى العائق الأساسي بالنسبة إليهم لأنهم لا يستطيعون التخلص منه لأسباب سياسية نجد على رأسها القمع المتوحش السائد في المجتمعات العربية، إذ إن شروط إنتاج حركة مسرحية متحررة وجماهيرية الآفاق مرهونة بإنتاج شرط اجتماعي ديمقراطي. ومن ثم، فإن محاولات التأصيل – سواء على مستوى التنظير أو الكتابة- تظل في الغالب مجرد اقتراحات إن لم تكن تكرارا لما هو سائد في الغرب» (ص. 29).
نستخلص من هذا الكلام أن حسن المنيعي مدرك للمأزق التأصيلي العربي وكذا إكراهاته ومساراته المعاقة في غياب شرط اجتماعي ديمقراطي؛ وذلك لأن الخروج عن البنية / البناية المسرحية الغربية يقتضي الانفتاح على فضاءات مفتوحة ورحبة لا يحكمها الهاجس الأمني.
ومن ملامح الريادة والتفرد، أيضا ارتباط اسم حسن المنيعي بالدرس المسرحي الجامعي، وتأطير البحث المسرحي الجامعي بخاصة. فقبله كان الدرس المسرحي في جامعة محمد الخامس مرتبطا بإرادات شخصية لبعض الأساتذة الأجلاء. ولكن، بعد التحاقه بهيئة التدريس بكلية الآداب بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، أصبحت للدرس المسرحي مكانة هامة في مقررات الكليات إلى أن توج بوحدة السلك الثالث التي أشرف عليها أستاذنا إلى حدود السنوات الأخيرة. لقد كان للمنيعي الفضل في إرساء معالم البحث المسرحي بالمغرب. إنه الأب المؤسس لهذا الصرح الكبير من الكتابات الجامعية عن المسرح، والذي يحق للجامعة المغربية الآن أن تفخر به. فالتئام الثلة الكريمة من فرسان البحث المسرحي حول ‘البا حسن’ يؤكد اعترافهم بمنجزه وتقديرهم لتواضعه وإنسانيته. إنه بحق مدرسة.
ومن بين ملامح التفرد والريادة لدى حسن المنيعي، نجد هاجس تأسيس ثقافة مسرحية جامعية؛ ففي ندوة “التجريب في المسرح الجامعي بين الممارسة والتدريس”، التي نظمت على هامش المهرجان الوطني الثاني للمسرح الجامعي بمكناس سنة 1994، نجده يقول: “لا يمكن للثقافة المسرحية أن تزدهر في رحاب الكلية عن طريق درس “مغلق” تنحصر أهدافه في توصيل بعض المعلومات عن الكتابة الدرامية كمجرد كتابة أدبية، وإنما ينبغي أن يكون منطلقا لتطوير حاسة الذوق لدى الطلبة وفرصة لتفجير طاقاتهم الإبداعية والنقدية والإنجازية. وهذا يعني أن على أستاذ المسرح أن يكون على وعي كامل باتساع أفق الكتابة الدرامية وبشروط إنتاجها. وإن كل مقاربة أدبية للإبداع الدرامي لا يمكن أن تكون هي نفس المقاربة التي تخضع لها النصوص الروائية والشعرية وإنما تختلف عنها من حيث تنوع مفاهيمها الأدبية والفنية والحركية”.
ومع مرور السنين وتعاقب برامج إصلاح التعليم المغربي، تبقى وضعية الفنون ضمن منظومة التعليم هامشية وغير منسجمة. لذلك نجد المنيعي، من الأوائل الذين نبهوا بأن مستقبل الدرس المسرحي الجامعي يحتاج إلى إعادة نظر “وإلى مراجعة أهدافه وغاياته، لأنه هو الوحيد الذي يستطيع خلق تقاليد مسرحية جديدة وتحقيق استمراريتها خصوصا إذا تم الجمع بين الطرح النظري والتطبيق الميداني.”[16] لذلك ينبغي تجاوز الوضعية الراهنة حيث حضور المسرح في الجامعة هو مجرد ‘مكسب مؤقت’. “في حين، نجد المسرح الاحترافي الأوروبي ينتعش دوماً على يد الجامعيين الذين تلقوا تكوينا مسرحياً في معاهد الفنون الدرامية ومختبراتها التابعة للجامعة. إن مثل هذه المعاهد والمختبرات لا وجود لها في كلياتنا رغم ما عرفه التعليم الجامعي من إصلاحات متوالية، ورغم التزام المغرب بتطبيق توصيات مؤتمر منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) الذي انعقد سنة 1972 ومنها إحداث معاهد وفروع بالكليات تُعنَى بالفنون (وعلى رأسها المسرح)، وتكون قاعدة للربط بين التكوين والتشغيل.”[17]
من هنا، كانت لحسن المنيعي الريادة في توجيه مسارات المسرح الجامعي والمدرسي على السواء، إذ يرى أن تطور المسرح في الجامعة المغربية رهين بتطور المسرح المدرسي. وتأسيسا على ذلك، فقد كانت له الريادة في تقديم ثمانية مقترحات بغاية النهوض بالثقافة المسرحية في المدرسة والثانوية والجامعة، منها على سبيل المثال:
ـ إدماج المسرح في المدرسة الابتدائية.
ـ خلق أقسام نموذجية للمسرح في الثانويات.
ـ خلق شعب للمسرح في الجامعة.
ـ تشجيع النشاط المسرحي في المدرسة على مستوى الممارسة والتأطير والتلقي.
ـ إقامة مهرجانات للمسرح المدرسي. [18]
لقد كانت للمنيعي الريادة في التنظير لقضايا تدريس المسرح بالجامعة، والذي يعتبر اكتشافا متواصلا للفن الدرامي عبر الانفتاح على النص التقليدي أولا، ثم البحث عن صياغة جديدة تقوم على مسرحة الشعر، كما لمسنا ذلك في الدورة الثالثة من مهرجان أكادير للمسرح الجامعي مع فرقة كلية الآداب ببني ملال تحت إشراف الأستاذ رشيد دواني. فمع جهوده تمت مسرحة ديوان الشاعر عبد اللطيف اللعبي، ومسرحة حياة الشعراء (على شكل محاكمة)، كما تطورت جهود التوليف المسرحي أو الكولاج، ومسرحة الفرجات الشعبية مع تطعيمها بنصوص درامية، وتقديم فصول عربية بطريقة النو أو الكابوكي، ومسرحة الرواية والنصوص السردية والحكائية. والملاحظ هنا أن تنظيرات حسن المنيعي نابعة من معرفة دقيقة وعميقة بموضوع البحث من جهة، ومن المواكبة والمتابعة الدءوبتين لكل التجارب المسرحية المحلية والعربية والدولية، من جهة أخرى.
يتميز مجال البحث العلمي الجامعي المرتبط بالمسرح بالحيوية ورحابة الأفق. فرغم ارتهانه، أحيانا، لبنيات التفكير التي تتوزع المشهد المسرحي المغربي إلا أنه يتوق إلى آفاق مشرعة على استشراف ‘علم المسرح’ الذي ينظر إلى الممارسة المسرحية في ارتباطها بباقي التبادلات الثقافية والرمزية من جهة، وحركية المجتمع من جهة أخرى. من هنا، يمكن اعتبار البحث العلمي في المجال المسرحي بنية للتفكير بصيغة الجمع في أوضاع الممارسة المسرحية تتجاوز الشرح والتحليل والتوثيق إلى التوجيه والتفاعل الإيجابي… فمنذ “أبحاث في المسرح المغربي” لأستاذ الأجيال الدكتور حسن المنيعي اتجه النقد الجامعي الجاد صوب نقد أوضاع الممارسة المسرحية بالمغرب في ارتباطها بـإشكالية التأصيل انطلاقا من مسرحة السلوكات الفرجوية المتجذرة في الوجدان الشعبي للمغاربة دون إغفال حضور مسرح الآخر الغربي في متخيلنا المسرحي. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: إلى أي حد ما تزال الممارسة المسرحية المغربية تتفاعل مع درس حسن المنيعي؟
العودة إلى التراث
لقد ساير النقد المسرحي مسألة توظيف التراث في المسرح العربي منذ بداية عصر النهضة. وفي هذا السياق يذكرنا المنيعي أنه “خلال القرن التاسع عشر، والتي اقترنت بدعوات إصلاحية وسجلات حول “الهوية العربية” وعلاقة الفكر العربي بالحداثة الغربية…الخ”.[19]بحث العرب عن مسرح مغاير وبرزت عدة أصوات وتجارب في المشرق والمغرب، راوحت معظمها بين مسارين متشابهين في العمق رغم اختلافهما في الظاهر. فبالنظر إلى المسار الأول، والذي يمكن أن ينعت بالتأصيلي، سوف يستعاض عن النموذج الغربي عموما من خلال الدعوة إلى التقاليد الفرجوية الأصيلة (وهي طريقة أخرى تروم العودة إلى مغرب ما قبل الإستعمار الفرنسي-الإسباني). وقد أدى هذا النزوع بالبعض إلى تمجيد الأسلاف كمحاولة لمقاومة الإستيلاب وإجابة عن وضعية الإغتراب الناتجة عن تأورب صناعة الفرجة العربية، ومن ثم السعي الحثيث نحو النقاء والذي يستشرف بدوره نوعا جديدا من التمركز المنطقي الذي يمكن نعته بالتمركز المنطقي العربي. أما بالنسبة إلى المسار الثاني، ينظر إلى المسرح الغربي باعتباره النموذج الأولي المقابل لنقيضه والذي يعرف غالبا باسم ‘ما قبل المسرح’. وبالفعل، فإن هذا الموقف الذي يمكن نعته بالمسار التغريبي، يعيد أيضا إنتاج الإقصاء الغربي للتقاليد الفرجوية غير الأوربية. كما اعتبر التقليد المسرحي الأوربي النموذج الوحيد لفن المسرح الذي يجب أن يتملك ويعاد إنتاجه واستنساخه من لدن كافة سكان المعمور وذلك لكونه صالح لكل الأزمنة والأمكنة. وبعبارة أخرى، فليس ثمة مسرح ما عدا المسرح الغربي، وانسجاما مع نفس المنطق الإختزالي والإقصائي، فليس هناك مسرح عربي وإنما هناك مسرح مكتوب باللغة العربية.
