"ريدلاين" و سقوط المقدسات المفتعله/ حمه سوار عزيز (أربيل)

“ريد لاين” من أهم العروض المسرحيه التى قدمت في مهرجان بابل الأكاديمى، العرض توليف و اخراج عباس رهك، انتاج كلية الحله الأهليه، قدمت في معبد (نمناخ)، أحدى المعابد البابليه القديمه، وقد عقبت على العرض الدكتوره المبدعه سافره ناجى، تعقيب رائع و مبدع أنارت لنا كثير من الجوانب الخفيه في العرض، حتى يصعب بعدها أن نخرج بأراء مختلفه أو أكثر تنويريه عن العرض.
العرض عرض طقسي بامتياز أعتمدت رؤيه سينوكرافيه مبدعه و فعاله و متميزه عن طريق استخدام الممثل ككثل جسديه ذات الانسابية الحركيه والسكونيه و  توظيف رائع للملابس و الأناره و المؤثرات الصوتيه و البصريه و الأكسسوارت المنتجه والمكمله للصوره الطقسيه، هذا باضافه الى توظيف ابداعي و مثالى للمعبد نمناخ كبقعه جغرافيه مساهمه بشكل كبير في أنتاج المدلولات الفكريه و الحسيه للعرض، باضافه الى مساهمته في خلق الصوره البصريه الجماليه التى أشبعت المتلقي و أدخلته سريعا في صلب الموضوع و الحاله الطقسيه و الحسيه.
أنا أعتقد أن اول ما ساهم بنجاح المسرحيه و خلق تلك المساهمه و المشاركه الأبداعيه و الحسيه الوجدانيه، أختيار المخرج للمكان كمساحه فعاله و مؤثره في خلق الصوره البصريه الفنتازيه و المشاركه بشكل فعال في رسم فورمة العرض من الناحيه البصريه و العاطفيه، فكان المكان العنصر البارز في توصيل و ترسيخ الفلسفه الفكريه و الجماليه و الحسيه للعرض، وقد شكل البقعه الجغرافيه باضافه الى توقيت العرض المسائي بعد سواد الظلام، الشخصيه الأبرز في العرض المسرحي بما حملته من دلالات فكريه و خلق مساحات حسيه و عاطفيه ساعدت المتلقي كثيرا في الاتصال الوجدانى و الجمالى مع العرض و تقبل فكرة العرض كموضوع و الشكل البصري.
لقد ساعدت الثكنات و الدهاليز الموجوده في زوايا المعبد في ترسيخ المدلولات الفكريه للعرض بأعتبارها فضاءات مظلمه و مخفيه داخل العقل الأنسانى أستغلت بشكل كبير من قبل القوى المتحكمه التى تدعي الغيبيه في ترسيخ القداسه المزيفه والمفتعله و المانعات الكونكريتيه بواسطه الشحوذه و تنويم العقل الانسانى عن طريق تجميدها في دائرة القداسه الغير المفهومه، واستنجاد بالعاطفه و القوى اللاعقليه المهيئه لتقبل التهويلات البصريه و الوجدانيه.
أعتقد أن المؤلف و المخرج عندما أراد في هذا العرض أن يطيح بالقداسه و الأفكار الغيبيه الفوقيه، لم يكن يقصد الدين أو التعاليم السماويه التى دعت الى السواسيه و مثلت الطريق الأنسب لرسم الخارطه الحياتيه للأنسان ككائن مختلف و مبدع في الكون، لأن الأديان نصت على الثوابت مفيده و مهمه كدعائم لرسم المجتمع الأنسانى، فيقول سبحانه و تعالى في القرأن الكريم 🙁 يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ*) سورة الحجرات، ايه 13.
اذا تمعنا في هذه الأيه الكريمه، نرى أنها بدأت بأيها الناس و لم يبدأ بأيها المؤمنون، يعني الخطاب موجه للأنسانيه و ليس لفئه معينه، و أتقاكم في الأيه الكريمه والتى هي مشتقه من المصدر(التقوى)، معلوم أن التقوى  يراد به (الخير و الأحسان و الصدق) والحديث النبوي الشريف، ( أحب الناس إِلى الله أنفعهم للناس) ، يوضح هذا الحديث الماهيه الحقيقيه للدين و التعاليم الالهيه و السماويه، لكن المشكله فيمن يعتبرون أنفسهم وريث و مطبق لهذه التعاليم، الذين يفسرون الدين حسب أهوائهم و المصالح الذاتيه و الفئويه، وفي كثير من الأحيان يوجهون من قبل السلطات المتحكمه لأدامة حالة اللاوعي و أحتفاظ بالمقدسات الزائفه التى تتيح لهم الأستمراريه و التعالي على مجتمع قوامه أناس خائفون و مرتعبون من الأفكار والتصورات الغيبيه التى زرعت في أذهانهم.  
 لذلك كان أختيار المخرج للمعبد كبيئة العرض حملت دلالات فكريه و فلسفيه عميقه، بان المشكله الرئيسيه ليست هي التعاليم السماويه المقدسه، المشكله الأكبر هي الحلقه المزعومه بين الخالق و البشر و الذى تتمثل في المعابد و كهنتها على مختلف أشكالهم و الذين يوزعون الجنة و النار على من يشاؤون أعتباطيا و حسب المصلحه والتوجيهات المسبقه، و يقرون بالمقدسات مبتدعه و زائفه تخدم مصالحهم و مصالح من يقفون وراءهم.
توزيع المشاهد المسرحيه التى مثلت الصور البصريه للعرض على ثكنات مختلفه و متفرقه و تكاد تكون خافيه في أرجاء المعبد، كانت لها دلالتها الفكريه و الجماليه خدمت العرض كثيرا، فأختيار هذه الثكنات المظلمه ايحاء مباشر بالمناطق المؤهله في العقل و الوجدان البشرى التى تعمل عليها المعابد و أربابها لتخويف الأنسان بالمقدسات المزيفه و غير الحقيقيه التى تتحكم بتفكيره و تبصيره للأمور الأساسيه في مسيرته الحياتيه، كذلك جماليا أفادت العرض لأن المخرج وزع هذه الثكنات على شكل مربع و شبه دائرى محيط بالساحه الوسطيه التى تمثل العقل الأنسانى التى من المفترض أن تكون محور الأحداث و القرارت و التغيرات البنيويه، مع هذا المخرج لم يغفل الجحور المظلمه في هذا العقل و انصياعها الى الماضى بما تشكله من صرخات و ايحاءات غيبيه تتحكم بالفكر الأنسانى، فأستفاد من البئر الكائن في وسط الساحه الوسطيه التى تدور فيه العرض و تتجلى فيه الأحتجاج و الرفض لما هو قائم بأتجاه ما يمكن أن يقوم، فحول الدلاله المعروفه للبئر كمصدر للحياة والتطهير، الى مصدر لتقييد الانسان بالأفكار الرجعيه و السلفيه الغير القابله للتغيير و أعادة المعانى، لان البئر مثل العنصر المرتكز في العقل الأنسانى و عاطفته الساذجه التى يمكن لها التأثر بالصور الغيبيه و الأفكار اللامرئيه المقدسه و غير قابله للطعن.
المخرج أستفاد بشكل كبير من ثنائية الصورة والظل  في رسم ثنائية الحقيقه و الوهم التى عانى الانسان منها كثيرا، فأختلط عليه أو بالأصح أجبر على أن يتجاهل الحقيقه المتمثله في الصوره و يتجه بأتجاه الوهم المتمثل في الظل و أشكاليتها المتغيره بشكل دائم بحسب الكتل الضوئيه و الزوايا التى توجه بها، فكثيرا ماكان الظل صورة مزيفه في الحجم و الشكل ولكنها صدرت للانسان كحقيقه ثابته و غير متزحزحه، و احلى فقره في العرض أنه تفوق في نصه البصرى المرئي على الكلمه المنطوقه التى لم تكن في المستوى الخطاب الجمالى المبدع للصوره المنتجه، وذلك أما لضعف أرتكاز العرض على النص المنطوق، أو لتفوق الشاسع للرؤيه الأخراجيه و البصريه  للمخرج على فقر الطاقه التوليفيه الأدبيه للنص المساهم في العرض.
ملاحظتى الأساسيه على العرض أنه جاء بعد جوله للضيوف و المتلقين في البقايا الأثريه لمدينة بابل، فالمتلقى دخل فضاء العرض و هو متعب أساسا من الجوله التى سبقت العرض، والعرض أخذ المتلقي الى زوايا عديده و ضيقه و متعبه التواجد و التمركز فيها، حتى الساحه الوسطيه التى أحتضنت الفعل الحركى للعرض، لم يكون المنظور فيها متيسرا للمتلقي بسبب كثرة العدد، دون وجود مكان مخصص للمتلقي لكى يستمتع بكافه التفصيلات المرئيه و السمعيه للعرض، لذلك ظهر العرض كأنه عرض طويل و متعب للمتلقي بسبب العوامل السابقه و ربما ساعدت في ذلك الأطاله الطفيفه للثرثره البصريه للعرض،  كان يمكن أختصار في العرض بشكل مكثف أكثرو أستفادة من المتلقي كعنصر بفاعليه أكثر في العرض، هذا ماكان و لكن لم يكن بالمستوى المطلوب، وأنا متأكد لو كان عدد المتلقين أقل و ادخالهم في فضاء العرض ككتل مشاركه ومنتجه للفعل البصرى و الدرامى، أكثر توظيفا و أقناعا، لكان أستمتاع بالعرض اكبر.
في النهايه لايسعنى الا ان أقدم شكرى و مباركتى لهذا العرض الرائع الذى أمتعنا و أغرقنا في طقوس بدائيه مستحضره رائعه  عادت بنا الى كشف الزوايا المظلمه في عقولنا و أنارتها بالفكر الأنسانى المنتج للخير و اجتياز الخطوط الحمراء الوهميه التى صدرت الينا كخطوط مقدسه مفتعله لايمكن المساس بها.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت