الفقرة 3، 4 و 5 من الفصل الثالث من كتاب:" البطل المسرحي سؤال المبنى والمعنى في الفن/ تأليف: يوسف رشيد جبر

الفصل الثالث

الكراج الخامس 1959 *

نموذج البطل السلبي في مسرحية المدمن 1962

التكوين الفني والفكري للبطل- البشري الاسطوري (كلكامش)

البطل الثوري الحديث في مواجهة البطل الاسطوري (الطوفان) 1966

 

—————————–

 
الكراج الخامس 1959 *
ففي هذه المسرحية التي كتبها (قاسم حول) تبرز القصة بثوبها الواقعي البسيط في اطاره الخارجي ممثلا بشخوصه واحداثه والعميق في محتواه الفكري، ففي بيت احدى العوائل الارستقراطية التي تمتلك اربعة سيارات تسكن عائلة بسيطة مكونة من ام خادمة وشابين حسن وحسين وطفل صغير وحيث ان الاب المتوفي كان يعمل لدى العائلة الارستقراطية قبل وفاته فقد اسكنوها في (كراج) للسيارات متروك في مقابل عمل الام والاستمرار في الخدمة…تبرز داخل هذه الاسرة البسيطة مشكلة بين الشابين حول من يتزوج قبل الاخر…علما ان هناك فتاة مرشحة من قبل الام التي تنتظر جوابا من اهل الفتاة…الصراع على اشده بين الولدين حول من يتزوج قبل الاخر والام تطلب تاجيلا من ام العروس لليوم التالي حتى ينفض هذا الصراع الداخلي…فبينا يبلغ الصراع اشده…طرقات على الباب…فقد اشرت العائلة سيارة خامسة وبحاجة الى اخلاء الكراج الخامس الذي يسكنوه في صباح اليوم التالي.
ان هذه البيئة القاسية وهذه المفارقة على بساطة بنيتها وتعقيدها الضمني تشكل اقترانا بالواقعية بوصفها انعكاس فنيا للواقع وبالتالي فهو الانعكاس الموضوعي للعلاقات سواء علاقات الانتاج من حيث البنية الفكرية او العلاقة الاجتماعية التي يضطلع النص بعرضها من خلال التفاوت الطبقي المقرون بالمتغيرات السياسية وموقف الطبقات المستغلة (بالفتح) من الطبقات الارستقراطية.
البطولة في هذه المسرحية لا تنعقد فنيا للافراد في صورة البطل ذي الابعاد التكوينية فنيا وانما تنعقد (للحالة) لتاخذ البطولة بعدها الفكري عبر الشريحة الاجتماعية الفقيرة التي يعرضها الكاتب. “فالفن الواقعي يختار ابطاله وموضوعاته بحيث تنسجم مع التطلعات الفكرية والانسانية للطبقات الفقيرة” . لهذا فان شريحة العائلة على قدر ما تحمل من رمز فانها لا تعدو كونها شفرة قريبة من مساحة الوضوح وهي تنم بشكل مباشر عن طبيعة التركيبة الفكرية للمؤلف ذاته.
ان الارادة التي تتحكم بمصير هذه الشريحة الاجتماعية ارادة بشرية اخرى لتكوين حلبة الصراع بين (المستغل) بالكسر و(المستغل) بالفتح، هذا الصراع الطبقي الذي شكل الى جانب النهضة السياسية مهمة فكرية اساسية لابطال الخمسينيات وظل سائدا في معظم نماذج المرحلة، فعلى مستوى التكوين يبرز التوتر النفسي في الشخصيات التي ظهرت بسيطة بحكم واقعها الطبقي وعلاقاتها الاجتماعية ونوعية البيئة والوسط الاجتماعي..وان هذه الصورة للعلاقات والبيئة جعلت من عناصر الصراع غير متكافئة حيث لم يبرز من النص سوى الصراع الداخلي في ذات (الشريحة) (البطلة) وان هذه البساطة هي التي شكلت احلام وطموحات الشخصيات.
