نص مسرحي:" الوادي الغريب" / تأليف: خالد جمعة

(ثلاثة أشخاص يتحركون في مكان خال بخطوات حذرة، حريصون على وضع أقدامهم على الأرض بهدوء، لا يريدون أن يصدروا صوتاً، أيديهم ممدودة للأمام تعوم باتجاهات مختلفة، أما رؤوسهم فثابتة لا تتحرك، وكأنهم يتنصتون إلى شيء ما. في عمق المكان، تظهر فتاة جالسة على الارض، مادّة يديها إلى الأمام، يداها تحملان كرةً من خيوط الصوف، الفتاة تحرّك رأسها على جهة ما فتثبته مرةً على وضعية محدّدة مدةً قصيرة من الزمن ثم تعود مرةً أخرى لتثبته على وضعية أخرى، كأنها تنصت إلى شيء ما أيضاً، تستمر على حركتها المتناوبة هذه طوال المشهد. لون أزرق باهت يسقط على الشخوص، في عمق المكان الفتاة ستكون محاطة ببقعة دائرية من ضوء أصفر، فجأة تعلو أصوات حشائش وأدغال تدوسها أقدام تركض مصحوبة بأنفاس رجل يلهث، الرجال الثلاثة يختفون من المكان، لتتصاعد بعدها أصوات الأقدام الراكضة المصحوبة بالأنفاس اللاهثة، الأنفاس ستكون متباعدة ومتمايزة في البدء لتتداخل مع بعضها فيما بعد، الفتاة مازالت على وضعيتها نفسها، غير آبهة بالذي يحدث، فجأة تتوقف الأقدام عن الركض، ويهيمن الصمت في المكان، لتجيء أصوات أقرب إلى الهمس).
صوت الرجل1: ( بصوت واطئ) إننا نقترب منه.
صوت الرجل2: (بنبرة الصوت الواطئة نفسها) نحتاج الى الهدوء والتركيز.
صوت الرجل3: (بنبرة الصوت الواطئة نفسها) لنبق على المسارات نفسها، أنه ضمن مجالنا الآن، ضيّقوا عليه الخناق!
صوت الرجل1: (بنبرة الصوت الواطئة نفسها) لا ترفعا صوتيكما، هيّا اقتربا أكثر من بعض، فهو محاصر الآن، لنحكم الطوق عليه.
(صوت تشابك بالأيدي وتدافع بالأجساد، أصوات مقاومة شخص وتأوهات عالية، أصوات النباتات التي تسحق ترتفع اكثر، لا يظهر من الرجال سوى أصواتهم فقط).
صوت الرجل2: هل أمسكت به؟
صوت الرجل1: (بصوت مخنوق) تعالا ساعداني بإمساكه وايقافه لئلا يفلت من قبضتي، هيا ساعداني… تعال أغلق فمه، إنه يحاول عضي، أغلق فمه.
الرجل3: هل هو بشر؟
الرجل1: لحظة، دعني أتلمس وجهه، يشبه البشر لكن لديه نتوءين في مقدمة الرأس لا أعرف ما هما..
الرجل2: دعني أتلمس النتوءين أنا ايضاً فلربما أعرف ما هما .
الرجل3: وأنا ايضاً أريد أن أتلمس هذين النتوءين.
(صوت صراخ عال، وصوت سقوط جسد على الارض، بعدها يدخل الغريب بقميص شبه ممزق، يرمي جسده على عصا أثناء دخوله للمكان، يمسكها ويستعد للقتال بها، الأشخاص الثلاثة يبقون خارج المكان، غير مرئيين).
الغريب: ابتعدوا عني ايها المجانين، ابتعدوا، ابتعدوا، سأقتل كل من يقترب مني، كدتم أن تفقؤوا عيني، كدتُ أن أفقد الرؤية.
صوت الرجل1: (بخوف) ماذا قال؟
صوت الرجل2: هل سمعت تلك الكلمة الغريبة التي قالها؟
صوت الرجل3: قال عيني، ما الذي يقصد بعيني؟!..
صوت رجل2: قال رؤية، ما الذي يقصد برؤية.
