التكوين الأنطولوجي وماهيات التلقي السمعي في المسرح / الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي
(مسرحية كاروك أنموذجاً)
إنَّ مفردة (كاروك) تعني (مهداً) ، إذ تناول مؤلف المسرحية ثنائية الحياة والموت، وثنائية الوجود والماهية وفكرتها الرئيسة تقول (إنَّ من بقايا التابوت يصنع الكاروك) والعكس أيضاً، وكلا العلامتين هما وجودات تنتج ماهيات عن الصراع في داخل المسرحية ،الذي تناولت الوضع المأساوي الذي كان يعيشه المواطن العراقي وما عاناه بسبب ظروف الحصار والتعامل القاسي وكثرة الحروب التي مر بها الوطن ،وشخوص المسرحية كانوا أناساً عاديين عاشوا في تماس مع الحروب، والتي عبروا عن صورها من خلال تعاملهم اليومي ومهنهم المختلفة ، فمنهم النجار والمعلم والمعوق الذي فقد ساقيه في احدى الحروب والمجنون الذي فقد عائلته تحت سقف البيت نتيجة لقصف الطائرات وشخوص اخرى ،وقد كتبت المسرحية بأسلوب شعري ،إذ استندت تصميم المؤثرات الصوتية في العرض المسرحي على ثلاث نقاط ،هي :
- أولاً:- ما يتركه مؤلف النص المسرحي من إشارات توضع بين أقواس أما في مقدمة المسرحية أو بعد نهاية كل مشهد، أو في أثناء الحوارات للدلالة على حدث محدد أو انتقال الأحداث إلى مراحل أكثر تقدماً وتعقيداً في المسرحية، ونص مسرحية كاروك توجد فيه العديد من الإشارات في هذا المجال ومن امثلتها ما جاء في الصفحة الثلاثة من النص :المرأة- زينب- مقتربة من (الكاروك) ، تهزه برفق وصوت هزه (الكاروك) يعطينا طبيعة التكوين الأنطولوجي للمؤثر الصوتي وماهوية الاشتغال، ويحــــدد لنا بيئة المشهد الصوتية ،وهناك أيضاً أشارات أخرى للمؤثرات الصوتية وضعها المؤلف بين قوسين كهزات الكاروك ودق المسامير وأصوات القذائف والطائرات ،وكلها تعطي لمصمم المؤثرات ما يمكن فعله في هذا المجال ، وقد تم تحديد جزء من المؤثرات الصوتية لمسرحية كاروك من خلال ما تركه المؤلف مثل أصوات القذائف والتي تم الأعتماد على الآلات الايقاعية لإصدارها في أثناء العرض ،أو استخدام بعض الأصوات من الآلات موسيقية لإصدار اصوات تدل على حالة الحرب والدمار.
- ثانياً:- ما توحي به بعض الحوارات في النص المسرحي يستطيع مصمم المؤثرات الصوتية أن يبنــي عليها طبيعة التكوين الأنطولوجي للمؤثر الصوتي، وماهيته الذهنية في هذا الحوار أو ذاك، في مسرحية كاروك ،كما غيرها من المسرحيات المحلية والعربية والعالمية، يمكن أن نجد حوارات يمكن أن نستنتج المؤثرات الصوتية وطبيعتها ومن الحوارات، التي إشارة الى المؤثرات الصوتية الحوار الاتي:
الجوقة: أيا ليل كانون ، حين ادلهم الردى
وراح الغراب يدق البيوتات دون اكتراث
أما تدري بأن الصبايا نيام؟
وأن العراق الذي لم ينم ،
على شاطئيه يرف السلام؟
وجئت كذئب هوى من سحاب
في الحوار السابق توجد اشارات لطبيعة التكوين الأنطولوجي للمؤثرات صوتية، ومنها صوت الغراب ، ودق البيوتات ، وصوت الذئاب ، وصوت مياه الشاطئ ،او كما جاء بالحوار الآتي: الابن: ويزحف ألاف الجنود ، يحتضنون الموت ويلوكون النار بأصابع الفولاذ .. اعرفهم (مؤكدا) أعرف تلك النار وذاك الموت وصوت زحف الجنود واصوات البنادق، التي يحملونها دلالة على طبيعته المؤثرات الصوتية ،التي عمل المصمم على اختيارها وتوظيفها في المسرحية وقد وجسد حركة الجنود وزحفهم الى المعركة من خلال عناصر الجوقة والبالغ عددهم ستة ممثلين من خلال هرولتهم على خشبة المسرح ،واصوات اقدمهم وهي تضرب الخشبة .