وعلى الرغم من وهم الحدود، فإن المسرح يتطور تاريخيا من خلال التبني المحاكاتي والتبادلات الثقافية بين مختلف الشعوب، وخير دليل على هذا هو تأثير التقاليد الفرجوية الشرقية في المسرح الإغريقي القديم، وأكثر من هذا، يذهب البعض إلى أن طقس ديونيسوس ليس يوناني الأصل، بل جاء من الشرق وهذا دليل آخر على أن المسرح هو في الحقيقة جنس هجنة بامتياز. ليس ثمة من مسرح مكتف كلية بذاته، فالمسرح الغربي بدوره يمتاز بالهجنة بل وأكثر من هذا، إن المسرح وسيط يستلزم تحويل شيء مكتوب على الورق إلى عالم مرئي ومسموع يدعى بالفرجة المسرحية. فرغم إقرار حسن المنيعي بأن المسرح فن طارئ في البلاد العربية، إلا أنه ظل يستحضر الأشكال الفرجوية التراثية مند “أبحاث في المسرح المغربي”، وهو بذلك ما فتئ يذكر “فنانينا وكتابنا الدراميين أن يعتنوا كثيرا برصد هذه الأشكال وأن ينتشلوا منها المادة الأساسية لمسرح مغربي.”[20]
يطرح الدكتور حسن المنيعي مسألة التراث في ارتباطها بالهوية والاختلاف، الوحدة والتعدد، الاتصال والانفصال… مثله في ذلك مثل المؤرخ المغربي عبد الله العروي الذي دعا إلى إعمال فكر يقود لتجاوز الحس الرومانسي ويفصل بين «الخصوصية والأصالة: فالأولى حركية متطورة والثانية سكونية متحجرة ملتفتة إلى الماضي.»[21]وفي هذا السياق، يبرز دور المنيعي من حيث هو ‘ناقد منظر’ ساهم بشكل لافت في بلورة النقاش حول مسألة العودة إلى التراث. يقول رفيق دربه المرحوم الدكتور محمد الكغاط: “يمكن أن نستشف تنظيره المتواصل من خلال طرح قضايا القالب المسرحي والبحث عن الهوية وعرض الآراء التي أثيرت حول هذا الموضوع سواء في المشرق أو في المغرب وكذلك من خلال رصده للتراث وأنواعه وطرق استلهامه في الأعمال المسرحية المنجزة، ولا يكتفي الناقد المنظر بعرض ما هو سائد بل نراه في كثير من آرائه النقدية يتخذ موقفا من تعامل الكتاب والمخرجين مع التراث.“[22]هكذا، يرى المنيعي أن توظيف الظواهر التراثية يجب أن يعتمد على “أسس علمية وفنية ترمي بالأساس إلى استيعاب رموزها لإعادة تركيبها من منطلق فاعلية عربية تؤسس لممارسة مسرحية مستقبلية ذات لغة متنوعة.”[23]. إنه يؤكد، أن علاقة المسرح بالتراث “ستظل في رأينا مجرد وسيلة فنية لتأصيل الحركة المسرحية وانتشالها من التبعية للغرب، إذا نحن لم نعمل على توطيدها من منظور معرفي وجمالي؛ إذ لا يكفي أن يكون هدف الرجوع إلى الثقافة الشعبية هو تحقيق كشوفات وابتكارات فنية، بل ينبغي أن تكون له أبعاد إيديولوجية.”[24]في ذات السياق، نستحضر مرة أخرى تأملات العروي الذي يقول “إن عبارات الرفض تجاه الثقافة الغربية لا يمكن أن يشكل بحد ذاتها ثقافة؛ والشطحات على آثار الذات السليبة لا تعيدها إلى الحياة.“[25]والعروي بهذا الكلام يضعنا أمام أنجع سبل المصالحة مع ذاتنا الفرجوية وجسدنا المسرحي برمته. في نفس الاتجاه، يؤكد حسن المنيعي “أن تحديث الفرجة المغربية لا يمكن أن يتحقق في فعل الانغلاق على التراث، واستحضاره نموذجا مضادا للنموذج المسرحي الغربي، وإنما أيضا في فعل الانفتاح على الممارسة الغربية، والتعامل مع أشكالها القديمة والمستحدثة مع حرص المسرحيين على بلورتها بطرق فنية تعكس وعيهم الثقافي، وتعاملهم مع مكونات المجتمع المغربي الحضارية والثقافية.“[26]بكل وضوح، يدعو المنيعي -قبل كل شيء- إلى تملك فعلي وعقلاني للتراث الفرجوي العربي سواء بقصد فقدانه أو اعتماده، الانفصال عنه أو اتصال به. كما يدعو إلى الانفتاح على تراكم الخبرات المنجزة من طرف الآخر، لأن مسرحنا منفتح على آلية الاختلاف مند نشأته (أو تأوربه الأول سواء مع دانينوس أو النقاش)، فهو مسرح يستفز مقولة الواحد المتجانس.
لذلك كله، فإن التفاعلات العربية مع المسرح الغربي هي محصلة “لحظة الهجنة” أو ما يدعوه هومي بابا بالفضاء الثالث. كما أن «علاقة المسرح العربي والمغربي على السواء بالمسرح الغربي”، يذكرنا المنيعي في (المسرح مرة أخرى)، “هي علاقة قسرية، فرضتها هيمنة الثقافة الغربية.”[27]من هنا، استشكلت قراءة المنيعي محاولات البحث الدءوب عن أسمى سبل الانفلات مما أسماه ب”التأرجح المأساوي بين إنجازات الآخر وطرح إمكانية إثبات الذات”[28]؛ تأرجح أسقط بعض المنشغلين بقضايا هذا المسرح في حلقة مفرغة تراوح في الغالب مكانها بين “تأورب مطلق”، من جهة، و”اغتراب في الماضي” من جهة ثانية. على أن إمعان النظر في هذه المراوحة ما يلبث أن يقودنا إلى التأمل في الفضاء الثالث (فضاء الهجنة) الذي استشرفته ممارستنا المسرحية انطلاقا من مزجها بين الأنا والآخر مند أول تدريب للمعمورة سنة 1952 -نذكر هنا بما أفرزته هذه التجربة من اشتغال ميداني يجمع بين منظومة المسرح الشعبي لجان فيلار المستقدمة إلى المغرب عن طريق تلميذه أندري فوزان، من جهة، وانبهار هذا الأخير بالمخزون الفرجوي المغربي، من جهة ثانية، الأمر الذي أدى إلى بداية رحلة المغربة مع الرعيل الأول في فرقة التمثيل المغربي التي تحولت إلى فرقة المعمورة-.
