رائحة كريهة فى أنوف لا تشم تأويلات لمسرحية "شباك مكسور" / مروة الجبالى
(ليس هناك حقائق بل فقط تاويلات) هكذا يقول (نيتشه) ومسرحية (شباك مكسور) تفتح شباك التأويل على اتساعه، فمنذ اللحظة الأولى من المسرحية نجد انفسنا أمام نقطة ذروة ساخنة حيث أب يعترف بقتله لأسرته ثم يستدعى شخوص هذه الأسرة لتعرفينا بهم وكذلك تعريفنا بالمكان الذى يعيشون فيه ومشكلة (الشباك المكسور) الذى يطل على (خرابة) يلقى فيها أهالى الحى بقمامتهم مما يبعث برائحة كريهة داخل البيت ولكنهم اعتادوها حتى أنهم جميعاً لايشمونها فقدوا القدرة على الإحساس والتمييز، فتبدو هذه (الخرابة) بما تحمله من فضلات وما تنقله من روائح كريهة هى المجتمع المحيط بهذه الأسرة بل وبكل أسرة، والتى أعتاد أفرادها هذا الشعور المقزز فتعايشوا معه ولم يسعوا لتغييره أو حاولوا التمرد عليه.
لا أحد يملك منظور مطلق للواقع ورؤية للعالم والكاتبة تقدم منظوراً عدمياً غضباً للواقع من خلال رؤية (عطية) لعالمه وعالمنا معه، فيشكك فى كل شئ ويتهم كل العلاقات الإنسانية بالتعفن والفساد من أول علاقته بأمه مروراً بعلاقته بزوجته وابناؤه وجيرانه.
ومن خلال استعراضه لكل شخصية تتضح شكل علاقته بها وما يشوبها من قصور فهذه الأم التى أعتادت منذ صغره أن تصفه بالفاشل حتى أنه يفشل فعلا فى تحقيق ذاته وكأنه ينفذ رؤيتها له، هذه الأم القعيدة ليس لها من تسلية الآن سوى التحدث فى الموبايل مع رجال قد لا تعرفهم، ويعجز(عطية) عن اثنائها عن هذا التصرف الغير لائق والذى يدفع زوجته لأتهام أمه بسوء الخلق، هذه الزوجة التى تعمل مدرسة للغة العربية وترفض إعطاء الدروس الخصوصية لأنها حرام بينما تقصر فى آداء عملها داخل الفصل المدرسى وتتعامل مع تلاميذها بوحشية وتنمر، فهى متدينة ظاهرياً كأغلب أفراد المجتمع وتستقى ثقافتها الدينية من الإعلام الذى يركز على القشور والمظاهر الدينية ولا يلتفت للبواطن ولصحيح الدين.
أما الأبناء فهم الأبنة الكبرى(لواحظ) والتى ترفض حياتها بدءا من أسمها مرورا بعلاقتها بخطابها الذين يفرون منها تباعاً بسبب عصبيتها وعدوانيها تجاه الآخرين حتى يتم زواجها بشخص لا يوجد بينها وبينه تكافؤ أو تفاهم ولكنه يختفى بشكل مفاجئ بعد مرور أقل من عامين على زواجهما لتعود لبيت ابيها بطفليها منه ليشكل الجميع عبء جديد يضاف لاعباء (عطية) والتزاماته، أما الأبنة الصغرى الطالبة فى الثانوية العامة فهى شغوفة بالعالم الغامض للجن والعفاريت وكأنها تهرب من واقعها إلى خيال تصطنعه وتحاول فرضه على الآخرين، وياتى الأبن الأوسط محملا بنظريات فلسفية بحكم دراسته فى كلية الآداب قسم الفلسفة ليتشدق دائماً بمقولات فلسفية حتى وإن لم تكن فى موضعها، ولكنه يوضح نظرية (النوافذ المحطمة) وهو العنوان الفرعى للمسرحية وهى نظرية فى علم الجريمة يمكن تفسيرها بمنطق أن معظم النار من مستصغر الشرر فالإهمال فى إصلاح نافذة محطمة (شباك مكسور) وإن بدا أمرا بسيطاً لكنه يجر مع الوقت متاعب جمة مثل هذه الرائحة الكريهة التى تحاصرهم حتى أنهم اعتادوا هذا القبح، وكذلك مثل تدخل الجيران وإطلاعهم على تفاصيل حياة الأسرة، فنجد الجار الذى يراقب حياة (عطية) واسرته ويتدخل فيها ممثلا لقوانين إجتماعية تفرض نفسها علينا لتجعلنا نتصرف تبعاً لها وليس كما نريد ونرضى لأنفسنا.
وفى مشهد (الحلم) تقدم لنا الكاتبة رؤية (عطية) لكل فرد من أسرته فالأم تنهض من فوق كرسيها المتحرك لتراقص مذيع التليفزيون، والأبنة الكبرى تتهجم على زوجها فتفترس ذراعه، والأبن يحاول فرض نظرياته الفلسفية هاتفا بها فى غير محلها،ولكن بعد مشهد الحلم تأتى مرحلة التكشف حيث نكتشف ان لكل شخصية وجه مخالف لما نراها عليه فلا توجد حقيقة مطلقة،فالأم التى تتحدث للرجال من خلال الموبايل ليس لديها شريحة(خط) موبايل من الأساس،والابنة الكبرى التى اتهمها الجميع بأنها السبب فى هجر زوجها تحملت معه صعاب وشظف العيش حتى تعرض لموقف فى عمله سبب له حالة نفسية جعلته يهرب ويختفى عن الجميع.
ولا يزال (عطية) يحاول التعايش مع كل هذا الكم من الاحباطات حتى تواتيه الفكرة أثناء تحضيره طعام الغذاء لأسرته بأن يدس لهم السم فيه، ولكن وللمفاجاة تخالف الكاتبة التوقع الذى صدرته لنا فى بداية المسرحية لنجد أن أحدا من أفراد الأسرة لم يمت،بل إنهم جميعا أستمتعوا بوجبتهم وطالبوه بالمزيد منها. أى أنه حتى حينما حاول (عطية) التخلص من واقعه العفن الفاسد كما يراه لم يستطع، فهو واقع متجدد بكل ما يمثله من قرف وتقزز.
فعطية هنا يمثل كل إنسان وصل إلى مرحلة من النفوروالاشمئزاز من هذا الواقع الفاسد العفن.
نجحت الكاتبة الواعدة (رشا عبد المنعم) بحرفية فى توظيف تكنيك السرد بالبدء بنهاية الحدث الدرامى -مقتل أفراد الاسرة -كجزء من الرؤية العدمية فى النص، نحن أمام نص قوى متماسك محكم البناء يطرح رؤية فكرية عميقة فى اطار درامى سلس.
أما المخرج( شادى الدالى) الذى يمتلك أدواته فقد استطاع توصيل هذه الرؤية من خلال توظيفه لحركة الممثل حيث نجد دائما (عطية) يمثل كتلة على أحد جانبى المسرح بينما بقية أفراد الأسره جميعا يمثلون الكتلة المناظرة له، ومثلا هذا الجار المراقب المقتحم لا يدخل إلا من خلال الشباك المكسور فهو يمثل هذا المجتمع المتطفل ويوازى هذه الرائحة النتنة الكريهة التى يحملها هذا الشباك لعطية وأسرته.
اما الديكور فقد أتسق أيضاً مع الرؤية الفكرية والدرامية للنص فالمنظر الذى يمثل صالة بيت (عطية) عبارة عن حوائط متباعدة غير متصلة يظهر من بينها البيوت المجاورة وكأن الكسر فى كل ركن من البيت والذى يعكس الكسرداخل الشخصيات وعلاقاتها ببعضها وبالمجتمع وليس فى الشباك فحسب.
جاءت كذلك الإضاءة معبرة عن المواقف الدرامية مثل استخدام اللونين الأزرق والأصفر فى مشهد الحلم،اما الموسيقى فقد تم توظيفها بما يتناسب وطبيعة المسرحية.
جاء الآداء التمثيلى بسيط او السهل الممتنع إن جاز التعبير بداية من أحمد مختار(عطية) والذى يحمل على عاتقه العبء الأكبر فى المسرحية فقد نجح فى تجسيد شخصية الموظف المغلوب على أمره والذى يفشل دائماً حتى فى محاولة التخلص من واقعه المؤلم.أما الزوجة(نادية شكرى) فقد أدت دور الزوجة المطحونة بين عملها وبيتها والمثقلة بأعباء الأبناء والتى تتمسك بمظاهر الدين لعل وعسى تكون الجائزة فى الحياة الآخرة.
كذلك نجح الأبناء فى تادية المطلوب لطرح مشاكل جيل بأكمله يحمل كماً من الإحباط وفقدان الأمل والثقة فى النفس وضبابية الرؤية المستقبلية.
شباك مكسور عمل مسرحى تمكن صانعوه من تقديم رؤية فكرية ودرامية فى تناغم بين أدوات العمل بداية من النص مرورا بالإضاءة والموسيقى والديكوروالتمثيل وانتهاءا بالأخراج.
تحية لمسرح الطليعة لتصديه لانتاج هذا العمل ورعاية المواهب الواعدة فى مجالات التأليف والاخراج، ولا يسعنا الإ أن ندعو لمد فترة العرض لأنه بالفعل عرض ممتع يستحق المشاهدة، متعة تلقى عمل يحمل الكثير من علامات الاستفهام،يحملنا على مراجعة سلوكنا الإجتماعى تجاه انفسنا وتجاه الآخرين.