صوت الرجل1: ( محذراً) لا تقتربا منه، ابتعدا عنه، دعاه، لا تخوضا قتالاً معه، ولا تلمساه، لا تعرّضا نفسيكما للخطر، فهو في الحالات كلها سيكون محاصراً بهذا الوادي الذي لا يعرف مسالكه، هذا الوادي قفص الغرباء، دعوه الآن، انتظرا هنا سأذهب اليه أنا وحدي كي أعرفه ، ابقيا هنا ولا تتحركا أبداً.
(صوت أقدام تبتعد وأصوات أحراش ونباتات مسحوقة تخفت أيضاً، الغريب ينسحب وهو يمشي إلى الخلف وعصاه بيده وهو بوضع المتأهب، تختفي أصوات الأقدام والأحراش والأدغال المسحوقة تماماً، الفتاة التي كانت في العمق وعليها بقعة ضوء تنهض وتتجه إلى يمينها لتعود ثانية إلى الشمال، صوت أقدام وظلال  زرقاء شاحبة لرجل يتحرك قريباً من مكان الغريب، يدخل الرجل1 للمكان ويقترب من الغريب).
الرجل1: أخي أيها الغريب، أخي أيها الغريب..
الغريب: (يتأهب للمعركة ملوحاً بعصاه يميناً وشمالاً)ابتعدْ عني، ولا تقترب، ماذا تريد مني؟
الرجل1: أنا كنت مع الرجلين وحاولنا القبض عليك، وانا من طلبتُ تركك (يتقدم بخطوات، يبتعد عنه الغريب خطوات وهو يلوح أمام وجه الرجل بالعصا، التلويح بالعصا). 
الغريب: لا تتقدم أكثر، قفْ مكانك، سأضربك بهذه العصا.
الرجل1: لا أريد بك شراً ، انما جئت أسألك.
الغريب: قل ما عندك.
الرجل1: سمعتك قلت كلمتين لم افهمها، قلت عيني ورؤية، ما معنى كلمة عيني؟ وما معنى كلمة رؤية؟ (يتقدم خطوة صوب الغريب).
الغريب: (وهو يلوح بعصاه) قفْ في مكانك ولا تتحرك.
(يتراجع الغريب الى الخلف ويختفي من المكان، بعدها نسمع صوت أقدام راكضة وأصوات حشائش وأدغال تسحق بالأقدام، الرجل1 متلفتاً حوله، يلتف حول نفسه بحركة دائرية، برأس مثبت على وضعية واحدة يغيرّها بين مدة واخرى، اللون الازرق يزداد عتمة).
الرجل: أينك أيها الغريب، ما معنى عيني؟، ما معنى رؤية؟..
(يتحرك رجل1 بالمكان وهو يردد الكلمات نفسها (ما معنى كلمة عيني؟ ما معنى رؤية؟ أينك أيها الغريب؟) يردد هذه العبارات بعض الوقت، يتوقف فجأة فيضاء المكان بالأزرق الباهت ليجد الفتاة صاحبة كرة الصوف أمامه).
الرجل: (بانفعال) منذ متى وأنتِ هنا أيتها الفتاة؟
الفتاة: هل هذا السؤال لي؟
الرجل: نعم..
الفتاة: لا شأن لك بذلك، هذه الأرض هي حقل أهلي، هو مكاني إذن، أنت ما الذي جاء بك إلى هنا في أرضي؟
الرجل: ما الذي سمعتِه، هيّا قولي؟
الفتاة: أتحققُ معي أنت؟ ما الذي تريده ؟ ابتعد من هنا، هيا ابتعد.
الرجل: (مع نفسه) عنادكِ أيتها الفتاة يستفزني ويجعلني أرغبُ بكِ أكثر وأحلم، لستِ تشبهين الأخريات، يسحرني العناد والتمنّع..
الفتاة: ( تنهره) لا تقفْ هكذا في طريقي، اذهبْ من هنا، هيّا اذهب..
(يغادر الرجل المكان الذي سيظلم كله باختفائه من المشهد… الغريب يقف متيبساً  كالتمثال وهو بوضعية الاستعداد للقتال رافعاً عصاه بكلتي يديه).