لذلك، “فإذا كان المسرح إبداعا للعبقرية الغربية،” يقول الدكتور حسن المنيعي، «فقد سارع الفنانون المغاربة إلى احتضانه أولا، في شكله الإيطالي، ثم طوروا مجالاته ثانيا، عن طرق التشبع بنظرياته وشعرياته، مما يجعلني أؤكد على أن أغلب ممارساته الحالية في المغرب تقوم على “ازدواجية فنية” تتحدد معالمها بامتداده التاريخي المتطور، وحضور فعل مسرحي مسكون بهاجس الهوية ومحاولة تأصيل الظاهرة المسرحية.»[29]وتشكل التجربة الرائدة للطيب الصديقي، والتي أعارها المنيعي اهتماما خاصا، أبرز نموذج هذه ‘الازدواجية الفنية. يقول الصديقي في حوار استيعادي أشبه بالسيرة المسرحية: “والواقع أنه خلال تجربتي المسرحية سرعان ما استشعرت الحدود التي يرسمها المسرح الكلاسيكي أمام المبدع. إن وحدات هذا المسرح الغربي لا تستجيب دائما لمتطلباتنا. المسارح في بلادنا بنيت كلها ومن دون استثناء في عهد الحماية… وحتى لا نتوه في التفاصيل، فهذه المسارح شكلا لم تكن تعبر عن حاجياتنا الثقافية.“[30]
ومع ذلك أدرك الصديقي أن البناية المسرحية لا تتسع لنفحاته المأمولة، فانطلق إلى رحابة الموروث الشعبي في جامع الفنا؛ فكان ذلك إيذانا بميلاد نفس جديد وأفق جديد في الممارسة المسرحية المغربية. فـ “صناعة الفرجة من منظور حداثي وأصيل دفعت بمجموعة من المسرحيين المغاربة إلى ‘بنينة’ جديدة وشاملة للتراث الشعبي الأدبي والفني. ومن الأكيد أن فاعلية هذه ‘البنينة’ قد أدت إلى خلخلة الممارسة التقليدية للمسرح، وإعادة النظر إلى مفهوم الفرجة التي اندرجت بأشكالها المتفجرة في الحياة الاجتماعية. من هنا نستطيع إدراك القطيعة التي حققها المسرح المغربي مع المسرح على الطريقة الإيطالية، ورفضه لمنظوماته وقواعده خصوصا وقد ارتكزت بنينته الأساسية على نصوص متعددة تروم إلى إقحام الفعل المسرحي في الثقافة المغربية.”[31]وتعتبر الفضاءات الفرجوية من قبيل الحلقة أبرز نماذج هذه ‘البنينة’. فالحلقة مرتبطة بقوة بالحيوات الفردية والجماعية لصانعيها وكذا متلقيها؛ وقد تكررت بما فيه الكفاية لكي تصبح فرجات سردية فنية شاملة تحمل آثار جلية لمنحنى فردي/جماعي للهوية. وأخذا بعين الاعتبار القدرة السحرية للحلقة لاحتواء وتوريط الآخرين، فإنها تستشرف الفرجوي من خلال Habitus مشترك بين صانعي الفرجة ومتلقيها. وضمن هذه الصيرورة، فإن فرجة الحلقة تعيد صوغ القيم الثقافية والمعرفية الذاتية عن طريق إدراجها للجمهور في لعبة مطردة الأدوار. كما أنها تُجلي الفعل الإنساني بطاقة عالية لإبراز وعكس الهوية الثقافية الجمعية.[32]
لقد استطاع مفهوم الفرجة عند المنيعي، أن يعيد النظر في السلوكات الفرجوية الخارجة عن دائرة الممارسة المسرحية الصرفة؛ والأهم من هذا هو أنه دفعنا إلى إعادة تقييم مفهومنا للمسرح. فقد كان إبرازه لمقومات الفرجة في الحلقة والبساط وسيد الكتفي وغيرها من السلوكات الفرجوية التراثية أن جعله يستشرف آفاق الأنثروبولوجيا الثقافية، والفولكلور والإثنو-موسيقا… ليقف بنا على “أن أهمية عروض الحلقة هي التي دفعت المسرحيين المغاربة إلى تحريك أبعادها ونقلها إلى البناية المسرحية لتكون دعامة الإنجاز المسرحي إن على المستوى الجمالي السينوغرافي أو مستوى البعد المعرفي الذي يقوم عليه النص.“[33]
بما أن المسرح العربي لم يتطور كفن مستقل انطلاقا من فرجة شعبية تشكل لاوعيا مسرحيا، بل اقتُبس من الغرب مباشرة باعتباره نموذجا جاهزا بقوانينه وتشكيلاته الإيديولوجية، فقد تشكل هذا المسرح على مستوى الممارسة كفضاء للهجنة تتقاطع داخله مجموعة من السلوكيات الفرجوية والإبستيمات المتناقضة. وعليه، كان من الضروري البحث عن صيغة مسرحية تعبر عن وجدان الإنسان العربي. لقد فجر هذا المسرح الرافض مكونات الصراع ليس فقط بين ثقافتين، بل بين بنيتين مرجعيتين متعارضتين. كما فجر علاقة المركز/الهامش في ظل بنية تراتبية مغلقة، وأسعف العرب في مساراتهم المستقبلية على خلخلة الحواجز الوهمية التي كانت تحافظ على هيمنة المسرح الغربي باعتباره العمود الفقري لريبرتوار المسرح العالمي. وبهذا سيصبح المسرح العربي مسارح متعددة. وفي السياق ذاته، حينما استحضر حسن المنيعي التجارب المسرحية العربية منذ دعوة علي الراعي، ويوسف إدريس، وروجيه عساف، ورئيف كرم، وسعد الله ونوس… ـ والمغاربية منها بوجه الخصوص ـ لاحظ أن جيل الرواد من أمثال أحمد الطيب العلج، الطيب الصديقي، عبد السلام الشرايبي، عبد الرحمان كاكي… نهلوا جميعا من معين الذاكرة الفرجوية الشعبية: (ذاكرة جامع الفنا، باب بوجلود، القريعة، والحلفاوين…) بما هي فضاءات لعبية، فرجوية، تقليدية، شفهية… فقد أدى نقل تقنيات الحلقة والحكواتي والسامر والكوال إلى بنية المسرح كفن وافد إلى ابتكار نماذج مسرحية تراثية في سياقات مسرحية مختلفة…
من هنا أفرز الانفتاح على الأشكال التراثية كتابة ركحية “متفجرة وذات بعد جدولي، وهي في الغالب كتابة تقوم، حسب المنيعي، على “التوليف بين نصوص سردية، ومشاهد حكائية وقطع شعرية ومتواليات غنائية/حركية…“[34]ولكن أيضا، طرح المنيعي أسئلة لاستشكال السعي لاستعادة التراث في المسرح العربي: “هل هو استجابة لدعوة أو دعوات قومية؟ أم دعوة شوفينية؟ هل هو استلهام للماضي لإضاءة المستقبل؟ أين يبدأ في الإنجاز المسرحي وأين ينتهي؟ هل هو تقنية أم مجرد استحضار لفرجات شعبية قديمة؟ هل بإمكانه أن يؤسس صيغة مسرحية عربية حقيقية؟ أم هو مجرد دعوة شكلية؟ هل يمكن أن يشكل رافدا في الثقافة المسرحية العالمية؟“[35]. نلمس هنا أسئلة لا يجرؤ الكثيرون ممن انساقوا وراء غوغاء البيانات على طرحها.
في هذا الصدد، يرى الطيب الصديقي أن الاستفادة من التراث “ضرورية، لكنه يجب التعامل بحذر حتى لا نسقط في متاهة إعادة واستهلاك صيغ مسرحية لا تمت إلى واقعنا بصلة … كما أنه يجب الابتعاد عن الصيغة الغربية التي تلائم الغربيين وأن ننفتح عليها في نفس الوقت وقدر الإمكان حتى لا نكون منغلقين ومتقوقعين.”[36] إن هذا التصريح يحدد، في رأي حسن المنيعي، «أفق تحديث الفرجة المغربية في المستقبل، وهو صادر عن ابن شرعي للمسرح الفرنسي، تمرس على أشكاله ولكنه التزم التعامل مع التراث العربي وعمل على مسرحته وتجديد بعض أشكاله كما فعل مع البساط حينما اعتمد أثناء كتابة رباعيته (الفيل والسراويل – ولو كانت فولة – المطعم البلدي – جنان الشيبة) على بعض النصوص التراثية كالنبوغ المغربي لعبد الله كنون، والكشكول لبهاء الدين العالمي، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وأمثال العرب، والجاحظ، وخرافات ونوادر مغربية عربية وبربرية الخ…“ [37] كون أن الصديقي قد ارتكز على التراث، فإن أعماله تقوم على استفادة خارجية نظرا لتشبعه بمعطيات المسرح الغربي وتقنياته. وهذا ما دفع حسن المنيعي إلى الاستنتاج التالي: كون”التداخل الثقافي يوجد داخل الثقافة الأصيلة«.
