نص مسرحي موندراما: " أحلام ٌ صلعاءْ"/ تأليف: أثير الهاشمي
المسرح ( بيت صغير ـ جداره من حديد الجينكو ، بقايا البناء فيه آيل للسقوط)
الشخصية : عامل في البلدية ..
( يخاطب رأسه ) أنا .. أشبهكْ يا رأسي ؟ !! هل رأسي يشبهني ؟! ..(يتلمس رأسه) لا أعرف هل هذا رأسي .. أم لا ؟!! ( قالها بصوت عال ٍ ثم صمت ) ..
ربما أصبحت مجنوناً .. صرتُ أتحدث مع نفسي ! منذ أن عُينت عاملا في البلدية لليوم ، ربما لأنني دائما ما أُدخل رأسي المستمر داخل البالوعة الضيقة فَجُننت .. ربما .. كل شيءٍ جائز ..
(برهة) ..
أنا جائع .. ( يكرر ) جائع !
( أخذ يتفقد قدور الطعام ، فتح القدر الأول وجده فارغا ، الثاني فارغا أيضا ، تأوه وراح باتجاه الثلاجة ، فتحها بعنف ، لم يجد بها سوى بصلتين يابستين ، ورغيف من الخبز ، وبقايا من التمر ، ضحك بهستيريا ، وأخذ رأس البصل ، ورغيف الخبز ، وهو لم يزل يضحك بصوت عال ، ضرب رأس البصل اليابس بجبينهِ ، حتى انفجر الرأس إلى نصفين ، انزعج من رائحة البصل ، لكنه استمر بتقشيره ، ووضعه في رغيف الخبز ، وبدأت أسنانه تطقطق بالأكل ، وراح يضحك من جديد )..
وهو يتحدث مع النصف الآخر من البصل :
تصوري يا بصلة . عفوا أقصد يا نصف بصلة ، أنني ما أكلتكِ إلا لأنني جائعا ، عفوا لا تفهمي كلامي بالخطأ ، فأنا أفضل أكلك ِ مع السمك . أو مع لحم العجل أو الخروف لا فرق ، أو حتى مع الرز أيضا تكونين لذيذة جدا ، أما الآن ، فأنا لا أتذوق إلا حرارة تحرق لهاتي ..
( برهة )
ها .. لا تزعلي مني رجاء أيتها البصلة ، عفوا يا نصف بصلة ! فأنا مجبر على أكلكِ ، لأن زوجتي اللعينة تملئ المكان بالشخير ، ولا تبالي لزوجها ماذا يأكل .. أها عفوا ليست هي السبب . بل أنا . ستقولين كيف ، أنا سأجيبكِ .
( يكمل بحزن وألم )
أنا عامل في البلدية ، أعمل من الصباح الباكر إلى نهاية الظهر دون أجر ، ستقولين .. كيف أيضا ؟! ولماذا ؟ !
سأجيبكِ ، نعم فقط أنصتي ولا تغضبي رجاءا ، لا تكوني عصبية ، فالعصبية ستورثك الفقر ..
( ضحك بقوة على نفسه ، وهو يصرخ ) :
العصبية ستورثك الفقر ؟ ! (بسخرية) وهل أنت ِ غنية أيتها البصلة ، أقصد يا نصف البصلة ؟ ! أنت ِ طعامنا نحن ، الفقراء ، عمال البلدية ، نعم عمال البلدية ، ألا تصدقين أنني أعمل من دون أجر ، بصفة عامل أجر يومي ، لكن لم اتقاضَ أي أجرٍ للآن ، مرة بحجة التشقف ، ومرة يخبروننا بأننا عقود ، ومرة الوزير ( الله يسلمه ) سرق الخزينة وهرب !!
( يحزن أكثر ، وهو يكمل حديثه بعد برهة من الزمن ) :
صدقيني ، فهذه زوجتي لا تصدق أنني أعمل من دون أجر ، دائما ما تقول لي : كيف تعمل من دون أجر من الصباح إلى المساء ؟ ! العقل لا يصدق..
أضحك عندما تقول العقل لا يصدق !! وأخبرها بأنها مجرد امرأة بلهاء لا تعي من العقل شيئا !!