الغريب: (مع نفسه) أين أنا؟، أيّ مكانٍ هذا الذي سقطتُ فيه؟ الأشجار، الطرق، الشوارع كأنها خربشات مقصودة مخططة باليد (يستدير حول نفسه بخفة ثم يعود الى وضعيته السابقة) والبيوت، البيوت ليس فيها نوافذ، من كان هؤلاء الذين أرادوا القبض علي؟ ما الذي أرادوه مني؟ ولمذا يتحركون هكذا؟! (صمت).. لقد بردتُ وتشنّج جسدي بسبب وقفتي هذه، لقد خارت قواي، تعبتُ ولم تعدْ لديّ القدرة على الصمود أكثر، يجب أن أستريح قليلاً.
(يضع الغريب عصاه على الأرض ويقرفص قربها، يلمّ ساقيه بكلتا يديه على صدره، أصوات حشائش وأدغال تسحق بأقدام قادمة من بعيد، ظلمة تعمّ المكان، أصوات الأقدام تقترب أكثر، لون أزرق باهت يعم المكان، الفتاة تظهر بالقرب من الغريب، يقفز الغريب، يتناول عصاه بيده وينسحب إلى الخلف مسافة خطوات وهو بوضع الاستعداد للقتال).
الفتاة: توقفْ! لا تتحرك! لا تبتعد اكثر من هذا!
الغريب: منْ أنتِ؟ ماذا تريدين مني؟
(تقترب الفتاة اكثر، يتراجع الغريب إلى الخلف، تصرخ به الفتاة).
الفتاة: قلت لك قفْ في مكانك ولا تتحرك، لا تتحرك أية خطوة للخلف، هل فهمت؟
الغريب: (يقف في مكانه متسمراً) وقفتُ، لكن لا تتقدمي أنتِ (تقف الفتاة في مكانها) حسناً أبقي هذه المسافة بيننا، والآن ماذا تريدين مني؟
الفتاة: أريد أن أحميك.
الغريب: كيف، لم أفهم.
الفتاة: أحميك من الخطر الذي يحيطك الآن.
الغريب: لم أفهم.
الفتاة : أنت الآن في خطر، ثق بي، أو لا، تحسس بعصاك الأرض التي على شمالك، تحسسها بعصاك دون أن تنقل جسدك، إبق كما أنت، عصاك فقط (يتحسس الأرض من جهة الشمال كما طلبت منه)ها،  ما الذي شعرت به هناك؟
الغريب: حفرة!.
الفتاة: أصغ اليّ الآن إذن، اسمع تعليماتي، أنت الآن في مكان محاط بالفخاخ وأي خطأ سيكلفك كثيراً، اسمع تعليماتي، انسحب خطوتين صوب يمينك، انسحب بأقدام زاحفة، والآن خطوةً إلى الخلف (الغريب يستجيب لها وينفذ ما تطلبه تماما) حسناً، الآن انسحب إلى الخلف بثلاث خطوات، لا ترفع قدميك عن الارض وأنت تنسحب، تحسس الأرض بهما، ركز بقدميك فقط وأنت تسمع ارشاداتي ( يختفي الغريب من المكان وتبقى هي وحدها في المكان) والآن اجلس في هذا المكان فهو آمن، سأذهب لأجلب لك ما تتدثر به من البرد وبعضاً من الطعام، ابقَ في مكانك ولا تغادره. (يعمّ المكان الهدوء الذي سيكون مضاءً بزرقة داكنة، تمشي الفتاة مسافة قصيرة فتصطدم بجسد الرجل1 لتجفل.
الرجل1: مع من كنت تتحدثين؟
الفتاة: أنتَ ثانيةً؟! ما الذي تريده بالضبط، لماذا تتابعني كاللص؟.
الرجل1: سمعتكِ تتحدثين مع أحد، مع مَن؟
الفتاة: لا أحد، ولا شأن لك بي، دعني أمر ولا تقف في طريقي ايها المعتوه.
(يقترب الرجل1 منها اكثر فيقطع عليها الطريق).
الرجل: هل تحدثتِ معه؟
الفتاة: منْ؟
الرجل: الصيد الذي فلت منا اليوم.
الفتاة: أيَّ صيد؟ لم أفهم عن أيّ شيءٍ تتحدث، دعني أمرّ.
الرجل: لقد كنتِ قريبةً منه، ولا تنكري ذلك.
الفتاة: ابتعدْ عن طريقي، هيّا..(تدفعه عن طريقها وتمرّ، لتختفي في المكان، هو يصرخ خلفها).