عبد الله العروي أيضا يدفعنا إلى التأمل في كيفية تعاملنا مع الفلكلور والذي يشكل جزءا هاما من تراثنا الفرجوي، إذ نجده يقول في كتابه الموسوم “الايديولوجيا العربية المعاصرة”: “إن هذا الفلكلور المسترجع، عكس ما يظنه الملاحظ غير المدقق، لا يمثل ثقافة أصيلة تواجه ثقافة دخيلة متولدة عن الهجمة الغربية، بل الفلكلور هو جزء لا يتجزأ من تلك الثقافة الدخيلة. إنه لا يحيل على المجتمع القديم، وإنما على الجديد، إذ يشير، في عمقه، إلى مدى تبرجز المجتمع. بعبارة أخرى، لأجل إدراك الدور الذي يقوم به الفولكلور في المجتمع، لا ينبغي الالتفات إلى محتواه بقدر ما يجب سبر نفسانية من يتمتع به.”[38]موقف العروي هذا يجعلنا نميز بين الفلكلور كأثر والفلكلور المسترجع كزيادة؛ كما يكشف عن النظرة الفولكلورية في التعاطي مع التراث بهدف إخضاعه لرغبات مجتمع في طور التبرجز غير المعقلن.
“هل يمكن الاستغناء عن مرحلة الفولكلور هذه أم لا؟” يؤرقنا العروي مرة أخرى بحرقة السؤال. أكيد، يمكن الاستغناء عن مرحلة الفولكلور المسترجع من خلال الانفتاح الذكي على الأنثروبولوجيا الثقافية، ودراسات الفولكلور والموسيقى الإثنية، والأنثروبولوجيا المسرحية… والتخلص من نزعة الاختلاف المتوحش، من جهة ثانية، والذي يساوي عند الخطيبي “الانفصال الزائف الذي يقذف بالآخر إلى خارج مطلق. الاختلاف المتوحش يؤدي بشكل حتمي إلى ضلال الهويات المجنونة: الثقافوية، التاريخوية، القوموية، التزمتية الوطنية، العرقية…“[39]لأن الفلكلور المسترجع، في آخر المطاف، هو انعكاس لرغباتنا ومخاوفنا وبحثنا المتواصل عن هوياتنا. ولكن، هل الهوية ثابتة؟ هل الفلكلور جامد؟ لا أعتقد، لأن الفلكلور دينامية بلاغية متأقلمة؛ إنه في ذات الوقت بؤرة للتابث والمتحول. إنه ظاهرة محركة بواسطة صانعها، كما أنه موضوع للحوار بواسطة الجمهور في ظل تخوم محددة بشكل جماعي. هكذا أصبحت تلك المشاريع المسرحية التواقة إلى الإمساك بأسطورة الأصل والعودة إلى الينابيع الأولى طروحات مسرحية ماهوية في مجملها، ذلك أنها لم تستوعب مأزق الهوية المتحول والمتجدد باستمرار. بل حتى عبارة “ينابيع أولى” في حقيقتها هي صيغة الجمع وليست المفرد، فهي أصول متعددة وليست أصلا واحدا. لقد سقط المنحى التأصيلي في مجمله فيما أسماه عبد الكبير الخطيبي ب “الاختلاف المتوحش” والتراثوية الفولكلورية.
ورغم ذلك فإن الحاجة لاستحضار تقاليد الحكي العريقة في تراثنا وبلاغة الاستطراد بخاصة مبعثها الرغبة في إعادة ابتكار هذه التقاليد ضمن منظومة المسرح المحكي وليس إعادة إنتاجها من حيث هي نماذج ثابتة، غير قابلة للتطوير. وقد أدى هذا الأفق إلى إنتاج هجنة مسرحية. “حينما نعود إلى التراث العربي الإسلامي وخصوصا إلى فنياته الجمالية لا نريد بذلك أن نستدل على صحة مفهوم الأصالة المزعوم وأن نقدس هذا التراث أكثر مما يطيق من التقديس.” فبعد سفر طويل وبحث دءوب في جماليات المتن العربية القديمة، اعتمد العديد من المسرحيين العرب مفهوم الاستطراد من حيث هو خاصية جمالية مكنته من اقتراح شكل مسرحي يجمع بين القديم والجديد. ف”الاستطراد في التأليف العربي القديم هو التداخل في الأغراض، والتراكيب في الأحاديث، وإلقاء الحديث على عواهنه وتكديسه على بعضه البعض. ولعله ثانيا سرد روايات متعددة وربما متناقضة لحدث واحد. ولعله ثالثا إيراد تحليلات وتأويلات كثيرة…“[40]
إذ ما جدوى العودة إلى المقامة الكوفية مثلا ونحن لا نستوعب جمالية الاستطراد والرواية والإسناد وإمكانيات التمسرح الكامنة في المواقف السردية؟ وهل سنجد أفضل من عبد الفتاح كيليطو لإضاءة تلك الأسئلة التي طرحها حسن المنيعي في أكثر من مناسبة، وهو يقول: “تتحدث بعض الحكايات عن فتاة جميلة حكمت عليها ساحرة شريرة بالنوم لمدة مائة سنة. فاستغرقت في سبات عميق وبقيت على هذه الحالة إلى أن أتى ‘فارس الأحلام’ ذات يوم فانحنى عليها وقبلها فاستيقظت واستقبلت الحياة من جديد. يبدو لي أن المؤلفات القديمة توجد اليوم في وضعية شبيهة بوضعية الفتاة النائمة. فهناك من يحسبها ميتة فيبتعد منها ويمضي لا يلوي على شيء. وهناك من يقترب منها بقرع الطبول فتستيقظ مذعورة ثم تعود توا إلى نوم أعمق من النوم الأول. وهناك أخيرا من يقترب منها بود وعطف فيلمسها برفق ويقاوم نزوعها إلى النوم بلطف، وعندما تفتح عينيها يأخذ بيدها ويساعدها على التكيف مع عالمها الجديد.” (الغائب) لا شك أن قارئ كيليطو من هذا الصنف الأخير. ولا شك أنه سيفلح معه في إخراج مقامة الحريري من غيبوبة دامت عدة قرون. والحال أن المنيعي قد سعى لاستحضار التراث عن طريق ‘العلم’.