تقول لي دائما :
إن الحمار يعمل دائما مقابل أجر ، وأنت تعمل من دون أجر ، لالالالا أبدا لالالالالالا ، لا أصدقك ، فأنت أما مجنون أو تتغاضى عن الجنون !!
( يتوقف لحظات وهو يبتلع لقمته ) :
أعيدُ لها كلامي .. أنني لست حمارا ، بل رجلا يحمل أسفارا من دون مقابل ، أنا ما أريد إلا أضمن حياتنا ، ترجع وتضحك على كلماتي ، وتخبرني بأنني أحمق..!! تخبرني أن “عمري تعدى الأربعين” , ولا أملك أي ضمانٍ لحياتنا!
أخبرها بخوف وحذر .. الحكومة ليست أمينة بحجم ما نتصور ، فهم ليس لديهم مانع من إقالتي والإتيان بشخص آخر مكاني ..
لكنها تصر ، نعم تصر ..
هي تسخر مني وتخبرني ، وتسألني كيف تقيلني الحكومة!! ومن أي منصب ستقيلني ؟ ! هي تسخر مني .. لأن منصبي أقصد عملي مجاني !
نعم .. هي حقها .. فأنا أعمل من الصباح للمساء وأأتي إليهم فارغ اليدين ، إلا من رائحة المجاري العفنة!!
( برهة ) تصوري يا بصلة ، ( أهوووه ) عفوا يا نصف بصلة ، تصوري هي لا تصدقني ، حتى وإن حلفت لها ..
أحاول أن اتغاضى عن سماعها ، أحاول الهروب منها ، لكنها تسحبني بقوة ، تريد أن تحاسبني على فراغ اليدين ، أخاف منها ، حقيقة يا بصلة ( أهووووووووو ) عفوا يا نصف بصلة ، ( بيننا الكلام ) لا تخبري البصل عما سأقوله لك ِ ..
( يكلمها بصوت منخفض )
ها ، لا تخبريهم بأنني أخاف من زوجتي ، نعم ، أخاف منها ، فهي عصبية ، ربما .. ربما لأنها تأكل البصل كثيرا ، عفوا لا تفهميني بالخطأ ، ( يتذكر شيئا )
لكن أنا أأكل البصل كثيرا أيضا ، ولست عصبيا مثلها . !! شيء مضحك ، لا أعرف .. عموما سأكمل لك ِ الكلام ..
( فقط انتظريني قليلا لأبتلع اللقمة )
نعم .. تصوري أنا اليوم دخلت إلى حفرة عمقها أكثر من المتر ، نعم أكثر من متر ، لم يخرج من المجاري إلا رأسي . نعم إلا رأسي .. خرجت بعد أن نظفتها من فضلات الأغنياء ! نعم الأغنياء . أطمأني فهم لا يبحثون عنكِ ، ربما إلا في حالات الزكام . ها . عفوا هم لا يصابون بالزكام ، لأنهم لا يستحمون ، نعم ولِما الاستحمام ، فانا استحم كل يوم لأنني أدخل في حفر المجاري دائما ، أما مدير البلدية ، فهو يكتف بالتقاط الصور ، نعم رائحة عطره الفرنسي تنقدني بعض المرات ؛ لأنها تملئ المكان ، فتنسيني رائحة المجاري قليلا ..
( برهة ) أما ملابسه ليست رثة مثل ملابسي ، فهو لا يبالي لي إن متّ أو لا ، فعشرات العمال سيأتون بدلا عني .
( يتوقف قليلا هو يحاول مضغ لقمته ) نعم سأكمل لك ِ :
هو يغيّر حركاته كل لحظة للمصور من أجل التقاط الصور ، نعم رأيته وأنا في الحفرة ، ستقولين كيف رأيته وأنت في الحفرة ، نعم ، سأخبرك ِ ، فقط صبرك ِ علي ، رفعتُ رأسي طالباً أداة من أدوات العمل .. لأدخلها معي ، وجدت المدير واقفا وهو يبدل حركات رأسه ويديه ، وهو يتصنع أنه لا يعلم بأن المصور يلتقط له الصور ، بمعنى آخر ، سأصل بالفكرة أكثر ..
( يحاول التفكير ) ثم ( يكمل ) :
يعني ( صورني وأني ما أدري ) أيْ ( صورني وأني ما أدري ) ليس أنا ، ( صورني ) وأني ( ما أدري ) أقصد هو ، يصورونه ، وهو يجعل من نفسه أنه لا يعلم بالصور شيئا ..
( يتأوه ) وفي المساء سينشر الناشرون إنجازاته ، أقصد صوره في الفيس بوك ، عبر حركاته المتعددة أمام الكاميرا ، تحت شعار ( صورني وأني ما أدري ) .. أيِ .. أما أنا العامل المسكين ، الذي يتضور جوعا الآن ،(يصحح) لا عفوا ، أنا سأشبع من نصفك ِ الآخر ، نعم لأكمل لك ِ حديثي ..
( برهة ) أنا لا أحد يذكرني ، لأنني غير مشمول بشعار ( صورني وأني ما أدري ) ، أنا لم أرتدِ أثوابا تليق بالصور ، ولا رائحة فرنسية تغري المصورين كيف أجذبهم نحوي ، ليس لي إلا رائحة المجاري وهي تملئ قميصي ، ورائحة البصل تملئ فمي ..
أعذريني يا بصلة ، ( أيييييييييي ) عفوا يا نصف بصلة ، فلم يكن قصدي سوءا عنك ِ ، بل هم الزملاء في العمل يذمون رائحتي ..
( برهة من الوقت )
لم تزل أحلامنا صلعاء ْ .. نعم أحلام ٌ صلعاء ْ ، قالها لي صديقي المثقف ذات يوم : بأننا نحن الفقراء ستظل أحلامنا صلعاء ْ ، لا ينبت عليها شعر العافية ربما .. أبدا ً ..
( يصمت قليلا )
عموما ، ما رأيك ِ بما قلت .. ها تكلمي ؟ رجاء تكلمي ؟ هل استمر بالعمل ، وأضرب رأي زوجتي عرض الحائط .. ( ينتبه ) من أين لنا حائط ، مجرد ( حديد من الجينكو ) يحيطنا من كل جانب . نعم ، لا بد لي أن اسمع رأيك ِ يا نصف بصلة ..
( جيد ) الآن لفظت اسمك ِ بالشكل الصحيح . ما العمل اخبريني ؟ هل أصرّ على رأيي هذا ؟ ! أم أنصاع لأمر زوجتي الغبية ، وأترك العمل لنظل نأكل البصل على وجباتٍ ثلاث .
( يخفض صوته بخوف ) ستسمعني زوجتي وأنا أذمها . عندها ستمسكني من رقبتي .. ستمسح بي الأرض ..( يضحك بسخرية )
أرجوك ِ يا نصف بصلة لا تخبري أحدا أنني أخاف من زوجي .. ها .. جيد.. زوجتي الغبية دائما تفهمني بالخطأ ؟!!
( يفكر) إن سمعتني زوجي .. سأجد لها ألف عذر ,, سأخبرها ( يحاول التفكير) ..سأجيبها أنني كنت أكلم البصلة ، عفوا نصف البصلة هذه ، وأنا أكلمها عن آرائك ِ السديدة التي تكرميني إياها كل يوم ، لكنني زوج عاق ، لم اسمع كلامكِ ، أعترف بذلك ..
نعم .. أنا زوج عاق .. لأنني لا اسمع نصيحتها ، هي دائما تخبرني أن أفسخ عقدي المؤقت المجاني مع دائرتي .. لأعود إليها .. إلى زوجتي ذات العقد الدائم !
( برهة ) هي تريدني أن أبحث عن عمل آخر .. عسى أن نغير البصل إلى رز ، لحم ، فواكه ، ( أخذ يعدد ) ..
“تبا لك” .. كلمة دائما ما ترددها لي زوجتي تخبرني بأنني أعمل منذ سنين من دون أجر ، ونحن نأكل البصل بثلاث وجبات !!
سأخبرها .. نعم سأخبرها .. أنني سأذهب إلى مدير البلدية يوم غد ، وأخبره ، إنني سأظل معه ؛ لأنه وعدني بالتعيين والتثبيت حال فوزه بالانتخابات القادمة ..!!
- موسيقى / إظلام