- ثالثاً:- إرشادات المخرج ورؤيته الإخراجية للمسرحية ،والتي يستطيع مصمم المؤثرات الصوتية أن يستثمرها لخلق مؤثرات صوتية وطبيعة الماهيات المتشكلة منها في المسرحية وتلقيها، وفي مسرحية كاروك ركز المخرج على توجيه مصمم المؤثرات الصوتية على ضرورة استخدام مؤثرات قادرة على المساهمة مع عناصر العرض الأخرى للوصول الى رؤية المخرج وأسلوبه، إذ عمل المخرج مع مصممي العرض في مسرحية كاروك على جعل النص المسرحي بنية تتألف من عناصر تنتمي الى فنون مختلفة ( تشكيل ، شعر، غناء ، رقص، موسيقى …) وإبراز ما يظهر هذا الأتجاه وهو العنوان الحركي الموحى بالتغيير مرورً بعناصر (السيمياء)التي عبرت عنها قطع الديكور و(شفرات الجسد) وقدرتها على التحول ونقلها في المنظومات السيميائية المتنوعة (السمعية ،البصرية، الدلالية) ،كانت لها القدرة على توليد علامات جديدة تركت أثراً يمكن المتلقي من التواصل مع رسالة العرض وصوره الجمالية من خلال مكونات العرض السمعية والبصرية .
ومن خلال النقاط الثلاثة قام مصمم المؤثرات الصوتية باختيار مؤثراته الصوتية في العرض وعمل على توظيفها مستند بذلك على مبدأ الإشارة بالجزء إلى الكل، أي الإيحاء بحدوث موقف ما عن طريق توظيف أبرز ملامحه الصوتية، فصوت العيار الناري في نهاية مسرحية (ايفانوف) لتشيكوف مثلاً، يخبرنا بما لا يدع مجالاً للشك أن ( ايفانوف ) قد انتحر، كما يخبرنا صوت طائرة الهليكوبتر في مسرحية (هارالد موللر ) (آثار طافية ) بغرق فتاة صغيرة لا تظهر على خشبة المسرح إن عمليتي الاختيار والتوظيف للمؤثرات الصوتية في العمل المسرحي لا ينبغي أن تكون على شاكلة واحدة, فالتنوع في هكذا حقل مطلوب ، وعلى المصمم في هذا المجال أن يلجأ إلى استخدام مؤثر صوتي (صناعي / طبيعي ) واحد، أو أكثر للدلالة على معنى من المعاني أو الإيحاء بمعنى من المعاني مثل تصوير مكان ما، أو التعبير عن زمان ما ، أو يستخدم المؤثر لتهيئة الجو النفسي للمستمع وتوجيه أهتمامه وعاطفته نحو موقف من المواقف.
وعلى مصمم المؤثرات الصوتية في العرض المسرحي الأبتعاد عن إشكالية القوالب الجامدة الوحيدة الدلالة حتى لا يفقده دلالاتها المعبرة، فمثلاً رنين الأجراس الذي نستمع إليه في المسرحية الروسيــة ( السادة جلنييف ) يختلف تماماً عن رنين الأجراس الذي يسمع في مسرحية ( عطيل ) لشكسبير، فالأول يستعمل بقصد إقامة الشعائر الدينية بإحدى الكنائس، أما في مسرحية عطيل فيستعمل بقصد الإنذار والتنبيه وشتان بين التأثيرين على الرغم من أنهما صادران من أجراس قد تكون واحدة. وفي مسرحية كاروك تم استخدام وجودية صوت المطرقة في عدد من المشاهد وكان الكل منها تعبير مختلفة ، ففي المشهد الاول يسمع صوت المطرقة يرافق شخصية النجار ، وهو يصنع الكاروك الذي انقطع النجار عن صناعته لفترة طويلة، والسبب لم يولد طفل في الحي بسبب الحروب ،وكان يسمع فقط صوت مطرقة النجار ، وهو يصنع التابوت ،لذلك كانت المطرقة نفسها لكن بصورتين صوتيتين مختلفتين اي في وجودين مختلفين وماهيتين مختلفتين أيضاً.