النقد المسرحي بين التغريب والتأصيل
“إن النقد المسرحي يتضمن في أعطافه وممارساته نزوعا إلى التنظير والاستفادة من الدراسة المسرحية الغربية، كما يحرص على تحديد وضعية الظاهرة المسرحية تجاه المؤسسة. وهذا ما جعله يشكل جانبا هاما من حركتنا النقدية التي تعد أكثر تقدما ومصداقية إذا ما وضعناها في إطار واقع الحركة النقدية العربية.”[41]
“من هو الناقد المسرحي الحقيقي؟”… هكذا يبدأ الدكتور حسن المنيعي سفره الممتع ضمن كتاب “النقد المسرحي العربي”. إنه سؤال وجودي يهدف استشكال ماهية النقد المسرحي من حيث هو لغة واصفة للإبداع المسرحي نصا وعرضا، بنفس الدرجة التي يساءل فيها آلياته وبنياته من داخل الممارسة النقدية. فالناقد المسرحي الحقيقي، حسب حسن المنيعي، “هو الذي يستطيع إدراك آليات اشتغال العمل المسرحي وتحديد أصولها ومستجداتها اعتمادا على ثقافته الشخصية.” بهذا المعنىـ يكون النقد المسرحي عند المنيعي متفاعلا مع الجسد المسرحي؛ ولكن أيضا “لا يجب على المسرح أن يمتص الفعل النقدي. وإنما يلزمه أن يعمل على إدراجه في الفعل المسرحي.”[42]
لقد سعى المنيعي مند كتابه الأول إلى إيجاد مفاهيم نقدية قابلة لفك شفرات الخطاب المسرحي العربي والمغربي بخاصة. لذلك اتجه إلى تأصيل الممارسة النقدية انسجاما مع موجة “التأصيل في المسرح المغربي التي اعتمدت التراث كتاريخ وأشكال وتقاليد فرجوية، كما اعتمدت تقنيات بصرية سمعية وحركية جديدة. فقد كان من اللازم إيجاد مفاهيم نقدية مساعدة لدراسة بلاغة الخطاب المسرحي وتأويل معانيه.”[43]ولعل أبرز سمات التجربة النقدية عند حسن المنيعي هي رحابة أفق المثاقفة وتعدد التخصصات: “لا يمكن لنا أن نتحدث عن النقد المغربي دون مراعاة عنصر المثاقفة مع المشرق العربي والغرب الأوربي.”[44]في ذات السياق، انفتح المنيعي على سائر مناهج العلوم الإنسانية بنفس موسوعي وشمولي، وذلك بهدف تطوير مصطلحات النقد المسرحي: “فإذا كان النقد المسرحي المغربي قد لجأ إلى حقول معرفية جديدة لتطوير مصطلحاته ومجالات اشتغاله، فإن ذلك يرجع إلى علاقته واقترانه بحركة مسرحية ناضجة، تسعى إلى إيجاد ‘مسرح مغاير’ دون أن يخرج نهائيا عن دائرة المسرح الغربي.”[45]
ومع ذلك، حينما نمعن النظر في جملة من الخطابات الرائجة في مشهدنا المسرحي، نلاحظ وجود شرخ بين مجمل الجسد النقدي والممارسة الإبداعية يصل أحيانا إلى حالات مستعصية من الاحتقان والتوتر، بينما المطلوب الآن هو المزيد من التعاضد والتآزر والعمل التشاركي على شكل مختبرات مسرحية ذات أفق تجريبي. لقد نبه حسن المنيعي لهاته الظاهرة في أكثر من مرة؛ إذ نجده يقول في كتاب “آفاق مغربية” الصادر سنة 1981: “يعتقد رجال المسرح في بلدنا أن الحركة المسرحية تعاني قصرا في النقاد المتخصصين الجادين. وأن عروضهم لا يواكبها نقد، وإن كان، فهو غير موضوعي. ويبدو من هذا الاعتقاد أن النقد المسرحي لم يصل عندنا بعد إلى مرحلة من النضج، بمعنى أنه لا يزال متخلفا عن كل إبداع مسرحي.“[46]كما روّج العديد من المسرحيين والمتتبعين للشأن المسرحي المغربي فكرة مفادها وجود “أزمة النص الدرامي”، وسطوة الاقتباس من حيث هو نوع من الهروب إلى الأمام، بينما الحقيقة هي أن الممارسة المسرحية الراهنة في المغرب متفاعلة بشكل أو بآخر مع تحولات صناعة الفرجة المسرحية على المستوى الكوني، وذلك بفعل تناسج ثقافات الفرجة. لهذا، أضحى من الضروري رؤية الحساسيات المسرحية الجديدة من منظور مغاير يؤمن، كما يؤكد الأستاذ المنيعي، “بتفاعل المسرحيين المغاربة مع أطروحات الثقافة المسرحية الأوربية وتقنياتها”.[47]
لقد ارتبطت مجمل هذه التحولات التي عرفها المسرح المغربي منذ منتصف الستينات بستة أنواع من النصوص، هي حسب المنيعي: نص الكاتب، نص الإخراج، نص الكاتب المستنبت، نص الكاتب المخرج، نص الإعداد الدراماتورجي والإخراج، ونص الناقد. وقد خلص إلى ما يلي: “فمما لا شك فيه أن هذه النصوص قد خضعت جميعها لتمسرح يستحضر أساليب حداثية وتراثية لتأسيس جمالية ذات خصوصية مغربية وعالمية في ذات الوقت.“[48]إننا لا نعيش أزمة نصوص درامية أو اضطرابا على مستوى الخيال المسرحي، بقدر ما نعيش منعطفا نحو الفرجة لا يشكل فيه النص الدرامي الموجه الأساس لصناعة الفرجة المسرحية. وما أسميه بالمنعطف الفرجوي هو انفلات تجريبي يبحث عن طرائق بديلة لصناعة الفرجة ومنظور جديد لتلقيها. لقد شكلت فترة أواخر الستينات وبداية السبعينات منعطفا فرجويا في المسرح المغربي على مستوى صناعة الفرجة من خلال الانفتاح على آليات اشتغال الفرجة التقليدية وتكييف تقنيات الحلقة من حيث هي فرجة محايثة مع الفن المسرحي الطارئ. وقد شكلت مسرحة ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب أس هذا المنعطف المؤسس لحساسيات جديدة أثرت في الماضي القريب على الجسد المسرحي المغربي. يقول حسن المنيعي في هذا الصدد: “إذا كان المسرح المغربي قد عرف تطورا ملحوظا في بعض إنجازاته، فإن ذلك يعود… إلى تعامل بعض صانعيه مع التراث، وإعادة صياغة أشكاله الفرجوية والثقافية، التي تنطوي على طرائف ومواقف إنسانية حياتية تخول لهم استثمار أفكارهم المعرفية والفنية انطلاقا من الماضي إلى الحاضر.”[49]
بنفس قوة هذا المنعطف الفرجوي، برز النقد المسرحي المغربي آنذاك في مستوى الحدث. فمن خلال الكتاب المؤسس لحقل “دراسات الفرجة” بالمغرب تحت عنوان “أبحاث في المسرح المغربي” واكب النقد المسرحي المغربي ذلك المنعطف الفرجوي، بل أسس لنفسه منعطفا نقديا موازيا يجمع بين مقاربة الإبداع وتوجيه مساراته. وهذا أقصى ما يمكن أن يصل إليه النقد المسرحي، أي تجاوز سقف التحليل والشرح لأجل التفاعل الإيجابي والمرافقة البحثية للجسد المسرحي، والمساهمة في توجيهه نحو تحقيق المصالحة مع الوجدان الفرجوي. نعد، في هذا المقام، كتاب “أبحاث في المسرح المغربي” مشروعا نقديا حاملا لرؤية، متفاعلا مع نبض الجسد المسرحي المغربي، وقد أعقبته مجموعة من الكتابات النقدية التي استوعبت درس المنيعي وعبرت عن توهج مرحلة بأكملها من تاريخ النقد المسرحي المغربي. “وبما أن المسرح فن تلفظ مضاعف ـ كما يؤكد المنيعي ـ ينطلق من الخشبة إلى القاعة، ويولد نصوصا أخرى، فإن النقد المسرحي قد أصبح متورطا في الحركة المسرحية المغربية. إلا أنه لن يظل كذلك إذا لم يتوقف بعض المسرحيين المزاجيين عن الإساءة إلى الباحثين الجامعيين من خلال حجرهم على حرية الكتابة على أعمالهم من منظور علمي أو فني.”[50]ومن يفرغ من قراءة آخر إصدارات الباحث المجدد الدكتور حسن المنيعي: “ويبقى الإبداع”، و”المسرح الحديث”، و”النقد المسرحي العربي”، و”مسرح ما بعد الدراما”، و”المسرح ورهاناته”؛ وخاصة تفاعله مع نقاشات نهاية القرن المنصرم مثل “ظاهرة مسرح المثاقفة” و”مسرح ما بعد الدراما” سيكتشف استمرار ريادته وتفرده في إعادة تشكيل ملامح المنعطف النقدي المغربي.
الآن، في المغرب، نعيش منعطفا فرجويا آخر منذ أواخر التسعينات مع الدينامية الجديدة التي واكبت مجموعة من الإجراءات الإدارية التي أقدمت عليها الوزارة الوصية. فرغم كل المشاكل البنيوية والهيكلية التي تعتري الجسد المسرحي المغربي راهنا، فالملاحظ بروز توهج على المستوى الإبداعي، وظهور حساسيات فنية مغايرة… وحسن المنيعي، باعتباره المشاهد المثالي للعروض المسرحية، مواكب لتلك الحساسيات الفنية الجديدة مع أفواج وأفواج من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي. هذه الحساسيات الجديدةl’isadakism – بصيغة الجمع من مسرح الشامات، إلى داهاواسا، مرورا بتانسيفت، الأكواريوم، أفروديت، مسرح الأصدقاء…) تدعونا كمتتبعين وباحثين إلى مقاربتها بأعين مختلفة عن تلك التي ورثناها.