ان موقف (اللابطل فردي) الذي قدمه قاسم حول هنا هو نتاج منظومة التوترات النفسية التي عمد المؤلف الى خلقها في افراد شريحته المنتقاة وهي تشكل في الوقت ذاته انعكاسا تلقائيا للتوتر الاجتماعي والاقتصادي الذي يشكل البناء التحتي في الشخصية الانسانية وهذا ما عمد اليه (برشت) في مسرحه الذي لم يكن حتما (قاسم حول) قد اطلع عليه مبكرا دون غيره وانما التلقائية هي التي اوجدت هذا المقترب مع منهج (برشت).
وبهذا تكون الشريحة الاجتماعية او (الحالة) اقرب الى ادب (تشيخوف) منه الى (برشت) على الرغم من يقين الباحث من التكوين الفكري للمؤلف واثره في صياغة شكل البطولة لديه.
ان نماذج (قاسم حول) رغم تعرضها على مستوى الموضوع لمضامين مختلفة الا انه في نموذجه تجد واحدا هو نموذج البطل الموحد بوعيه من حيث التكوين الطبقي والاجتماعي والفكري وان توحده هذا ناجم حتما عن خاصية الصراع الفردي.
لذا ففي نماذجه الاخرى سواء كان في مجموعة الكراج الخامس او في مسرحيته المدينة المفقودة 1967 وعودة السنونو 1969 فهو يقدم نماذج يجمعهم ظروف البيئة القاسية وتجمعهم صلة الالتزام الفكري المطروح..وهذا ايضا مرده الى التكوين الفكري للكاتب نفسه بحكم وعيه المادي والتزامه الواضح في تشكيل مكونات الشخصية من واقعه المتشكل عن ضغوط اجتماعية وفكرية وان هذه الضغوط لا تقدم دفعة واحدة وانما قدمت من خلال تطور زمني ارتهن بالواقع السياسي والمتغيرات الاجتماعية. وكذلك كان شان البطل في مسرحه وهذا ما حدث على مستوى المسرح العراقي عموما في فترة الخمسينيات فهو حتى بزوغ ثورة تموز 1958 كان قد “ظل يعتمد على اسلوب الكشف عن عوامل القهر والاحباط، اكثر من اعتماده على تقديم بطل نموذج. ولقد كانت مشكلات الواقع تعرض من خلال ممارسات شخصية يصبح البطل فيها نموذجا اجتماعيا والفكرة التي يعرضها فكرة اجتماعية عامة”([1]). وان قيام الثورة بعد 1958 قد بدا يفرز نوعا جديد من البطل الذي يتكأ على وعي جديد املته عليه مسيرة التحولات السياسية والاجتماعية وطبيعة المهام الفكرية الجديدة بعد ان تجاوز البطل واحدا من اهم التحديات التي كانت تتمثل بالاستعمار والرجعية، ان هذه المتغيرات حتما كان لها تاثيرها في البناء الفني والفكر للبطل والتي ظهرت كرد فعل مباشر وسريع. لتصبح “سمات البطل الخمسيني الذي ولد بعد الثورة فهو الناهض من بين ركام القهر والاضطهاد، وهو الذي يحلم بالمستقبل بعد ان حظم القيود التي فرضتها عليه ادوات قهره خلال السنوات السابقة مثلما نرى في مسرحيات (اهلا بالحياة) و(بزوغ السلاسل) و(اني امك يا شاكر)”([2]).