آلية التكوين الانطولوجي للمؤثرات الصوتية وبعدها الماهوي مع عناصر العرض في مسرحية كاروك:
أولاً- اشتغال المؤثرات الصوتية لدعم انطولوجيا الممثل ،وماهوية الشخصية المؤداة.
إنَّ للمؤثــرات الصوتيـة دوراً مهماً تقوم به لدعم عمل الممثــل وتكوينه الأنطولوجية ، في تشكيل التكوين الماهوي في ذهنية المتلقي للعرض المسرحي من على خشبــة المسرح، فهي تــهدف “بالدرجة الأولى إلى إتمام عمل الممثل بطريقة يمكن التوصل بها إلى انطباع حقيقي بقدر الإمكان عن الحدث المنظري المعروض على المسرح ،الذي لا بد من أن تسانده في إيصال الشخصية المؤداة إلى المستوى المطلوب، لذلك فإن طريقة استخدام المؤثرات الصوتية تسهم في تكوين ماهوية الصورة مع الممثل ، وتتم من خلال تحديد العلاقة القائمة بينهما، فهي يجب أن تكون متمشية مع أداء الممثل بحيث لا تطغى أو تشوش عليه فتفقده الكثير من مفهومه ومعناه، وبحيث لا تدفعه أمامها فيختل إيقاع الأداء وسرعته المحدودة، ولكنها يمكن أن تبرزه بصورة أقوى وأكثر بريقاً ولمعاناً، ويمكن التوصل إلى ذلك بإحدى طريقتين : الأولى بمراعاة تعاقب المؤثرات الصوتية والأداء تعاقباً لا يخل بمضمون النص والثانية بالتداخل بين الاثنين بطريقة فنية من شأنها أن تجعل المؤثرات الصوتية مرافقة لأداء الممثل فقط، ولكن بدون إلحاح يضر بالنص، أي أنها تتم وراء الأداء ، الذي يقدمه الممثل على المسرح .
وفي مسرحية كاروك قدمت مؤثرات صوتية على وفق الألية المذكورة ،فكانت المؤثرات الصوتية وتكوينها الأنطولوجي الماهوي للحدث الصوتي مرافقة لأداء الممثل ،فهي مرة تأتي بعد الحوار كما في المؤثر الصوتي الذي يصاحب شخصية النجار (صوت المطرقة) ،أو الذي يرافق المرأة (صوت أهتزاز الكاروك) ،أو الأصوات التي ترافق الجوقة (اصوات الحرب) ، أو تأتي لتتداخل مع الممثل في حواراته للدلالة على مهنته ،أو التدخل في إكمال صورة معينة في الحدث ، أو المساهمة في بناء أيقاع العرض المسرحي ، على أعتبار أن أهم ما تفرد به هذا العرض(كاروك) الديناميكية التي احكمت سيطرتها على الإيقاع الحركي البصري السمعي ،التي كانت المؤثرات الصوتية من المساهمين في صنعه ، ومن أمثلة تداخل المؤثرات الصوتية مع الممثل فالحوار التالي الذي يشير الى أصوات الضرب بالمطرقة على الخشب أثناء العمل :
النجار: لهذا يا ولدي انجز هذا (الكاروك) حتى
لو كلفني صنعه كل خشب التابوت
الابن: نحن اخذنا من هذا التابوت ما يكفي .
ثانياً- التداخل الأنطولوجي للمؤثرات الصوتية مع الديكور المسرحي .