بحكم تناسج الثقافات الفرجوية، أصبحت تغزوا المسرح المغربي -مع الحساسيات الجديدة- ممارسات فرجوية تخطت بقوة الحدود الدرامية، وتوافقت على شكل مسرحي جديد؛ وهكذا اتجهت كل المساعي إلى العودة إلى إعادة مسرحة المسرح. ومع كل هذا تم سحب المتفرج إلى أقصى حدود طاقات الإدراك والفهم… رفقة حسن المنيعي دائما، نلاحظ إصرار الفرجة المسرحية الراهنة، كمثيلاتها على المستوى الدولي، على الابتعاد عن الدراما تدريجيا لصالح ممارسة مسرحية غير متجانسة ومتسمة بالتشذير تقيم القطيعة مع فكرة المسرح باعتباره تمثيلا لحضور ما. وفي مقابل هذا الإصرار، نلاحظ أيضا إصرار جزء من الجسد النقدي يقارب هذه الحساسيات الفرجوية الجديدة بأعين مصوغة بثوابت أرسطية، مما يسبب في الكثير من سوء التفاهم. من هنا، يمكن اعتبار مقاربة حسن المنيعي القيمة ضمن كتاب “مسرح ما بعد الدراما” مبادرة محمودة للوصول إلى مصطلحات وتعبيرات لفظية جديدة تشير بوضوح إلى الخبرة المسرحية الراهنة والتي يصعب التعبير عنها باعتماد المفاهيم المعتادة… وإلا سنسقط حتما في اختزال علاقتنا بالجسد الفرجوي في مقولات أخلاقية من شأنها تضييق الخناق على حرية الإبداع… وهنا أيضا يلفت حسن المنيعي انتباهنا بأنه “على جمالية الفرجوي أن تسلك اتجاها مغايرا لشعرية “أرسطو” التي تقصي الفرجة من مجالها.“[51]
إن اهتمامنا الحالي بشعريات ‘ما بعد الدراما’ يتماشى مع طرح المنيعي في كتاب “ويبقى الإبداع” وأيضا “شعرية الدراما المعاصرة”؛ فهي مراجعة وتقويم للنموذج الهيجيلي المهيمن في المنظومة النقدية الغربية إلى حدود الستينات، مع بيتر زوندي كنموذج. والمفهوم الهيجيلي لتطور المسرح، إلى حدود منتصف القرن العشرين في واقع الأمر، مقيد على المستوى المفاهيمي باعتباره مبنيا على التقاطب بين الدراما الأرسطية من جهة، والتوجه الملحمي من جهة ثانية. لا وجود لمسلك آخر غير الدرامي والملحمي في هذا التصور. لقد اعتبر هذا المنهج المسرح الملحمي البرشتي أهم انفلات عن التقاليد الدرامية التي هيمنت على الساحة المسرحية الغربية إلى حدود منتصف القرن العشرين، والحال أنه من وجهة نظر مسرح ما بعد الدراما، تعتبر ابتكارات برشت جزءا لا يتجزأ من التقليد الدرامي؛ لذلك نعتقد أن زوندي لم يتمكن من رؤية ومقاربة الحساسيات المسرحية الأخرى الخارجة عن بنية تقاطب المسرح الأرسطي في مقابل المسرح الملحمي… وحينما نروم الحديث عن زوندي، فإننا نعني موجة أو منظومة نقدية سيطرت على النقد الغربي (سواء الفرنسي أو الإنجليزي) إلى حدود نهاية القرن العشرين.
يؤكد حسن المنيعي أنه لخلق “حداثة مسرحية” التجأ المسرح العربي إلى “توظيف أشكال تراثية تحاور الصيغ الأوربية”، هذا لأن “المسرح هو الفن الأسمى لتفاعل الثقافات فيما بينها عبر ترويج الإنتاجات العالمية، وخصوصا من خلال جسد الممثل الذي يلعب دورا هاما في العمل المسرحي إلى جانب المخرج الذي يتكفل بصناعة الفرجة.”[52] وهناك تضمين في آخر كتابين له مفاده أنه الآن بفعل المنعطف نحو الفرجة، وتناسج الثقافات الفرجوية كفن الأداء، والفرجة الخاصة بالموقع، أصبحت الحساسيات الجديدة تتطلب مقاربات مغايرة؛ فقد أصبح تمسرح النصوص الدرامية، الآن، المبدأ البنيوي الأساس. ومع ذلك، لم يفهم هذا التمسرح من حيث هو انعكاس المسرح كممارسة إبداعية، أو استعارة ممتدة للحياة الإنسانية، ولكن باعتباره وسيلة لدفع الجمهور إلى رؤية نفسه كذوات. بكل تأكيد أضحت هذه الممارسة حاضرة في المسرح العربي. “فمسرحية (انسو هاملت) للمخرج العراقي الكبير “جواد الأسدي”، يذكرنا المنيعي، “تعد رائعة فنية تؤشر كما يقول صاحبها إلى (أن الاختلاف مع النص كتابة أو إخراجا يزيح النصوص عن أمكنتها وأزمنتها ليضعها في أزمنة وأمكنة تواكب التحولات والتغيرات المعرفية والسياسية.)”[53]
فمسرح ما بعد الدراما يتميز بخاصية أساسية، وهي عدم التركيز على النص الدرامي من حيث هو وسيط يوجه الحدث المسرحي. إنه فرجة مخطط لها ومفكر فيها بشكل تشاركي. كما أنه مسرح غير أدبي وتجريبي، وهذا جزء من أهدافه. لذا، فاستشراف التجريب من حيث الشكل والمضمون يهدف إلى خلخلة الطريقة التي نعيش ونصنع الفرجة المسرحية من خلالها. لكن هذا لا يعني إطلاقا أن المسرح قد تخلى عن النصوص، أو أن إمكانية كتابة النصوص الدرامية لم تعد متاحة، إنه يحيلنا إلى عدم تبعية العناصر الأخرى التي تشكل عملية الإخراج للنص الدرامي، وكل هذه الخاصيات متضمنة في التصنيف الدقيق الذي أورده حسن المنيعي في كتابه الرائع “ويبقى الإبداع”. كما أن مسرح ما بعد الدراما يقوض سلطة ‘النصوص الكبرى’، “إذ تحولت نصوص أدباء كبار أمثال سفوكل وشكسبير وغيرهما”، حسب المنيعي، “إلى نصوص فرجوية بعد أن تمت إعادة كتابتها وفق قناعات فنية أو تصورات إخراجية تخضع النصوص الأصلية لعملية اقتباس أو تقطيع أو إضافة مشاهد أخرى لكي يكتسي العمل المسرحي أبعاده في العصر الحاضر.”[54]وخلاصة القول في هذا المضمار هي أن الترسانة النقدية لحسن المنيعي تتجدد باستمرار، وهي بهذا الصنيع تنئ بنفسها عن الاستكانة لما هو جاهز.
