الملحمة التونسية “خضراء – السيرة الهلالية”..ايقونة مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي 2018/ رسمي محاسنة (الشارقة)
متعة بصرية ..إسقاط على الواقع…و احتفاء بالمرأة التونسية.
حكاية شعبية هي الأكثر شهرة في الوجدان العربي، تمت اعادة صياغتها مع الحفاظ على العمود الفقري لها، للبناء عليه ابداعيا بالشكل الافقي والعمودي، الروائي “المعاصر” الذي يتماهى مع جذور السيرة، الصراع الدرامي، و المشهدية البصرية، المجاميع، والغناء وموسيقى العرض، الازياء وأداء الممثلين، تأثيث فضاءات المسرح الصحراوي في “الكهيف”،….كل ذلك واكثر، يمسك المخرج التونسي المبدع ” حافظ خليفة” بكل خيوط الملحمة، لتكون ” خضراء – السيرة الهلالية” هي أيقونة الدورة الرابعة لمهرجان الشارقة الصحراوي 2018.
قام المخرج” حافظ خليفة” بتطويع هذا الفضاء لخدمة أفكار وصراع الحكاية، حيث وضع في المنتصف “بئر الماء” بدلالة جذب الماء للبدوي، واستقراره في المكان، ووظفه من جهة أنه المكان الذي يلتقي فيه الجميع، من مختلف الاعمار والمواقع الاجتماعية، والمواقف ايضا، وهذا الخليط هو المعبر عن التنوع المحكوم به أي مجتمع، ثم يضع على الطرف منازل”بني هلال”، و في العمق بعيدا في الاعلى، قصر”الزناتي خليفة”، بما يحمله هذا الموقع من اطلالة السيطرة والهيمنة، والاحساس بالقوة والعظمة، واقتطع المخرج مساحة للفرسان، في المناوشات الفردية والجماعية، وفي حالة نزوح وارتداد المجاميع مع خيلها، بحركات وسرعات متفاوتة حسب إيقاع العرض.
“الراوي” – المعاصر- يؤسس للحكاية، وبأسلوب الرواي المتمكن يستحضر الذاكرة، عن تلك الأيام بكل تقلباتها، واحداثها و رموزها وشخصياتها، تلك الغزوات التي حصدت الارواح والابطال، هذه الارهاصات التي تلد منها الفرسان،ثم اغنية تسير على إيقاعها البيارق الخضراء، والشباب – فرسان المستقبل – يتدربون، ووقع سرعة الخيل يعطي المكان مزيدا من المهابة والرهبة، بمرافقة غناء ايقاعي مدروس .
على الجانب الآخر” الزناتي” بسطوة سلطته،وشراهته بالامتلاك، وغطرسته وعنجهيته، يقرر ان يفرض على الهلاليين “ضرائب”،واهانتهم بالاستجابة لمطالبه. ليكون الرد من خلال “الجازية الهلالية” التي ترفض الخضوع، وتحرض رجال القبيلة، وتستنهض الهمم، ويقيمون الاحتفالات على إيقاعات تمجيد المرأة التونسية، وتمر الفارسة: اماني”..تحمل العلم التونسي، وهي على ظهر الجواد بثبات وقوة ارادة..وعنفوان.
لكن “الزناتي” بغطرسته وجبروته، يغزو الديار،وتقع بين يديه الانعام…ويأسر الرجال، وهنا يظهر دور”الجازية” مرة اخرى، بحنكتها، وحكمتها، وثقة الجميع بها، وقدرتها على قراءة الأحداث، وتقديرها للعواقب، حيث تقترح إرسال فارس يحمل رسالة فيها تسوية تتضمن الطلب من “الزناتي” اعادة الرجال وما أخذه خلال الغزو.
وفي مشهدية مدهشة يصل العرض إلى نقطة الحسم،وقتل “الزناتى”،ودور الجازية من جديد، “ما بين كل خطوة..وخطوة…يكون للجازية أثر”.
كانت “تونس” حاضرة في العرض، والسيرة الهلالية هي الخلفية لحكاية تونس المعاصرة، فهذا الزناتي بكل تفرده بالقرار، وسطوته، وإفقار الناس بالضرائب،والحضور القوي للمراة التونسية، كل هذا إسقاط على الواقع الحالي.