 
نموذج البطل السلبي في مسرحية المدمن 1962
ينطلق بناء شخصية البطل في مسرحية المدمن التي كتبها (توفيق البصري) من ان مفهوم البطولة مرتبط عضويا بالمتغير الكيفي واننا على وفق ذلك ينبغي ان تكون التصور الثنائي لمفهوم البطولة، اذ كما ان هناك (البطل الايجابي) المقترن فعله بكل ما هو ايجابي ونافع وتاريخي، فان بالمقابل هناك البطولة التي هي في جوهرها انكفاء للبطولة الحقيقة، لانها احتواء (سلبي) مضاد للفعل الانساني النبيل. من هنا يبدو “سعيد” بطل مسرحية المدمن ومنذ الوهلة الاولى سلبيا حيث رسمه (البصري) في شخصية استبعدتها عادة الادمان على الخمر…حيث تدور احداث المسرحية في احدى الخمارات الشعبية و(سعيد) يلح ويتوسل (بصاحب الحانة) ان يسعفه بقليل من الشرب مؤكدا بانه سيسدد جميع ديونه بعد وقت قصير، ثم يتحول المؤلف فيطرح بعض العلاقات بين رواد الحانة ثم يعود الى (سعيد) الذي اخذ السكارى يتبرعون له بقطع نقدية صغيرة استطاع بعد جمعها ان يحصل على كمية قليلة من الشرب بعدها يعود متوسلا للحصول على المزيد، فيتبرع له اخر بقنينة كاملة ليخرج بها ولكن قبل مغادرته اخذ يحكي لهم عن علاقته بالخمر التي سببت فقدانه لاملاكه كما سببت سقوطه على طفلة الصغير وقتله ثم هروب زوجته منه.
التكوين الفني والفكري للبطل السلبي هنا يبرز من خلال مكوناته السلوكية وبناء شخصيته النفسي…فان الام (سعيد) وتعطشه للخمر وافلاسه كانا يدفعانه الى النزول عن كبريائه الذي يشكل المكون التلقائي للشخصية الانسانية السوية، ويظهر ذلك واضحا في محاولات كسب شفقة وعطف (صاحب الحانة).
الا انه يسترد احيانا وعيه وتعز عليه كرامته حيث ان المؤثر في تكوين الشخصية على ما هي عليه هو مؤثر متذبذب امام الذات الانسانية و(الحالة المثالية الانسانية).
وعليه فان الصراع الفني هنا يقع على مستويين الاول (مستتر) حيث سعيد مع نفسه في هذا التناقض بين الكرامة والابتذال والثاني (الظاهر) حيث سعيد مع صاحب الحانة وكلاهما قائم فنيا على الكر والفر، وكلاهما يبلغ ذروته عند انهزام سعيد امام حاجته وينسحب هذا الصراع على الاخرين الذين يختلفون عن (صاحب الحانة) بكونهم يدعون سعيد الى الانتباه الى حالته المزرية وتبلغ دعوتهم اليه لشحذ همته الى حد نعته بالجبن ولكنه يستمر منزلقا نحو الحضيض حيثما تبلغ (الميلودراما) تصاعدا فنيا محكما وصولا الى حادثة قتل ولده.
ويرى الكاتب- ان هذه الحادثة من حيث اتصالها بالتكوين النفسي لهذا (البطل السلبي) ربما تكون مفتعلة كما انها في الوقت نفسه ممكن ان تفسر بوصفها دافعا لإدمانه. ويرجح ان يكون قد افتعلها تعبيرا عن انحدار الشخصية الى مهاوى الهوان لغرض استدرار عطف الحاضرين عليه من خلال اثارة انفعالهم بعظم مصيبته فيجزلون عطاءه وهذه تعود الى قدرات الكاتب حيث الشخصية تجلد من قبل كاتبها كما يقال عن ادب (ديستوفسكي) الذي لاشك ان المؤلف (البصري) كان قد اطلع عليه وقدر تعرفه على ادب الواقعية الاشتراكية. حيث عمد (البصري) الى الهبوط الى ناس الحضيض ومعايشتهم لغرض نقل مكوناتهم الحياتية وهي تحتفظ بحرارتها، فقدم لنا (سعيدا) من واقع الحالة، في شخصية ميلودرامية كثيرة البكاء ملحة في الاستجداء وتدعي المسكنة والخذلان الذي يجعل منها سلبية حد القرف.
ومن حيث التكوين الدرامي الفني فان الكاتب قد جعل من البطل السلبي مهيمنا على مجرى المسرحية بوصفه القوة المحركة للماساة شانه شان البطل الايجابي من حيث بنية الفعل الذي يوضع فيه سيما وانه قد اخضعه لمنطق النهاية المترتبة على المقدمات جاعلا من الوضعية الاساسية منطلقا لحركة البطل في خضم الحدث المسرحي. فالبطل (سعيد) وضع في بنية حدثية بسيطة وفي دائرة علاقات اجتماعية هامشية تجمعها وحدة المكان غير ان البطل لا يتصل اجتماعيا الا بالماضي الذي احاله الادمان الى معاناة شخصية.
فتكوين (الارادة) هنا مهم جدا، فهي مسالبة بسبب الانقياد الخارج عنها في ادمان البطل على معاقرة الخمر ويبدو هذا الادمان كنتيجة لمكونات واضحة هي العوز المادي وخراب الروح بالحرمان والوحدة في الحياة فضلا عما تقدم عقدة الشعور بالنقص التي اورثتها الشلل الذي اعاق الشخصية ليحيلها الى خراب سلبي يتقاطع مع كل مفاهيم الفضيلة والسمو الاخلاقي الانساني الذي تعمد المؤلف ان يجعل منه تيارا متناوبا في سلوك الشخصية، بقي متفاوتا بين مساحة الكرامة الانسانية وبين مساحة الذب والانحطاط الواسعة الاثر في هذا التكوين.
اما من ناحية التكوين الفكري، فان المؤلف في صياغته لشكل (البطل السلبي) يحاول تقديم سمة من السمات الاولية للمسرح التعليمي عبر الدعوة من خلال سلبية الشخصية لادانة ظاهرة اجتماعية هدامة.
فالمسرحية بمنطقها التاليفي عمدت الى عرض النتائج ثم الاسباب التي ادت الى تكوين الشخصية ومع ذلك لم تكن الشخصية في بناءها الفكري تقف على مرتكز لما بدت عليه من بساطة وسذاجة.
ويرى الكاتب ان ثمة مقترب بينها وبين شخصية (بورتسوف) البطل السلبي الذي قدمه (تشيخوف) في مسرحيته القصيرة (في الطريق العام)* فمن حيث النهايات ان المدمن ينتهي الى الانهيار سواء بالموت او انهيار الامل، عندما اهملته زوجته الى كان يحلم بلقائها كما حدث لـ(بورتسوف) في مقابل (سعيد) الذي تركته زوجته وحيدا بسبب انحطاطه بالادمان.
ان كلا الشخصيتين يرتدي (معطفا) وكلاهما يقايض به (صاحب الحانة) وكلاهما كان ميسورا فاحالة الادمان الى مجرد متشرد منحط.**
 
البناء الفني والفكري للبطل- البشري الاسطوري (كلكامش)
قبل الولوج الى تحليل المكونات الفنية والفكرية للبطل في (مسرحية الطوفان) وجد الكاتب ان من الضروري التعرض الى بنية البطل في هذه الملحمة ولو بشكل موجز لتمهيد التحليل المناسب. وعليه فقد تعمد الكاتب تناول ملحمة كلكامش*  واجراء بعض الحوارات**، ففي الملحمة يرى (د. طه باقر) ان كلكامش على الرغم من تكوينه الالهي واخلاطه الالهية البشرية فانه من اصل بشري حيث امه (ننسون) هي من البشر وثمة مقترب بينه وبين ابطال مماثلين اوردتهم الملاحم ولعل من هذه المقتربات ذلك الذي عرضه الدكتور (باقر) بين (كلكامش) و(هرقل) اذ يرى..ان كلا البطلين من اصل الهي في مادة التكوين،  وكلاهما اتخذ صاحبا وصديقا حميما، وكان السبب في جلب الكوارث الى كل منهما امراة الهة: عشتار في حالة كلكامش و(دينيويا) والالهة (هيرا) بالنسبة لهرقل، وكلاهما قتل الاسود وتغلب على الثيران السماوية المقدسة، ووجد هرقل العشب السحري للخلود كما فعل كلكامش، وزار هرقل (جزيرة الموت) كما انجز كلكامش عبر بحر الموت، ومثل هرقل قتل كلكامش الاسود الضاربة واكتسى بجلودها([3])، وفي مقترب اخر.