نقد النقد
يتميز نقد النقد بالمضاعفة والحوارية التقعيرية، لكونه ببساطة، لغة واصفة للغة واصفة بدورها. لقد كتب المنيعي عن مجموعة من الكتابات النقدية والتنظيرية العربية الحديثة واستنتج على أن مشكلة النقد العربي الحديث تكمن في انقسام “هويته بين موروث الماضي ومنجزات النظرية الغربية الراهنة… كما أن مراوحته بين فعل التغريب والتأصيل هي التي جعلته يعيش أوضاعا متعددة تقوم على الإيجابي والسلبي.“[55]كما اهتم المنيعي بالمنجز النقدي الغربي والعربي والمغربي على حد سواء. واعتبر نقد غالي شكري “يتأرجح بين التفسير الاجتماعي والإيديولوجي التاريخي. ومع أنه يهدف إلى إبراز البعد الفكري للنتاج (أي المضمون)، فإن صاحبه لم يلتزم بأهم معيار تركز عليه الجمالية الموضوعية للواقعية الاشتراكية، وهي العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون.”[56] وهو بذلك يتجه صوب تجريد الأدب من بعده الجمالي للتأكيد على بعده الاجتماعي. أما على الراعي فقد اعتبر “وظيفة الناقد المسرحي”، حسب المنيعي، “رسالة وطنية واجتماعية إلى درجة أنه رغم انفتاحه على التجريب وثقافات العالم، فقد ظل يدعو إلى إيجاد صيغة مسرحية نابعة من التربة العربية.“[57] ومن أهم خلاصات قراءة المنيعي لنموذج محمد مندور، الناقد الأدبي والفني الذي اهتم بالنص وقيمته الأدبية كما اهتم بإنجازه فوق الركح، هو إقراره بأن هذا الأخير “كان ناقدا رائدا ذا ثقافة واسعة خولت له استيعاب النظرية الأرسطية التي عمل على شرح أبعادها الفكرية والفلسفية للقارئ العربي إلى درجة أنه لم يتسامح مع من يتعامل معها من المسرحيين دون التعمق في جوهرها الإنساني والمعرفي.“[58]
لقد قام المنيعي بتفكيك المسارات الماهوية في التنظيرات العربية ونبه إلى انكفائها الذاتي واختلافها المتوحش وهي تحتفي بالعودة إلى نقاء الفرجة العربية؛ كما استحضر مجموعة من الكتابات النقدية العربية المتفاعلة مع إشكالية توظيف التراث في المسرح، مثل كتابات فاروق أوهان، ومحمد المديوني، وجلال العشري، وعبد الرحمان بن زيدان، ومصطفى الرمضاني، وعبد الواحد بن ياسر، وعز الدين بونيت، وحسن يوسفي، وسعيد ناجي، وخالد أمين…. وبعد استقراء مجموعة من المتن النقدية خلص المنيعي على أن “هذه الآراء، وغيرها كثير، تؤكد لنا أن تأصيل المسرح العربي والمغربي على السواء لم يكن قائما في الغالب على وعي بموضوعه خصوصا على مستوى العلاقة بالأشكال الغربية ونظرياتها التي تخضع في بنائها لتطور مرجعي، ولأبحاث مختبرية وفكرية تفرز جماليات العرض المسرحي وطرق تلقيه. ومن ثم، فإن الدعوات المؤسسة لصيغة مسرحية عربية لم تتمكن من خلق تيار مسرحي قار… وإنما خلف الكثير من المواجهات والمواقف المضادة.”[59]
بالنظر إلى طبيعة الثقافة المغربية ونوعية المخاضات السياسية والثقافية التي شهدها المغرب خلال فترة السبعينات، يمكن القول بأن الكثير من المسرحيين المغاربة عثروا على ضالتهم في مفهوم التغريب البرشتي. ولكن الاهتمام البالغ بمسرح برشت قد أدى إلى تشويه بعض آرائه وذلك عبر فصلها عن سياقاتها.[60]وواقع الحال أن أغلب الإستجلاءات البرشتية في المسرح المغربي لم تفلح، في حقيقة الأمر، في تحقيق فرجة مسرحية يتعالق فيها المعرفي والجمالي، الإيديولوجي والفرجوي، مع استثناءات قليلة بين الفينة والأخرى نذكر من بينها مسرحية “بوغابة” لفرقة مسرح اليوم الرائدة. وهذا الخلط راجع أساسا إلى كون مسرح الهواة قدم لنا “مؤلفين أكثر مما قدم لنا مخرجين”، ومارس التنظير عبر مجموعة من البيانات الفضفاضة أحيانا، والتي لم تخرج من معطف التجربة المختبرية بقدر ما كانت تعكس مواقف انتقائية، اختزالية وأحيانا انفعالية وإقصائية[61]. وهنا أيضا، نبه الدكتور حسن المنيعي في أكثر من مناسبة لخطورة اختزال المنظومة المسرحية البرشتية في الصبغة التربوية الصرفة من خلال نقده لمجموعة من التأويلات النقدية الخاطئة التي أساءت لبرشت: “خطأ آخر يرتكب في حق برشت وهو الاعتقاد بأنه كان مدافعا ومقننا لفن ذي صبغة تربوية يهدف فقط إلى حشد أذهان المتفرجين… بيد أننا نراه يصرح بأن اللذة التي تملكنا أثناء المشاهدة هي كفيلة لبيان غرض المسرح.”[62]بإبرازه لجماع الأخطاء التي ارتكبت في حق برشت، فقد مارس المنيعي مرة أخرى نقد النقد.
خلاصة أولية:
يتبين من هذا الاستعراض الموجز لأبرز معالم التجربة النقدية للدكتور حسن المنيعي أنه بحق ناقدا موسوعيا. ولعل اشتغالنا اليوم ضمن المركز الدولي لدراسات الفرجة بطنجة هو استمرار واستشراف لمشروع حالم صاغ معالمه الدكتور حسن المنيعي المؤسس الحقيقي لحقل دراسات الفرجة بالمغرب، والأب الروحي للنقد المسرحي المغربي. فشكرا لك أيها الرجل المعطاء.
الإحالات:
[1] أبحاث في المسرح المغربي (1974)- تراجيديا كنموذج (1975)- آفاق مغربية (1981)- نفحات عن الأدب والفن (1981)- هنا المسرح العربي… هنا بعض تجلياته (1990)- المسرح والارتجال (1992)- المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة (1994)- المسرح والسيمولوجيا (1995)- دراسات في النقد الحديث(1996)- الجسد في المسرح (1996)- قراءة في الرواية (1996)- عن الفن التشكيلي (1998)- المسرح مرة أخرى (1999) – عن النقد العربي الحديث ومقالات أخرى(2000)- أبحاث في المسرح المغربي (الطبعة الثانية)- المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة (2002)- المسرح فن خالد (2003)- قراءة في مسارات المسرح المغربي (2003)- ويبقى الإبداع (2008)- المسرح الحديث إشراقات وخيارات (2009)- النقد المسرحي العربي إطلالة على بدايته وتطوره (2012)… شعرية الدراما المعاصرة (2017).. كما لحسن المنيعي العديد من المساهمات في مصنفات جماعية والمجلات الدولية والعربية والمغربية … بالإضافة إلى كتاب مشترك مع خالد أمين تحت عنوان المسرح ورهاناته (2012)…
[2] بشير قمري، “طوق الحمامة المعقود”، ضمن المصنف الجماعي “حسن المنيعي ومسارات النقد المغربي والعربي (طنجة: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2011) ص. 23.
[3] عبد الحميد عقار، “حسن المنيعي الناسك المتنسك”، ضمن المصنف الجماعي “الفرجة والتنوع الثقافي”، (طنجة: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2008) ص. 29.
[4] عبد الله شقرون، “شهادة في حق حسن المنيعي”، ضمن كتاب “الفرجة والتنوع الثقافي”، ص. 11.
[5] محمد المعزوز، “الكتابة النقدية عند حسن المنيعي: من أجل نقد شامل”، ضمن الكتاب الجماعي “حسن المنيعي ومسارات النقد المغربي والعربي”، ص. 34.
[6] محمد الكغاط، “حسن المنيعي والنقد الشامل”، ضمن المصنف الجماعي “المتابة النقدية عند حسن المنيعي” (فاس، منشورات اتحاد كتاب المغرب، 1995)، ص. 15.
[7] محمد أمنصور،”حسن المنيعي ناقدا وروائيا”، ضمن الكتاب الجماعي “حسن المنيعي و مسارات النقد المغربي والعربي”، ص. 12.
[8] محمد أمنصور، “جمالية حسن المنيعي: الإنسان، الفن، التاريخ”، ضمن المصنف الجماعي “الفرجة والتنوع الثقافي” (طنجة: منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2008)، ص. 25.
[9] ضمن أية ممارسة دلالية، فإنه حيثما يوجد المعنى يوجد الاختلاف؛ ذلك أن الاختلاف متضمن في “السيميوزيس”. إن تسمية دريدا لهاته الكلمة متضمنة في أي فعل دال، كما تلاحظ ذلك بربرا في تقديمها للترجمة الإنجليزية لكتاب دريدا، هي الاختل(ا)ف differance. فانطلاقا من الفعل الفرنسي Différer الذي يعني في آن واحد الإرجاء والانتشار في المكان والزمان. يقصد من سمة التردد التي توجد بين هاته المناحي الأربع المختلفة خلخلة الرغبة الفلسفية في الأحادية. ويلوح أن الكلمة تنزع نحو وصف بنية الدلالة التي يفهمها دريدا على أساس الاختلاف (كما هو الشأن عند سوسير) وdeferal، والإرجاء، لأن الدال يرجأ حضور المدلول. من هنا، فإن الاختل(ا)ف تعبير جديد لدريدا، لأنه بديل عن الأصل والحضور، وهو يتضمن أيضا معنى الإرجاء. من ثم، يشتمل التعدد الدلالي للمفهوم التباين والانتشار والإرجاء. إن الاستلزامات الثلاثة هي في الحقيقة جوانب وظيفية في برهان دريدا. وفق كيفية مماثلة؛ فإن (ا) المكتوبة خطأ بقصد وغير المسموعة بكيفية دالة تعين حضور الغياب غير المختزل عندما تنطق بصوت مرتفع.
[10] محمد المعزوز، مرجع سابق، ص. 32,
[11] طه عبد الرحمان، فقه الفلسفة -1- الفلسفة والترجمة؛ المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط. 1، 1995، ص. 262. وفي كتابه الموسوم روح الحداثة: مدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، أوضح طه عبد الرحمان الفرق بين تصنيفاته للترجمة: “الترجمة المنطقية” و”الترجمة الدلالية” و”الترجمة التركيبية”، عن علاقته بالتصنيف الذي وضعناه من قبل في كتابنا: فقه الفلسفة، الجزء الأول، الفلسفة والترجمة والذي يتكون من “الترجمة التحصيلية” و”الترجمة التوصيلية” و”الترجمة التأصيلية”؛ الحقيقة أن الصنفين متقاربان، بل متداخلان، إذ التصنيف الحالي يتعلق بمجال الفكر على وجه العموم، وقد روعي في وضعه اعتبار درجة الاستقلال المسؤول الذي يتمتع به المترجم؛ في حين أن التصنيف السابق يتعلق بالمجال الفلسفي خاصة”. رح الحداثة: مدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، ط. الثانية 2009: ص. 169.
[12] حسن المنيعي، الجسد في المسرح (طبعة مزيدة ومنقحة)، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2010، ص. 12.
[13] حسن المنيعي، المسرح والسيميولوجيا، منشورات سليكي إخوان، 1995، ص. 6.
[14] حسن المنيعي، ويبقى الإبداع ، طنجة، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2008، ص. 48.
[15] المرجع نفسه، ص ص. 43-44.
[16] حسن المنيعي، “المسرح في الجامعة”، ندوة مجموعة البحث في المسرح والدراما التابعة لكلية الآداب بتطوان، 27 مارس 2011، ص. 5.
[17] المرجع نفسه، ص. 7.
[18] حسن المنيعي، هنا المسرح العربي، هنا بعض تجلياته، ص.
[19] حسن المنيعي، النقد المسرحي العربي: (إطلالة على بدايته وتطوره)، طنجة، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، طنجة، 2012. ص. 72.
[20] حسن المنيعي، أبحاث في المسرح المغربي، مكناس، صوت مكناس، 1974. ص. 29.
[21] عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت 1973: ص. 286.
[22] محمد الكغاط، “حسن المنيعي والنقد الشامل: قراءة في كتاب ‘المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة'”، ضمن المصنف الجماعي “الكتابة النقدية عند حسن المنيعي، فاس، اتحاد كتاب المغرب، ص ص 12-13.
[23] حسن المنيعي، هنا المسرح العربي… هنا بعض تجلياته، 1990، ص ص. 75-76.
[24] حسن المنيعي، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، ص. 25.
[25] عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، ص. 86.
[26] حسن المنيعي، “أفق تحديث الفرجة المغربية”، ضمن المصنف الجماعي (الفرجة بين المسرح والأنثروبولوجيا)، منشورات كلية الآداب بتطوان، 2002، ص. 14.
[27] حسن المنيعي، المسرح مرة أخرى، ص. 50.
[28] – الدكتور حسن المنيعي، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة (فاس: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز، 1994) ص. 50.
[29] حسن المنيعي، المسرح مرة أخرى، ص, 54.
[30] الطيب الصديقي، حوار مع حسن حبيبي، الطيب الصديقي قصة مسرح، الدار البيضاء، دار النشر المغربية، 2011، ص. 106.
[31] حسن المنيعي، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، ص. 93.
[32] إن القوة المتضمنة في مشاركة جمهور الحلقة قد وجدت أحسن تفسير لها في نظرية فيشر ليشت تحت عنوان autopoetishe feedback-schleife “الحلقة المرتدة لتبادل الأثر”. فالتجربة الجمالية لعرض ما، حسب فيشر ليشت، لا تعتمد فقط على العمل الفني من حيث هو أداء لفاعلين فوق الخشبة، “بل أيضا ردود فعل المشاركين المتواجدين في الطرف المقابل للمؤدين.” من منظور فيشر ليشت، يمكن اعتبار فرجة الحلقة نموذجا مثاليا للتوليد الذاتي الغير متناهي من حيث مراوحة تبادل الأثر بين صانع الفرجة ومتلقيها. تتيح كثافة الجمهور في شكل دائري محيط بالمؤدي من كل الجهات درجة تداول الطاقة فيما بينهم والحليقي (صانع فرجة الحلقة) من جهة أخرى. ولعل هذا التدفق المتواصل للطاقة هو ما يجعل الحلقة أيضا تجربة جمالية مكثفة وفريدة.
[33] ح. المنيعي، ويبقى الإبداع : دراسات عن المسرح والأدب في المغرب، طنجة، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2008، ص. 16.
[34] حسن المنيعي، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، ص. 23.
[35] حسن المنيعي، النقد المسرحي العربي: (إطلالة على بدايته وتطوره)، طنجة، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، طنجة، 2012. ص. 73.
[36] حوار مع الطيب الصديقي جريدة المستقبل 27 ماي 2000
[37] أنظر مقالة: تجديد البساط، ج. الاتحاد الاشتراكي 26/1/1997
[38] – عبد الله العروي، الايديولوجيا العربية المعاصرة، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1999، ص ص، 209-210.
[39] عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج، منشورات عكاظ، الرباط 1990، ص. 8.
[40]عز الدين المدني، ديوان الزنج، الدار التونسية للنشر، 1972.
[41] حسن المنيعي، المسرح المغربي من التأسيس إلى صناعة الفرجة، ص. 118.
[42] حسن المنيعي، النقد المسرحي العربي: (إطلالة على بدايته وتطوره)، ص. 7-8.
[43] ح المنيعي، من التأسيس إلى صناعة الفرجة، ص. 113.
[44] ح. المنيعي، ويبقى الإبداع، ص. 105.
[45] المرجع نفسه، ص. 64.
[46] ح. المنيعي، آفاق مغربية، ص. 17.
[47] ح. المنيعي، ويبقى الإبداع، ص.22.
[48] المرجع نفسه، ص. 25 .
[49] المرجع نفسه، 20.
[50] المرجع نفسه، ص. 26.
[51] حسن المنيعي، المسرح الحديث، ص. 23.
[52] المرجع نفسه، ص ص. 94- 95.
[53] المرجع نفسه، ص. 77.
[54] المرجع نفسه، ص. 76.
[55] حسن المنيعي، عن النقد العربي الحديث ومقالات أخرى، مكناس، السندي، 2000، ص. 32.
[56] حسن المنيعي، النقد المسرحي العربي(إطلالة على بدايته وتطوره)، ص. 42.
[57] المرجع نفسه، ص. 61.
[58] المرجع نفسه، ص. 38.
[59] المرجع نفسه، ص. 92.
[60] لقد اختزل برشت في ما أسماه بالمسرح الملحمي، بينما المؤسسة المسرحية البرشتية قد تطورت منذ مرحلة Lehrstück، إلى المسرح الجدلي مرورا ب “المسرح الملحمي”.نلاحظ أيضا أن نظرية برشت قد اختزلت في الأرغنوم الصغير والذي لا يعكس شمولية النظرية. وقد تكرر نفس الخطأ مع ستانيسلانسكي حيث اختزل هو الآخر في جزء من إعداد الممثل وليس المشروع الكامل.الملاحظة الثالثة تتعلق بصلب النظرية البرشتية وهي V–effekt، لقد وظفت تقنيات التغريب في المسرح المغربي إلى حد المغالاة، فاتخذت منحا سلبيا. وفي غالب الأحيان كان يتم توظيف هذه التقنية عكس مستلزماتها التقنية، الجمالية، والفلسفية، والسياسية، وعكس أهداف برشت المعلنة. لقد أصبحت هذه التقنية تمارس كغاية في حد ذاتها عوض كونها وسيلة تمكن المتلقي من التأمل العقلاني فيما يجري فوق الركح.
[61] – أمثل لهذا بموقف الاحتفالية من برشت: “إن القول بالتغريب هو أكبر كذبة عرفها تاريخ المسرح الحديث، والدليل على عقم هذه الصيغة هو أنها لم تعط –لحد الآن- أي ممثل كبير، كما أعطت مثلا منهجية ستانيسلافسكي، أو غروتوفسكي.” (برشيد، المسرح الاحتفالي، ص. 115)؛ ” وإذا رجعنا إلى برشت سنجده يعتمد في تعليمه على بيداغوجية عتيقة، وهي بيداغوجية تعتمد على تلقي المعارف الجاهزة … فبرشت يحول المتلقي إلى وعاء يفترض فيه أنه فارغ لذلك يحاول شحنه بما هو شائع من الأفكار التي تنتمي إلى القرن 19″ (برشيد، المسرح الاحتفالي، ص. 105″؛ ” فالتعليم لا يمكن أن يخلق إلا الاستعراض النرجسي، استعراض الذات العالمة لمداركها وعلمها، إنه إطلالة على الناس من فوق، ولذلك لا يمكن أن يعطينا في النهاية إلا مسرح أخلاقي” ( د.عبد الرحمان بن زيدان، قضايا التنظير للمسرح العربي، ص. 303)…
[62] حسن المنيعي، المسرح والارتجال، ص. 101.