الاغنية والموسيقى التي تنتمي للتراث حاضرة بقوة في العرض،حيث ثلاث أغنيات من ابداعات” لطفي بشناق” توزعت على مدار العمل وفق الضرورة الدرامية لها، بحيث لاتكون ذات دلالة جمالية فقط، انما معرفية تحتفي بتونس مرة، وبالمرأة التونسية مرة اخرى.
يتكيء المخرج “حافظ خليفة” على الإرث الذي تركه الأديب التونسي الراحل” محمد المرزوقي”، فالعمل تحية لهذا الكاتب والباحث الذي نبش في ذاكرة البادية، بتاريخها وأحوال ناسها، وأنماط المعيشة فيها، والنماذج الإنسانية التي احتضنتها، والبطولات التي شهدتها، والسيرة غنية جدا وشخوصها وأحداثها ومفرداتها، وربما كل هذا البهاء بسبب “تونس” المكان والبيئة الحاضنة والقابلة لتنوع الثقافات والأجناس.
ويضع الكاتب ” حاتم الغرياني، والشاعر بشير عبدالعظيم”،نصا دراميا متماسكا،يحمل المرونة التي تؤهله لاستيعاب وتوظيف مجمل عناصر العرض المسرحي، التي أمسك بها المخرج” حافظ خليفة”، بوعي عميق لاجواء الحكاية القديمة، وعكس ظلالها على الواقع الراهن، في ملحمة فرجوية، فيها الكثير من الدهشة بهذا التناغم ما بين مفرداتها، و بشكل خاص هذا الاداء العميق للممثلين، الذين أيقظوا روح المكان، بهذا الحضور، والحب فيما بينهم، لحرصهم على ان يظهر العمل و”تونس”، بابهى صورة.
وكما كانت الاغنية والموسيقى حاضرة بقوة، حيث ثيمات موسيقية، قادمة من عمق التراث التونسي،ل”د.رضا بن منصور” الذي جعل من الموسيقى واحدة من مفردات التعبير عن المراحل المختلفة للعرض، فإن الازياء من تصميم “اّمال الصغير”، كان لها دور كبير، وأن غلبة اللون الاخضر، وبروزه،في دلالة على “تونس – الإنسان والمكان” بكل ما يحمله اللون الأخضر من حياة ونماء، واستمرار نحو المستقبل، واستخدام الاضاءة الموظفة لخدمة العرض، خاصة اللون الاخضر والاحمر في عمق المسرح، وكذلك الرايات الحمراء والخضراء، وتمييز المقاتلين كل حسب انتمائه،وهذه القناديل التي حلقت في الأجواء مع نهاية العرض، هي نافذة أمل ويقين بأن كل هذا الظلم والقهر واستبداد الحكام هو طارئ على تونس، والمستقبل لأجيال تونس القادمة.
ونسجل للمخرج هذه الادارة المميزة للمجاميع، وتنفيذ المعارك الفردية والجماعية،واتقان الحركة، والأجواء المثالية التي خلقتها حركة الخيل، وبشكل خاص الفارسة”أماني” التي خطفت الانظار بفروسيتها.
وقدم المخرج رؤاه الفنية والجمالية،فكان هذا التواصل ما بين الفضاء المفتوح ومابين المتلقي، الذي لم يشعر بأنه كان بعيدا عن المسرح، وهو مايمكن ان يؤسس عليه اطارا نظريا لهذا النمط من المسرح،للانطلاق أكثر نحو ترسيخ مبادرة الدكتور الشيخ القاسمي، حتى لايبقى هذا الفضاء الجميل متروكا لاجتهادات وتجريب، وحتى تكون الأعمال المشاركة في الدورات القادمة، وفق اشتراطات وخصوصية المسرح الصحراوي.
“الخضراء” ملحمة، فيها المشهدية البصرية الممتعة، والحكاية المتماسكة، والأداء العميق، والموسيقى التي زينت العرض جماليا ودلاليا.
التمثيل للمبدعين ” دليلة مفتاحي، ونادرة لملوم، وصلاح مصدق، وسهام مصدق، وصالح الجدي، ونور الدين العياري، ومحمد توفيق الخلفاوي، والفارسة اماني عبد اللاوي” وكل الذين شاركوا بالملحمة.