الرجل: أنا قلقٌ عليكِ منه، إنه غريب وليس من أهل هذا الوادي، هو رجلٌ ممسوس، يتحدث بكلمات غريبة، كلمات مبهمة، كلماتٍ حين سمعتُها ارتعد قلبي من الخوف وكادت أنفاسي تنقطع (لحظات صمت، ثم يبدأ يتحدث مع نفسه) ترى ماذا كان يعني بعيني؟ ما معنى كلمة رؤية؟
(العجوز جالس على دكة وبيده مغزل، تدخل الفتاة مسرعة، تأخذ أغطية بيدها ثم تضعها على الأرض، تختفي من المكان، صوت أوانٍ وصحون، تدخل الفتاة وفي يدها كيس، تنحني لحمل الأغطية).
العجوز: أنت على عجلة من أمرك، ما الذي يحدث أيتها الفتاة؟
الفتاة: لقد عثرت على غريب مطارد من رجال الوادي.
العجوز:(بدهشة) عثرتِ على غريب؟!
الفتاة: لا وقتَ لديَّ أيها العجوز، هناك رجلٌ في الحقل خائف وجائع وبردان ومطارد من رجال الوادي، ولا يعرف المكان الذي هو فيه ولا مكامن خطورته، يقولون إنه كان يردّد كلماتٍ غريبة، كان يقول عيني ويقول رؤية.
العجوز:  (بدهشة) يقول عيني ورؤية؟ اين هو الآن تحديداً؟
الفتاة: في الحقل، حاولت أن أوصله إلى مكان آمن، لقد كان بمنطقة شديدة الخطورة.
العجوز: كل المناطق خطرة على الغرباء في هذا الوادي، إنه وادٍ خلقَ لنا فقط، اما الغرباء فسيبتلعهم، يتحول إلى رمال متحركة يغرقون فيها، هل هو في مكان آمن؟
الفتاة: أخشى ان يكونوا قد انتبهوا إلى مكانه، رآني أحدهم وشكّ بأمري، حاولتُ التمويه، لكن لم أعرف هل نجحتُ أم لا.
العجوز: سآتي معكِ.
الفتاة: لا وقتَ لديّ ايها العجوز، سأركض لأصلَ اليه، أريد ان أنقله إلى مكانٍ آخر اكثر أمانا، لا أعتقد أن مطارديه سيتركونه.. سأذهب.(تضع الأغطية على رأسها وتحمل كيساً بيدها وتختفي، فيما العجوز يعود لمغزله يدور به).
(الرجال الثلاثة يقتادون الغريب مكبلاً، الغريب يحاول المقاومة بجسده، أصواتُ تدافع الأجساد والأيدي، تقف الفتاة مذهولة حين تسمع هذه الأصوات، وتتجمد، وحده رأسها يتحرك حركات روبوتية، بعد كل حركة يتوقف رأسها لحظات وهي تتسمع لتعود إلى تحريكه مرة أخرى بوضعية أخرى، الرجال مع الغريب يجتازون الفتاة، الغريب المحاط بالرجال يلتفت إليها، وهم يسيرون به إلى الجهة البعيدة يبقى رأسه ملتفتاً نحوها إلى أن يختفي هو والرجال من المكان. الفتاة ستبقى وحدها في المكان).
الفتاة: (مع نفسها) الى أين ذهبوا به؟ هل خنته؟ هل كنت سبباً في القبض عليه؟ أكان رأسه ملتفاً نحوي؟ ما الذي أراد ان يقوله؟ ماالذي عليّ ان أفعله الآن؟..
                                              ظلمـــــــة
(العجوز ممسكاً ببندقية، ماسورتها ستكون مصوبة الى الشخوص الثلاثة الذين يقتادون الغريب مكبلاً، وجه العجوز سيكون إلى جهة أخرى، عيناه ليستا باتجاه الشخوص الثلاثة، بل بعيداً عن أجساد الشخوص، العجوز يسحب ترباس البندقية).
العجوز: توقفوا، إن تحرك واحد منكم سأرديه قتيلا في الحال..
رجل1: (مندهشاً) ما هذا الصوت الذي سمعته أيها العجوز؟
العجوز: بندقية.
رجل1: وما معنى هذا؟ ما الذي تريد أن تفعله؟!.
