مسرحية «اعترافـات زوجيـة» .. اكذب كـي أعرفك/ بديع منير صنيج
مقاربة جديدة لمقولة سقراط الشهيرة «تكلم كي أراك» اعتمدتها مسرحية «اعترافات زوجية» لمؤلفها الفرنسي «إريك ايمانويل شميت» التي تُعرض على خشبة القباني بتوقيع المخرج «مأمون الخطيب»، إذ باتت «اكذب كي أعرفك» بديلاً، أو ذريعة للكشف عن الضغائن والمشاعر المتوارية في أعماق نفس الزوجين «جمال الساحلي.. مالك محمد» و«لينا.. رنا جمول»، بحيث إن لعبة فقدان الذاكرة التي أتقنها الزوج أصبحت بمنزلة ضوء كشَّاف عن الرغبات الدفينة لدى الزوجة، ومسباراً للغوص في الجانب النفسي لتلك العلاقة التي جمعتهما على مدى عشرين عاماً، وذلك عبر معركة كلامية تتحول في بعض الأحيان إلى مرافعة عن الحقوق والواجبات، مع استحضار ماضي الشخصيات وإدغامه المتقن بحاضرها، ومستقبلها في بعض الأحيان، لدرجة نستشعر معها أننا أمام نص تلعب فيه هندسة الزمن دوراً كبيراً، فضلاً عن تقنية الإخفاء والكشف، المداراة والإفصاح، الكرّ والفرّ، الإقدام والتراجع، وغيرها من المتناقضات التي تخلق توتراً كبيراً، وفي الوقت ذاته تُحقِّق إيقاعية سريعة للعمل الذي تتصاعد فيه المواقف، وخاصة مع المراجعة المستمرة لنظريات الزوج الحياتية، تحت ذريعة فقدانه الذاكرة، ومحاولة سد الفجوة في استحضار الواقعة التي أودت به إلى المستشفى، لنستنتج أن الزوجة تكذب هي الأخرى باستمرار بغية الوصول إلى مثالية في العلاقة المستقبلية بزوجها، لاسيما مع تقدُّمها في العمر، وانخفاض مستوى ثقتها بنفسها، فضلاً عن غيرتها المتأججة من صديقاته ومعجباته بسبب كونه كاتباً للروايات البوليسية، وأيضاً بغية تخفيض مستوى نرجسيته التي دفعته لأن يهدي بعض كتبه إلى نفسه، إذ رغم اقتناعها وتصريحها بأن الحياة معه جحيم لا يطاق، إلا أنها تؤكد عدم قدرتها على العيش من دون لهب ذاك الجحيم، وعندما يتوتر الصراع معه، تُعلِن عن نظريتها القائلة: «طالما أنت بتحب حالك وأنا بحب حالك، معناها نحنا متفقين»، كنوع من مازوشية، ويأس متأجج كانت تُداريه بالشُّرب، وإخفاء قناني الفودكا والنبيذ، لتُطرَح أمامنا مسائل العلاقات الزوجية بما فيها من حب، وحميمية، وواجب، وتنازلات، وغير ذلك من خلال تعرية متتالية للمواقف تبلغ ذروتها مع انكشاف كذب الطرفين، ومحاولة كل منهما أن يروِّض الآخر ويكيِّفه حسب هواه. الرؤية الإخراجية المميزة لـ«مأمون الخطيب» برزت من خلال الفهم الدقيق لهندسية هذا النص، وتداخلاته الزمنية، ولتكاملية الحدث المسرحي الذي لا ينتهي إلا في ختام العرض، فضلاً عن جماليات ضبط إيقاع الممثلَيْن، ودقَّة رسم حدود التَّماس والتشابك بينهما، لاسيما أن محاولات خلق الانجذاب النفسي كان يوازيها لهفة إلى التجاسد، تتعزز من خلال كل مفصلة للحدث مع موسيقا «إياد جناوي»، وترافُق ذلك مع خلع قطعة من ملابس كلا الزوجين مرة بعد أخرى، وتعليقها على أطراف المكتبة المؤلفة من قضبان معدنية متآلفة مع بقية أثاث الغرفة (سينوغرافيا: نزار بلال وريم الشمالي) لتوحي بأجواء سجن الحياة الاجتماعية والحبس داخل بعض الأفكار، وكأننا أمام هِدَنٍ تُطفئ لظى النَّفس، فتخفت معها إضاءة «ريم محمد» لتعود فتتأجج مع الإمعان في نبش مواضع الخلاف كاتهام «لينا» لزوجها بأن لديه مركب نقص ناجم عن عقدة اجتماعية أكثر منها نفسية، وغيظها المُتكرِّر من روايته «جنايات زوجية صغيرة» التي يقول فيها ما معناه إن الحياة الزوجية هي جمعية قتلة، وإن الزوج يتخذ عشيقة ليبقى مع زوجته، في حين أن الزوجة تتخذ لها عشيقاً للهروب من زوجها. هنا نلاحظ ذروة إجادة الممثلَين «رنا جمول ومالك محمد» في تقمُّص شخصيتيهما المُركَّبتين، والغوص عميقاً في حربهما الكلامية، ومكاشفتهما التي أخذت في بعض الوقت شكل التحليل النفسي، مع إتقانهما لتطويع اللغة باعتبارها وسيلة للتحرر من القلق والتوتر أحياناً، بينما كانت في أوقات أخرى سبباً لذاك الخلاف، ومُحفِّزاً لمزيد من القلق، الذي انعكس في سلوكهما، بحيث إن المتلقي سيقع في فخ تلك اللغة كلاماً وجسداً، وسيشعر معها بأنه طرف فعلي في تلك المعركة غير المنتهية، لاسيما مع دراماتورجيا «آنا عكاش» التي نجحت في تبييء نص «عاشق الفلسفة» وتصديره كعمل مسرحي ينتمي إلينا تماماً، ونتفاعل معه كمعنيين حقيقيين بهذا الحدث الإنساني، مثلنا مثل علي النوري «أبو رضوان» الذي ما زال يبتسم ملء روحه مع كل عرض جميل يمر على خشبة القباني.
bsnaij@yahoo.com