ترى مصادر اخرى “ان هوميروس استقى الكثير من حوادث ملحمة كلكامش بالنسبة الى احد ابطال الالياذة الشهيرة (اخيل) حيث يضاهي صاحب اخيل المسمى (بتروكلوس) (انكيدو) صاحب كلكامش وام (اخيل) الالهة (ثيتس) تضاهي الام البابلية (ننسون) ام كلكامش”([4]).
وكلكامش على وفق ما اوردت المصادر هو شخصية واقعية/اسطورية في تكوينها واقعية لانه حكم اوروك لفترة من تاريخها وهو حاكنها الخامس وهو اسطوري في تكوينه لانه قام بافعال خارقة ولانه ايضا حاز على صفات الهية وهو مكون من مادة البشر+ مادة اللاهوت، وحيث ان الملوكية هابطة من السماء فان (ننسون) امه هي مصدر مادة البشر لانها امراة مماثلة لام هرقل.
اما عن تكوينه الفكري، فان السياق الديني والسياقات المكونة لارثه الفكري يعد واحدا من مصادر تكوينه الفكري اضافة الى المكون الاجتماعي/السياسي، الا ان صعود الخطاب السياسي الصارم في هذا التكوين كان منعكسا على علاقته مع الناس وهو المهيمن على كل من الديني/والاجتماعي، حيث اكتسب هذا الخطاب سلطة طاغية مارست فعل التمركز حول بنية المؤسسة/السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية كذلك فان له مكونات غرائبية واسطورية تتداخل معا بدقة لبلورة الذهنية الاسطورية في العراق القديم والشرق الادنى وهذا يتمثل في طبيعة الصراع الخفي/الفلسفي/السياسي/الديني الكامن في نص الملحمة وهذا هو ما احال كلكامش الى السلطة الدكتاتورية. اذ حاول كلكامش ان يعبر عن مكوناته الفكرية المتغايرة في اعماله ومغامراته التي اصبحت مادة لملاحم وقصص سومرية وبابلية عديدة.
ويرى الباحثون في هذه الملحمة والمكونات الفنية لبطلها…ان كلكامش في الملحمة كان مراة للسلطة الشمسية وصراعها مع السلطة القمرية (وهي سلطة الالهة الام في التاريخ) لذا فان الصراع بدا في الملحمة بعد دخول انكيدو اوروك حيث ظل الصراع كاشفا عن التناحر بين السلطتين، الشمسية (كلكامش) والقمرية (عشتار) ورموزها او متوازياتها القمرية (الافعى، خمبابا، ، الثور السماوي).
ومن الناحية الفنية فان كاتب النص قد ظل مهيمنا على سياقات الصراع الفكري وبناءه الفني بحيث استطاع ان يصوغ له سمات وخصائص تتصل بالنظام المعرفي السائد في العراق القديم.
بحيث كان للبطل دور فني في جميع الخيوط المنبثقة منه واخذها نحو المسارات التي تبدو من خلالها مهيمنة على الشخوص الاخرى.([5])
وتبرز ايضا من مميزات البطل الفنية لغته التي تشير اليه، كما انه يتحدث بلغة تستشرف الاتي ويعتمد فيها على الحلم والرؤى، وتتجسد السمات الفنية من خلال تاثر الشعوب بقوة البطل ومركزيته الفنية لذا نجد انعكاسا واضحا للملحمة في اداب الشعوب عامة والعراق بشكل خاص.*
واذا ما حاولنا ان نضع مقتربا بين فنية التكوين للبطل كلكامش وفنية النص الملحمي الاسطوري الذي ينبغي ان يتوافر على التماسك والوحدة التي اشار اليها ارسطو فان القراءة الدقيقة لسيرة كلكامش تفصح عن انه مشكل من مجموعة حلقات مختلفة ظاهريا لكنها مترابطة مع بعضها أي ان له مهمة رئيسية تتفرع عنها مهام اخرى وهو بذلك شانه شان كل شخصيات الابطال في الملاحم الاخرى من حيث الوحدة الفنية في تكوينها.
 
البطل الثوري الحديث في مواجهة البطل الاسطوري (الطوفان) 1966
افترش (عادل كاظم) في مسرحية (الطوفان)** شخصيات (ملحمة كلكامش) ليؤسس من خلالها صراعا تراجيديا حديثا في محتواه، شعائريا طقسيا في لبوسه الفني، عارضا صراعات الواقع المعاصر على المستويين السياسي والديني، متصديا بمفاهيمه المادية للواقع من خلال المواقف الوجودية لابطاله، غير ان (مسرحية الطوفان) لا ترتبط بملحمة (كلكامش) ارتباطا وثيقا قدر ارتباطها بمفهوم (الابدال والمغايرة) مع المادة الاصل حيث عنيت الملحمة بالتسائل الفلسفي لكلكامش في البحث عن سر الخلود، في حين يقدم لنا (عادل كاظم) شخصية (كلكامش) سلطوية مستغلة لها الكثير من مثيلاتها في ادبنا المسرحي*** ولها وجودها الواقعي في ساحة الصراع السياسي الانساني. ففي (الطوفان) يظهر (كلكامش) بوصفه رمزا لنصف اله بمظهر الدكتاتور في سلطته الالهية، في حين يظهر الراعي (سموقان) على النقيض من هذه السلطة في موقف بطولي يعبر من خلاله عن قوة الانسان في مواجهة حتمية وقدرة السلطة المهيمنة.
ان (دكتاتورية كلكامش) تقوده الى قتل (انام) كبير الالهة او كاهنة الاكبر، الا ان هذه الجريمة لا تلبث ان تكشف النقاب عن خطا تراجيدي مهول، حيث ان القتيل هو والد القاتل، (كلكامش) ابن (ننسون).
وتزداد مساحة التردي في الاخطاء التراجيدية اتساعا، ويشتد التوتر بانتحار الملكة بالسم حزنا على حبيبها الراحل، وتستمر حلقات الصراع في الاحتدام والتصاعد، حينما ياخذ شكل ارادتين تصطرعان هما: الراعي (سموقان) الذي لا يخاف وكلكامش الجبار المتهور، المتعجرف الذي ظل اسير جنونه حتى القاء القبض على (الراعي الثائر) وقتله ذلك الذي اعلن بموته التراجيدي فنيا عن (بطل ثوري) اذ اودى بحياته من اجل مبادئه حد الشهادة التي هي شرط فني مهم من مستلزمات وجود (البطل الثوري) في الابداع الادبي.
ان استشهاد (الراعي الثائر) كان سببا في هياج الشعب الغاضب في طوفان شعبي عارم بعد ان تسلح بالافكار والقيم التنويرية التي اشاعها فيه ذلك الثائر، ليعم الاجتياح ابراج معبد (كلكامش) مجبرا الطاغية على الانتحار.
المسرحية من خلال ابطالها وصراعهم تنطوي على موقف سياسي ذي منطلقات فكرية واضحة ولا تخلو من لعبة فنية في التكوين المنطقي وتوظيفه باتجاهات تراجيدية يحاول المؤلف من خلالها التصدي للمالوفات الفكرية بالمغايرة لكي يرسم بعض المنطلقات، من هذا التصدي الفني الى المدلولات الواقعية للشخصية ومن الرمز الى المرموز وبالتالي من الحقيقة الانسانية للشخصيات الى ما يمكن ان توحي به من تفسيرات ومن رؤى في الواقع السياسي.
