في مسرحية "امكنة اسماعيل" ..اللاشعور متاحا وطازجا / صبيح عفوان
,تصفح اللاشعور وتاطير سيروراته الخفية التي تحتل ارض الانا في مواضع عدة في العصاب والجنون بانواعه هو المشغل الرئيس الذي اعتمده المخرج ابراهيم حنون في مسرحية: “امكنة اسماعيل” لمؤلفها هوشنك وزيري ليقم تماثلا جماليا يؤسس عبرة لحظة بصرية مشحونة بالرموز ، وهذه الرموز تنجدب للاشعور وتكتفي بالايماء وهذا ما منح العرض قدرا كبيرا من الاسرار التي تدهب بالمتلقي الى تحيقق قراءة لمتخفيات واحدا من النصوص السيكولوجية المدروسة والمختارة بعناية فائقة والذي وضعه حنون على طاولة الكشف والتفكيك.
لان المؤلف كان على دراية بخطاب الجنون ويدرك تماما بان المجنون بلا انا ليكون وسيطا نصغي عبره الى الخفايا التي جعلته ينسحب من العالم الخارجي وينجدب الى مناطق تشكل معه القطيعة التامة من هذا الاطار، يدرك المؤلف ان الجنون يستعصي على الحضور لانه مقاوم ويمثل التباسا وتوتر دائمين ولانه بلا انا بالتاكيد سيكون بلا ذاكرة, والمجنون يلتحم مع كل الامكنة ويذوب فيها لانها لا تمثل له الا علبة للتفريغ.
ووفق هده الرؤية ستكون كل الامكنة متشابهة ولا وجود لامكنة اسماعيل لان المجنون الفاقد لاناه يكون منفصلا عن العالم الخارجي وكل تحولاته في الحروب وغيرها لا تشكل ضغطا لانه منغمس في تصفية حساب المكبوت وتفريغه, وعلى وفق هذه الدراية يحاول المؤلف القبض على مستويات الصراع واكتناه ماهية الجنون عبر ابتكار شخصية ملائمة تستطيع الكشف عن اللاشعور من خلال وساطة الانا
لذا ابتكر شخصية تحمل من الثقافة بما يسمح له ان يؤسس خطابا يحمل بين طياته اشكالية الوجود وضغط العالم الخارجي فوقع الاختيار على اسماعيل الذي تقمص الجنون لسنوات عديدة واطلق اللاشعور ليكون متاحا وطازجا وغبر محرف وهده العملية تتم عبر تعطيل الانا, ورقابتها ليتمثل هدا السلوك فعل الجنون المراد الايحاء به للحصول على تصريح رسمي بالجنون ليتخلص من التهم المنسوبة اليه والتي تقوده الى الاعدام وهذه التجربة الطويلة في استعمال اللاشعور وبهده الدينامية لا تنتهي من دون ضريبة اي ان هذه الدربة في التقمص التي دامت لسنوات عديدة ستجعل اللاشعور قريبا من الانا بفعل مرونة الاتصال السلوكي المتكرر ، ان لم نقل ان هدا النسق يحتل بعض منه ويربكه وانتهاك الانا عبر التقمص ستجعله فيما بعد وبهذه الدربة والتكرار ناكصا ومنجدبا للمناطق النائية من اللاشعور.
ومن هذا الاتصال يستطيع ان ينتج اللذة التي تتماثل مع فعل الجنون وهده التجربة ومن خلال الحوار تتماثل بكل جزياتها تقمص الجنون تصريح الجنون اللجنة الطبية وحتى عدد شخوص النص مع تجربة الكاتب خضير ميري التي عاشها في مصح الرشاد – الشماعية- هده التجربة القاسية التي شكلت منعطفا كبيرا في حياته الشخصية وهدا التناص لا يوثر على فلسفة المولف واهدافه لان هذه الفلسفة تقوم على مادة مهمة تكشف لنا ان الانسان السوي وغير السوي بطبيعته مشروط بتكرار الافعال التي طالما شكلت له قيمة على مستوى اللذة اللاشعورية، وان كان الحصول عليها ياتي من بوابة الجنس او العدوانية او التفريغ في مصح .
و هذا الفعل اطلق عليه موسس علم نفس الاعماق فرويد -اجبار التكرار – وهو المفهوم المركزي الذي اسس عليه النص ابراهيم حنون في مدن اسماعيل ومن هدا الاشتباك والجدب بين الانا والواقع تخلى عن مطاردة المعنى ليبقيه زئبقيا يغادر التاطير ويمتنع عن الظهور وهو مقترح يقاوم التلقي الذي يجعل العرض متاحا للشعور ومغبيا في ذلك سيرورات اللاشعور، لان حنون جعل العرض ممثلا لرحلة الصراع الازلي بين هذين النسقين ليشكلا محطة تنطلق منها تشكيلاته الجمالية والتي حرص على ان تكون مركبة وتبث روى متنوعة لتعطي الانطباع على ان اللاشعور لا يمكن تاطيره,
لكن من الممكن تجزئته وان الاخراج من وجهة النظر هذه يتشكل عبر الابتعاد عن تبني القراءة المقابلة التي ينتجها المضمون ليتقبل العرض اكثر من تاؤيل وينفتح على التباين من هده التاويلات وهذا ما كان واضحا من خلال التشكيلات التي اختار لها ان تمضي في اروقة التجريد التعبيري حتى ليبدو ان هدف العرض هو ليس قول كل شي بل الهدف الرئيس هو استنطاق النص وجعل المتخفي فيه متاحا عبر الايحاء فقط,
لان المخرج حنون يدرك حجم الغموض الذي ينتجه الجنون وهذا ما يعطي الانطباع الكافي على انه اراد من خلال مغادرة المعنى ان يفسح المجال الكافي للجنون، لان يتشظى وهذه الوظيفة تجعل المخرج مراقبا دقيقا للتهويمات التي ينتجها الجنون لانها قابلة للابدال وتعطي دفعا لتنوع التكوينات البصرية وتضخها بمتطلبات شتى لانها تتمثل اللاشعور وهذا الاصغاء المطلق على هذا النسق جسدته المجموعة التي كانت تضخ العرض بشحنة التاويل التي يستثمرها حنون بسبب مرونة التكوينات وتناسلها والتي تبدو بسبب شحنتها التجريدية ممثلة لعمق الجنون حتى يبدو العرض من هده التشكيلات وكانه جلسة سريرية تنطلق فيها التداعيات الحرة التي حرص حنون ان يجعلها متاحة للجميع, لان الاشكال الجمالية الرديفة التي انتجها لمعالجة الصراع تنحرف عن خطوط المضون وتعمل باتجاه اضاءة المصادر المكبوتة الضاغطة التي دعت اسماعيل لتكرار تجربة المصح للحصول على اللذة وهي القيمة الفنية التي تجعل العرض فضاءا لانتاج الاسئلة ليتحول المتلقي الى موؤل ثان يذهب للحوار مع الاشكال المقترحة لاستنطاقها.
والمسرح بفضائه المفتوخ والشاسع تحول الى زاوية صغيرة بقدرة وحضور الفنان الكبير رائد محسن والفنان القدير باسل شبيب والفنانة الرائعة —-والمجموعة العفوية التي تشكل الرؤى الخيالية التي ينتجها لاوعي اسماعيل ونستطيع ان نختزل اشتغالات المخرج بالخطوات التالية:
1_العرض يوحي على ان العالم الخارجي بانساقه الضاغطة يطرد السيرورات اللاشعورية غير المحرفة والمصعدة والتي لا تلاءم نسقه الاجتماعي وجعل الحرب قيمة متعالية وسامية.
2_حاول ان يعطي الانطباع الكافي لتمظهر المكبوت عبر احتلاله للانا وغياب المقاومة لتكون الانا ساحة للتقاطعات بين المطالب التي يقاومها الواقع.
3-الاصغاء والتلصص على الصراع بين الثالوث الذي يشكل القيمة النفسية للفرد الا وهو االشعور واللاشعور والواقع ليؤطر المصير النهائي للانا في ظل هدا الضغط الداخلي والخارجي