العجوز: قلتُ لكم توقّفوا ، هيا اطلقوا سراحه.
رجل2: ما الذي تقوله، أمجنونٌ أنت؟
العجوز: الذي سمعتموه، هيا اطلقوا سراح هذا الرجل.
رجل3: انه رجل ممسوس، خطر، كيف سنطلق سراحه، لا يمكن هذا.
العجوز: لا تجعلوا صبري ينفد، هيّا اطلقوا سراحه وأعيدوه الى الحقل.
رجل1: ولكننا نحن من عثر عليه، وهو من حقنا.
العجوز: لا تتذاكوا عليّ، لقد عثرتم عليه في حقلي، دعوه هيّا.
رجل2: (للرجلين)  لنترك هذا الغريب، يبدو أن العجوز جاد.
رجل3: ابعدْ بندقيتك عنا واترك لنا فرصة التركيز كي نفك وثاقه .
العجوز: اتركوه فقط، ابتعدوا عن حقلي، هيّا، أنا سأتكفل بحلّ وثاقه.
الرجل1: هيّا أيها الرجال، لنغادر المكان ( يبتعدان مسافة ومن هناك يتوقف رجل2)
رجل2: (صوته من بعيد) سنشكوك لرئيس الوادي أيها العجوز الخرف…
(يختفي الرجال من المكان، فيما يبقى الغريب والعجوز معاً، العجوز يقترب من الغريب ويساعده بفك وثاقه من دون أن ينظر إليه، الغريب حين يصبح حرّاً من قيوده يتحرك حول العجوز، يلتف حوله ويستغرق في التأمل فيه).
الغريب: من أنت أيّها الشيخ الجليل؟ وما هذا الوجه الذي لم أر مثله من قبل؟ لماذا أنقذتني؟ هل كنتَ تريد أن تقتلهم من أجلي؟ لماذا؟ أنت لا تعرفني حتى…
العجوز:(يقاطعه) أمسكْ طرف البندقية، أمسكه بقوة، واتبعني، سأرشدك إلى مكان آمن جداً، مكان قريب من منزلي، لا تتحدث كي لا تتشوش، ركّز على وقع خطواتي، تعال خلفي (يمشيان الواحد خلف الآخر) هنالك مكان آمن قريب من منزلي ستكون فيه، كوخ مهجور، هو عبارة عن مخزن، أغمضْ عينيك وركّزْ لوقع الخطوات، أغمضها بقوة كي تركّز، ففي هذه الأماكن يكون العمى أكثر سلامة من بصيرةٍ حولاء.. (يختفيان)
                                         ظلمــــــــة
(رجلان، أحدهما يصيح)
الرجل1: سيدي الرئيس، يا سيدي الرئيس، أُخرج إلينا وتعال خلّصنا، فهذا العجوز كاد أن يقتلنا ببندقيته نحن الثلاثة، لقد وجّه إلينا بندقيته من أجل غريب ممسوس يهلوس.
الرئيس: (يدخل إلى المكان) ما هذا الذي أسمعه؟ ومن هذا العجوز، وبماذا كان يهلوس الغريب؟
الرجل2: سيدي كان هنالك غريب عثرنا عليه في حقل عجوز، كان يتحدث بكلمات غريبة، كلمات لم نفهمها لكننا شعرنا بالخوف حين سمعناها، كلمات تصيب الارواح بالهلع.
الرئيس: (بانفعال) لحظة، لقد قلت أنتم الثلاثة أين ثالثكم؟
الرجل1: سيدي لقد تركناه متخفياً في الحقل ليراقب ما يجري هناك.
الرئيس: هيا أكمل، ما الذي سمعتموه من هذا الغريب؟
الرجل2: سيدي كان يقول عيني، ويقول الرؤية..
الرئيس: (يصدم) ماذا؟! … (يتحرك بعيداً عن الرجلين ويستغرق مع نفسه)
الرجل1: سيدي الرئيس، سيدي الرئيس ( الرئيس سارح في مكان آخر) سيدي ما معنى عيني؟ ما معنى رؤية؟…
                                            ظلــــــــــمة
 
الغريب: (يجلس على الأرض، يلمّ ساقيه إلى صدره و يتحدث مع نفسه) هذا الذي يحدث معي صار يضيق عليّ بشكل مخيف، بدأ بوادٍ عميق وواسع، وانتهى بكوخ مهجور ضيق، ضيّق كالسجن، هذه الدائرة صارت تصغر وتصغر، ولا أدري متى ستضيق تماماً لتتحول إلى أنشوطة تلتف حول رقبتي وتخنقني (صمت) أين تلك الفتاة، إنها ندى هذا المكان وعطره، يا ألله كم تشبه الطائر بخفته المرحة، قدماها بالكاد تلامس الأرض حين تمشي، لقد ساعدتني هي الأخرى، أريد أن أقبض عليها بذاكرتي فتفلت، أين أنا؟ ومن كل هؤلاء؟ وما هذه العتمة التي تغلف كل شيء، وكأني أعوم في ضباب لزج…
العجوز: (جالس على دكة، بين ساقيه يضع البندقية وراحتا يديه واحدة فوق الأخرى على فتحة ماسورة البندقية، يتحدث مع نفسه).لكل منا خطيئة واحدة لها حصة الندم الأكبر، خطيئة واحدة هي الأم المهيمنة، هي المركز وباقي الخطايا الأخرى تدور حولها، في مدارها، هي الأصل، هي الوحيدة التي لن تهدأ، لن تغفو، فلا هدنة فيها، تخدش الروح طوال اليوم، طوال الساعات، طوال الدقائق، طوال الثواني (تدخل الفتاة، تسمع جدها يتحدث مع نفسه بصوت مسموع، تتوقف، بيدها  الطعام وعلى رأسها الأغطية) الخطيئة الأصل شاهدةُ قبر النفس ووجعها، الوجع الذي يعلمك أن الزمن لا يتوقف ولا رجعة فيه، إنها هواء كالدبابيس، كالذكرى، حدبة الروح المعذبة التي تتكرس وتترسخ في الرأس بتقادم الزمن، لا يمكن محوها، لأنها ستكبر فيه وتكبر حتى تحتويه كله، عندها لا يمكنك استئصالها إلا بتفجير رأسك برصاصة واحدة، برصاصتين، بثلاث…
الفتاة: (تقاطعه بخوف) ما الذي تقوله يا جدي؟
العجوز: (كالمستيقظ من نومه) منذ متى وأنت هنا؟
الفتاة: سمعت كل الذي حدثتَ به نفسك.
العجوز: (يضحك) انه حوار مع النفس، محاسبة وكشفُ حساب أيتها الصغيرة، لا عليكِ بكل الذي سمعتِه، هيا تعالي خذي هذه البندقية وأعيديها إلى مكانها في الجدار.
الفتاة: ماذا؟ البندقية؟!!
العجوز: (ينفجر بضحكة مدوية) تعالي خذيها وسأخبرك بالذي حدث، هيّا.
الفتاة: تضحك أيها العجوز وأنا قلبي كاد أن يقف خوفاً عليك.
العجوز: هيا تعالي خذيها.
الفتاة: (تضع كيس الطعام على الأرض وترمي الأغطية، ثم تأخذ البندقية وتعلقها بالجدار، تجلس وتضع رأسها على إحدى ساقي العجوز) ها قلْ أيها العجوز ما عندك، فأنا حزينة جداً اليوم .
العجوز: حزينة لأنك لم تجدي الغريب، أليس كذلك؟
الفتاة: نعم، كيف عرفت؟، هل خرجت خلفي؟
العجوز: نعم، خرجتُ وأخذت معي بندقيتي القديمة، وجدتُ ثلاثة أغبياء يقتادون الغريب عند الساقية، أوقفتهم وانتزعته منهم.
الفتاة: (بفرح) ما الذي تقوله أيها العجوز العظيم؟ هل حقاً فعلت ذلك؟
العجوز: نعم فعلت ذلك، وتركت الغريب الآن في مكان آمن قرب منزلنا.
الفتاة: أين؟ تعال معي دلني على هذا المكان كي أوصل إليه الطعام والأغطية التي عدتُ بها.
العجوز: انه في الكوخ المهجور يا عزيزتي.
الفتاة: ( تعود لتضع الأغطية على رأسها، وتحاول رفع كيس الطعام عن الأرض لكنها تتوقف لتسأل العجوز) جدي ما الذي جعلك تقوم بكل هذه المغامرة؟ أنت حتى لم تعرف عن الغريب شيئاً.