تشكل المؤثرات الصوتية مع التكوين الأنطولوجي للديكور المسرحي علامة مهمة عن المكان ونوعه وبيئته التي ينتمي إليها فالخطوات مثلاً إلى جانب صليل الأبواب المعدنية وانطلاق صفارة قد يدل على السجن، أو أصوات السيارات وأبواقها يدل على ازدحام الطريق، وموسيقى ناعمة هادئة إلى أصوات أطباق صيني، وملاعق معدنية وشوكات وارتطام أكواب مع أصوات هامسة يدل على الوجود في مطعم. ويستطيع مستخدم المؤثرات الصوتية في العمل المسرحي أن يعول عليها بالإيحاء إلى مكان محدد ،من اجل تكوين بعدها ماهوي له في ذهنية المتلقي ، فالمؤثرات الصوتية تسهم بنصيب كبير في إحالة فضاء المسرح المحدود إلى (عالم منظري) ليس له حدود، وفي هذه الحالة يكون للتأثيرات الصوتية الأولوية على نظيرتها المرئية ،لأنها بطبيعة الحال غير محددة بمساحة المنظر المسرحي المرئي للجمهور، وقد يبدو هذا غريباً ولكن الإيحاء هنا يلعب دوراً كبيراً يؤكد هذا القول أنه ليس فقط بالمؤثرات الصوتية يمكن إبـــراز قصف الرعد وصفيـــر الريــاح وهطول المطر، بل يـمكن أيــضاً إظهار الحديقة المليئـــة بزقزقة العصافير الكائنة خلف الكواليس أو الغابة التي تضج بأصوات الحيوانات أو صورة حية لما يدور في معركة بميدان للقتال أو شارع مزدحم بالسيارات أو كنيسة يتردد فيها رنين الأجراس هذه الإشارات تساعد ما متوفر من قطع ديكوريه في إيصال علامات مهمة عن المكان في المسرح .
وفي مسرحية (كاروك) هناك عدد من الأمكنة المتداخلة في الأحداث والتي عمل مصمم المؤثرات الصوتية الى الدلالة لها، ومن هذه الامكنة (ورشة النجارة) و(ساحة الحرب) و(البيت المهدوم) و(وصف دراسة) واماكن أخرى، وقد كانت اصوات المطرقة والمنشار والمسامير للدلالة عن ورشة النجارة ، واصوات الحرب دلالة على ساحة الحرب ،والقصف للدلالة على انهيار السقف .
ثالثاً- اشتغال التكوين الأنطولوجي للمؤثرات الصوتية مع الأزياء والإكسسوارات في التكوين الماهوي للحدث:
تــسهم المؤثـــرات الصوتيــة في جانبها الأنطولوجي في تشكل علامة مع الأزياء والإكسسوارات التي تدخل في سياق إيصال معانٍ محددة إلى المتــلقي ورسم ماهية الحدث المسرحي ،إذا ما تم الاشتغال بصورة تكاملية بين عناصر العرض المسرحي، فالأزياء في العرض يقع عليها مسؤولية تحديد الجنس والسن والإنتماء الطبقي أو الاجتماعي والمهنة والجنسية والديانة وذوق الشخصية ووضعها الاقتصادي، ويكون علامة تدل على الفترة الزمنية وأحد فصول السنة والطقس والمكان والوقت المحدد من يوم ما ، ومن خلال تلك الدلالات التي تعطيها الأزياء للشخصية الممثلة على المسرح ،تستطيع المؤثرات أن تشكل معها علامة مؤكدة للشخصية في تكوينها الانطولوجي ، ودلالتها الماهوية في التلقي ، فمثلاً أصوات المعركة مع ظهور شخصية مرتدية للزي العسكري تدلل على طبيعة عمل الشخصية وانتمائها المكاني، وهو ساحة المعركة ،أو ثكنة عسكرية ، وكذلك صوت الرعد مع ارتداء المعطف والمظلة (الشمسية) تدل على حالة الطقس، أو ارتداء ملابس الفلاحين مع أصوات الحيوانات الداجنــة مع صوت العصافيــر تدلل على بيئة المكان الريفية وكذلك تدخل الإكسسوارات في السياق نفسه لمصاحبة الزي في إعطاء علامات عن الشخصية المسرحية وبيئتها ومكانها وزمانها … الخ .