ففي (المغايرة) التي يحدثها المؤلف في تحول الكاهن (انام) عن كونه منسلخ عن الطبقة المستغلة متحولا عنها بدوافع عاطفية انسانية، هناك ما يخالف الحل الثوري غير ان هذه (المغايرة) هي بحد ذاتها محاولة من المؤلف لتاطير الموقف السياسي باطار تراجيدي كلاسيكي قديم الطراز.
فـ(انام) هو شخصية تراجيدية قبل ان يكون رمزا، لذلك كان لابد للكاتب ان ينطلق منه الى تحليل صادق وعميق لموقف صراع وجودي من شانه ان يثير اسئلة شاملة وكثيرة حول القوة والتسلط الالهي والحب والموت.
 
 
*  قاسم حول، الكراج الخامس، مسرحيتان، بغداد: مطبعة الوفاء، 1961، ص 1- ص 30، مسرحية الكراج الخامس، كتبت عام 1959.
*  قاسم حول، الكراج الخامس، مسرحيتان، بغداد: مطبعة الوفاء، 1961، ص 1- ص 30، مسرحية الكراج الخامس، كتبت عام 1959.
([1])  ياسين النصير، وجها لوجه، دراسات في المسرحية العراقية الحديثة، بغداد: دار الساعة، 1976، ص 12.
([2])  يوسف يوسف، البطل في المسرح العراقي، الموسوعة الصغيرة، 131، بغداد: منشورات دار الجاحظ للنشر، 1983، ص 19.
*  تعتبر مسرحية (في الطريق العام) في اول مسرحيات تشيخوف القصيرة رغم انها لم تكتشف قبل عام 1910 حيث عثر عليها ضمن المخطوطات الغير منشورة التي تركها تشيخوف وكان قد اخذ موضوعها عن قصته القصيرة (في الخريف)
**  للمزيد انظر تحليل مسرحية (في الطريق العام) لدى صبري حافظ، مسرح تشيخوف، ص 57.
*  ينظر: طه باقر، ملحمة كلكامش، بغداد: وزارة الثقافة والاعلام، دار الشؤون الثقافية، الطبعة الخامسة، 1986.
**  حوار مع الناقد والباحث ناجح المعموري في صيغة اسئلة مكتوبة اجاب عليها بتاريخ 15/6/1997.
([3])  طه باقر، المصدر نفسه، ص 48.
([4]) Robert Groves, the Greek Myth (1962), vol.II, esp, p. 89.
([5]) ناجح المعموري، الحوار نفسه.
للناقد ناجح المعموري دراسة غير منشورة تناول فيها خطوط خفية في تحليل شخصية كلكامش البطل وان هذه الخطوط والسمات من شانها حتى ان تنفي عنه صفات البطولة يحددها الكاتب في تسعة عشر سمة ولان الكاتب لا يجد مجالا لمناقشتها في هذا البحث فانه يكتفي بالاشارة اليها. الكاتب.
*  اثر هذا النموذج الفني في الكثير من كتاب المسرح العراقي منذ الخمسينيات وحتى وقت قريب منهم خالد الشواف في (شمسو) وامين خضير في (كلكامش في العالم السفلي) وعادل كاظم في الطوفان-الكاتب.
**  كتبت مسرحية (الطوفان) عام 1966 وهي مسرحية غير منشورة مطبوعة على الالة الكاتبة، اخرجها الفنان الراحل ابراهيم جلال اكثر من مرة، لمعهد الفنون الجميلة ثم للفرقة القومية للتمثيل-الكاتب.
***   انظر: كاليكولا وغيرها، الباحث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت