نوستالجيا الأركاح / د. كريم لفحل الشرقاوي
النوستالجيا فخ الذاكرة الملتبس .. فخ ماكر يلوح بك قسرا إلى المقعرات الكامنة في مقفرات الذات .. إنها ردة جوانية و قفزة شاقولية نحو الماضي التليد .. حيث عبق الأمكنة المضمخة بتوابل الحنين .. و حيث الشجن و الحكايا المتوارية في الركن القصي السحيق … هكذا تلبستني نوستالجياي و أنا أطوي المسافات نحو مدينة الخميسات التي ستحتضن حفل توقيع إصداري الجديد ” أهل المخابئ ” .
إرتشفت ماء معدنيا .. والتفت حيث الأشجار تسابقني في الإتجاه المعاكس .. وحيث البرك الصغيرة تعاند الركود الآسن .. وحيث الطريق تمارس علي اغترابا عصيا على التشخيص .. وحيث الذكريات تتناثر كحبات سبحة أنهكتها نقرات الأصابع المتبتلة .. ليقفز إلى ذهني شريط تعييني بمدينة الخميسات و أنا القادم من مدينة فاس … كما قفز إلى ذهني شريط أول لقاء مع الكاتب الكبير أستاذي الدكتور عبد الكريم برشيد و تأسيس جماعة الإحتفاليين و الإشتغال على متنه الدرامي الباذخ ” فاوست و الأميرة الصلعاء ” ثم تأسيس فرقة مسرح المدينة و تقديم ” مشاهدات مواطن عادي ” و ” الفقاقيع ” قبل أن يستقر القرار على تأسيس فرقة مسرح نون التي استمدت مرجعيتها الفلسفية و الجمالية من روح التجريب الرافض لشكلانيتة المجوفة … لتتوالى و تتناسل الأعمال المسرحية التجريبية تأليفا وإعدادا وإخراجا …” الفأر الرمادي ” و ” عقد مع الشيطان ” و ” السيد ميم ” و ” الحجاب ” و ” قصائد البرج المائي ” و ” أهل المخابئ ” و ” عرس العنكبوت ” و ” الحذاء ” و ” التمثال ” و ” الرجل الذي باع الشمس ” و ” لسعات الجسد على صفحات الثلج ” و ” الهاتف الأحمر ” و ” في رواية أخرى ” … لتستمر نفس الإختيارات الجمالية التجريبية عند تعاطي فرقة مسرح نون مع تجربة المسرح الأمازيغي كما هو الحال في ” أركاز إزنزن تافوكت ” و ” ثاماثارت ” و ” جنون مؤقت ” … أعمال مسرحية مارست الشغب الركحي و حصدت العديد من الجوائز بفضل شباب محلي مبدع وعاشق لسحر الخشبة ومتبتل بمحرابها و طقوسها و تراتيلها …
تجرعت رشفة من القارورة البلاستيكية بعد أن انتشيت انتشاءا بربرتوار المشاهد المسرحية التي استبدت بي و بمخيلتي .. لكن سرعان ما وجدت نفسي محاصرا بشخوص مسرحياتي التي سبق أن اعتصرت من روحي اعتصارا و استقطرت من دمي استقطارا لكي أمنحها الحياة في البرزخ الركحي … لقد كانت اكثر منا صفاءا و أكثر بهاءا و أكثر صدقا و توهجا وإشراقا … استعارت شخوصي مني صبيب قلقي لكي تستعيد أكسير الوجود قبل أن تشيعني إلى مدخل مقهى ENJOY استفسرتها عن معنى هذا الإسم فأخبرتني بانه يعني “إستمتع” .. وفعلا كانت المقهى في ذلك اليوم فضاءا للإمتاع و المؤانسة الثقافية و المتعة الفنية والإبداعية ينير مجالسها ثلة من الكتاب و الشعراء و المبدعين المسرحيين والفنانين التشكيليين … وجوه متوهجة ومشعة سبق و أن تقاسمت مع بعضها فورانا إبداعيا و شغبا ركحيا يتأبى على المحو و الإنمحاء .. إضافة إلى وجوه مشرقة احتضنت بشغف أشغال حفل التوقيع في طليعتهم الفنانة الراقية وفاء المسعودي مديرة المقهى الثقافي ENJOY و الفنان حسن ضاوي المنسق المحلي لشبكة المقاهي الثقافية بالمغرب و الباحث السوسيولوجي الأستاذ عبد السلام النهيري الذي أدار باقتدار دفة هذا اللقاء .. و الكاتب و الناقد محمد السغروشني الذي تكفل بمعاقرة المتن الدرامي متسللا إلى مدن المخابئ عبر سراديب الإغاثة .. محاولا استقراء علامات النص و استنطاق شخوصه واستبطان تجاويفه و استكناه عوالمه الحضيضية مصنفا منجز ” أهل المخابئ ” ضمن ما سماه بديستوبيا الخطاب الدرامي .
لقد كان حفل توقيع نص ” أهل المخابئ ” بمدينة الخميسات يوما نوستالجيا بامتياز إستعدت فيه ومن خلاله صبوة عشق لمدينة رسمت على صفحات خشباتها وأركاحها تواقيع لا يعتريها النسيان .