وفي مسرحية (كاروك) وظفت المؤثرات الصوتية وشكلت مع الازياء والإكسسوارات علامة دالة عن الشخصيات في المسرحية ،ومنها (اصوات المطرقة والمنشار والمسامير) للدلالة على شخصية النجار وابنه ، وأصوات الحرب للدلالة على المعوق وما حدث له في ساحة المعركة ، واصوات القصف من خلال الضربات الإيقاعية دلالة على شخصية المجنون الذي فقد عائلته تحت سقف البيت ..الخ. كل هذه المؤثرات في المسرحية شاركت مع أزياء الشخصيات في بناء التكوين الأنطولوجي للمؤثرات الصوتية ودورها في المسرحية ، فدلالة أصوات المطرقة مع شكل وطبيعة الملابس للنجار تعطي تعاضد صوتي بصري للتكوين الأنطولوجي لهذه الشخصية ، وكذلك بقيت الشخصيات في المسرحية .
رابعاً- التكوين الأنطولوجي للمؤثرات الصوتية وعلاقتها بالإضاءة المسرحية .
تـدخل المؤثــرات الصوتية في تــشكيل الوجود المسرحي للعلامة، من خلال عملها مع الإضاءة فتظهر علاقة العلامة الضوئية بالمؤثرات الصوتية من خلال المستويات الآتية :
- يرتبط الضوء مع المؤثرات الصوتية في إنتاج علامة إشارية، مثل صوت صافرة سيارة الإسعاف مع مؤثر الإشارة الضوئية الحمراء ،التي تعبر عنها .
- يتفاعل الضوء مع المؤثرات الصوتية لإنتاج دلالة الزمان ،مثل صوت الديك مع الإضاءة الزرقاء التي تغمر المسرح وشعاع ضوئي أصفر آخر للدلالة على بزوغ الفجر .
- للدلالة على المكان يتظافر الضوء مع المؤثرات الصوتية، إذ تكفي الظلال الناتجة عن وضع الشكل المصفر للقضبان أمام المصدر الضوئي مع مرافقة صوت حركة أقفال حديدية لإنتاج دلالة السجن.
وفي مسرحية (كاروك) تداخلت المؤثرات الصوتية مع الأضاءة في المسرحية في انتاج علامة دالة عن المكان ،مثلاً في مشهد الحرب تقوم الجوقة بتقديم حركات دالة على ضوضاء الحرب مع ضربات طبول مع إضاءة حمراء وأخرى بيضاء تنطفئ وتضاء بسرع مختلفة التعطي أجواء الحرب ، وكذلك شكلت المؤثرات الصوتية في تكوينها الأنطولوجي مع الاضاءة علامة دالة على الزمان ، كاستخدام الجوقة مصابيح صغيرة تحمل بالأيدي مع إطفاء اضاءة المسرح رافقتها أصوات طبول توحي بالترقب من حدث ما سيقع في عتمة الليل .
خامساً- علاقة التكوين الأنطولوجي للمؤثرات الصوتية بالموسيقى التصويرية.
تشترك المؤثرات الصوتية مع الموسيقى لكونهما علامات سمعية في تأكيد مجموعة من الدلالات المهمة في العمل المسرحي، فالموسيقى تستطيع بوساطة الإيقاع أو اللحن أن تخلق جو الأحداث أو زمانها أو مكانها، واختيار الآلة الموسيقية له قيمة سيميائية أيضاً، فهي توحي بالمكان أو البيئة الأجتماعية أو الجو العام للمسرحية، كما يمكن أن تصاحب قيمة موسيقية معينة دخول الشخصيات أو خروجها، ومن ثم تصبح دلالة لها إن الموسيقى يمكن أن تقول ما يقوله النص، الفرح، الحزن، الخوف … الخ ، وتستطيع المؤثرات الصوتية الاشتراك مع الموسيقى في تلك الدلالات، فالخوف الذي تخلقه الموسيقى في العمل المسرحي لا بد من مصاحبته لبعض الضربات والأصوات، كالصراخ ،وغيرها لتأكيد دلالة الخوف، وكذلك لخلق الجو اللازم في بداية المسرحية تسهم المؤثرات الصوتية مع الموسيقى بشكل أساسي للإيحاء بالمكان والزمان وأشياء أخرى متعلقة بهذا الجانب .
وفي مسرحية (كاروك)، أشتركت المؤثرات الصوتية مع الموسيقى التصويرية في تكوين علامات صوتية للدلالة على المكان والبيئة ،مثل اشتراك الموسيقى مع ضربات المطرقة المسرعة للدلالة على حركة العمل التي يقوم بها (النجار وابنه) للإسراع في صناعة الكاروك ،أو صوت الموسيقى الحزينة مع اهتزاز الكاروك للدلالة على عدم قدوم الوليد الجديد.
سادساً- علاقة التكوين الأنطولوجي للمؤثرات الصوتية وتكوين الماهية الصوتية عند المتلقي .
تلعب المؤثرات الصوتية دوراً مهماً في التكوين الماهوي للمعنى عند المتلقي وجذب اهتمامه للأحداث في العمل المسرحي، فمثلاً صوت مطرقة القاضي التي تجذب انتباه الجمهور تجاه الحدث، أو تدخل كذلك في خلق مزاج نفسي معين في داخل العمل لكي يستفيد منه الممثل من جهة في وصول إلى الهدف المنشود من الشخصية المؤداة ، وكذلك لخلق مزاج نفسي لدى المتلقي فمثلاً يمكن استخدام مؤثرات صوتية ، أو ضوضائية من الطبيعة بطرق بارعة إكراماً لها في ذاتها، لبعث جو عام بنفس الطريقة التي تفعلها الموسيقى، فالأمواج المتلاطمة والجداول المترقرقة وزقزقة الطيور والرياح النائحة كلها تحوز سمات موسيقية واضحة جلية، مثل كثير من الأصوات التي صنعها الإنسان على شاكلة أبواق الإنذار من الضباب وأبواق السيارات وصفوف الضجيج الصناعي وصفارات البحار والأبواب المصطفقة والسلاسل وفرامل السيارات المعولة وقعقعة الآلات الميكانيكية … الخ ويمكن أن تتجسم مثل هذه الأصوات ،وتمتزج فنياً في تتابع إيقاعي مثير قد يكون بسبب طبيعته، أكثر فاعلية من الموسيقى في نقل مزاج نفسي معين .
وكذلك تستطيع المؤثرات الصوتية في ضوء أستخداماتها الأنطولوجية في العرض المسرحي أن تؤدي وظائف أخرى يكون لها الأثر في إيصال معانٍ محددة للمتلقي، فهي تؤدي وظيفة الربط بين الشخصيات على المسرح من خلال فتح الباب لدخول شخصية أخرى على المسرح ،أو صوت أقدامها وهي مقتربة من مكان الحدث، وتستخدم المؤثرات الصوتية لربط المشاهد عن طريق تغيير السمات الصوتية في الأمكنة أو الأزمنة .
وفي مسرحية (كاروك) كان للمؤثرات الصوتية دور مهم في جذب انتباه المتلقي وتكوين المعنى لديه في ضوء التكوين الأنطولوجي للأشياء المستخدمة في العرض ،ولاسيما (المطرقة النجار ، وحركات الجوقة في أثناء أداء حركات القتال ، أو صوت الكاروك واهتزازاته) ،وكذلك عملت المؤثرات مع الجوقة وأصواتها في خلق مزاج عند المتلقي عن الحرب وويلاتها ، وكانت المؤثرات الصوتية تمهد البداية الحدث الجديد من خلال ضربات المطرقة ،أو أصوات الطبول ،أو أصوات الدالة على الحرب ..الخ
طرق استخدام المؤثرات الصوتية انطولوجياً في العرض المسرحي
1- مراحل استخدام المؤثرات الصوتية في المسرح تاريخياً : لقد استخدمت المؤثرات الصوتية في المسرح تاريخياً بمرحلتين هما:-
- مرحلة البث المباشر : وهي المرحلة التي سبقت اختراع التسجيل الصوتي ،إذ إنَّ كل الأصوات بما فيها الأصوات الصادرة من الآلات تبث مباشرة وعلى الرغم ذلك فقد استخدم الإنسان الآلات والوسائل الآلية منذ القدم ليخلق مؤثرات صوتية طبيعية ،مثل تغريد الطيور وصوت الرعد والمطر، وكما ذكرنا سابقاً حول كيفية صناعة صوت الرعد في المسرح اليوناني .
- مرحلة تسجيل المؤثرات الصوتية : وهذه المرحلة بدأت بالظهور مع التوصل إلى اختراع أجــهزة التسجيل الصوتية ،مما أعطى مستخدمــو المؤثــرات الصوتـية المساحة الكافية في صناعة المؤثر الصوتي للعمل المسرحــي إذ إن هذه الأجهزة الحديثــة أتـاحت تسجيل الأصوات ومزجها، فالعرض قد يتضمن أصوات العربات والقطارات وسارينة عربات البوليس وأصوات (الأعيرة النارية) ، التي لا يمكن أن تبث بشكل حي ومباشر على المسرح ،أو خلف الكواليس لأن ذلك يحتاج إلى جلب الآلات الضخمة وإدخالها إلى كواليس المسرح ، وهذا شيء مستحيل تصوره في المسرح .
2- طرق استخدام المؤثرات الصوتية في العرض المسرحي :-
هناك ثلاثة طرق لاستخدام المؤثرات الصوتية في المسرح وهي :-
- استخدام المؤثرات الصوتية الجاهزة المسجلة في أجهزة التسجيل المختلفة (كالحاسوب ،أو الاسطوانات ،أو جهاز التسجيل Recorder وغيرها) وقد تكون المؤثرات مأخوذة آحياناً بشكل مشابه للطبيعة والواقع الحياتي وهذا ما يستخدم في أغلب العروض المسرحية لسهولة الحصول على المؤثر الصوتي المشابه للصوت الحقيقي المراد الوصول اليه في العرض ،كأصوات العواصف والرياح وأصوات الحيوانات ،وغيرها.
- استخدام مؤثرات صوتية صادرة عن الآلات موسيقية تكون مستوحاة من المؤثرات الصوتية الموجودة في الطبيعة ، ويتم استخدام الآلات الموسيقية المختلفة سواء أكانت وترية، أم هوائية، أم إيقاعية ،أم استخدام أدوات أخرى يفرضها العمل المسرحي ،كأصوات السيوف في المبارزة، وغيرها.
- استخدام الطريقتين معا للوصول الى مؤثرات صوتية تسهم في الاشتغال الجيد للمؤثرات الصوتية في العرض المسرحي ، وفي بعض العروض قد لا يستطيع مصمم المؤثرات الوصول اليها باستخدام طريقة واحدة فقط ، لأن العرض المسرحي يفرض على مصمم المؤثرات ايجاد أصوات تكون محاكاة لأصوات الطبيعية وليس هي بذاتها .
وفي مسرحية (كاروك) استخدمت الطريقة الثانية في تنفيذ المؤثرات الصوتية ،وقد استخدم الآلات الوترية والآلات الإيقاعية وبعض الادوات مثل ( المطرقة والمنشار والمسامير) ،وكذلك استخدام أقدام الممثلين للحصول على مؤثرات حركات الجنود في اثناء المعارك ، وقد اشترك في تنفيذ المؤثرات الصوتية في العرض مجموعة من العازفين ، والممثلين في أثناء العرض، ومنهم شخصية النجار بإصدار أصوات من المطرقة والمنشار في تقطيع خشب التابوت ،وأصوات الطرق على المسامير الصناعة (الكاروك) ، وكذلك الجوقة التي ادت بحركات إيقاعية في بعض الآحيان منظمة ، وأخرى غير منظمة للوصول الى اصوات الحرب في العرض المسرحي.