العجوز: الندم هو الذي جعلني أفعل ذلك (ينفجر بالضحك).
الفتاة: كفّ عن المزاح أيها العجوز وقلْ الحق.
العجوز: لا أدري بالضبط يا بنيّتي، هيا اذهبي للغريب، وأوصلي إليه الطعام والأغطية.
الرئيس: ( يتمشّى ويداه خلف ظهره جيئةً وذهاباً محدّقاً بالأرض.. مع نفسه) مَن هذا العجوز الذي تعيش معه حفيدته؟ كأني أعرفه؟ حدسي يخبرني بذلك؟ .. أخشى أن يكون العجوز إياه نفسه، أيعقل أنه هو؟ عشرون عاماً ولم ينسَ؟، عشرون عاماً مضت وجاء لينتقم منا بهذا الغريب، جاء ليمحو ندمه بهذا الغريب، أما زال نادماً؟ (يصرخ): أيها الحراس، خبروا مجلس الوادي أن الرئيس يدعوهم لاجتماع مهم في الليل، هيّا أسرعوا!، (مع نفسه) لقد أشهر بندقيته على أبناء الوادي إذن، يريد أن يقاتل هذا العجوز، هل تراه قد أعلن تمرده وهذا الغريب سيكون شرارته لحرق الوادي؟ الرؤية والعينان كلمتان لا يردّدهما إلا الأخرق الذي لديه أوهام وضلالات، مجنون، مدمر، لوثتهُ ستحرق الوادي..  (يصرخ) أيها الحرس ائتوني بهذا العجوز صباح غدٍ.
(العجوز يجلس على دكّة وبيده مغزل وقبالته كومة خيوط صوف ملفوفة كالكرة، خيط منها متصل بالمغزل الذي يدور بيدي العجوز، تدخل الفتاة، تمسك بكرة الخيوط، وتأخذها بعيداً عن العجوز والخيط يمتد معها ويبقى مربوطاً بمغزل العجوز، الفتاة تتحرك بفرح غامر وبطريقة راقصة).
الفتاة: (تنشد) ما الذي ترك هذا الطائر الباحث عن حريته؟ خيطاً طويلاً من الدم يمتد خلفه، خيطاً طويلاً سيكون دليلاً للطيور المتمردة الغاضبة التي تبحث عن سماء أخرى، سماء في الطرف الآخر من العالم لا تفتح نوافذ تطلّ على الألم، لا تتذكر حافاتِ النهايات، السماء التي لونّها الغروب بكل هذه القتامة هي قلبي الحزين (تختفية من المكان، ينهض العجوز منتفضاً)
العجوز: كفّي أيتها المجنونة عن ترديد مثل هذه الكلمات، توقفي، صهٍ، لا ترفعي صوتك بها لئلا يسمعك الآخرون، حذارِ من ترديد تلك الكلمات المحرّمة في هذا الوادي، من علّمك كل هذه الكلمات الغريبة؟..
الفتاة: (تدخل ثانية وبحركة الرقص نفسها تحدث العجوز الذي يعود ويجلس على الدكة وبيده مغزله الذي سيدور ثانية) لعلها روحٌ ممسوسة حلتْ بي ولقّنتني هذه الكلمات، (يظلم المكان الذي فيه العجوز) جدّي، جدي هل تسمعني؟ أريد أن أخبرك سراً، لقد كنت أغبط طائراً مغرداً كان يفقد صوته نهاية كل موسم، لقد كان يفقد صوته بعد أن يملأ السماء به، بعد أن تسمعه كلُ موجودات الكون، سيتلف جزءا في دماغه، سيتلف خلايا الغناء، يدمرها تدميراً ذاتياً، من داخله هو، وبإرادته هو، أتعرف يا جدي لم يفعل هذا؟ لكي يعود من جديد ليتعلم صوتاً آخر جديد، صوتاً لم تسمعه موجودات الكون بعد، صوتاً غريباً نادراً ووحيداً.. (الفتاة ما زالت تتحرك منتشية وسعيدة)
                                                          ظلمــــــــــــــــــة
(رجل1 يتحرك بخفة في المكان ومحاولاً التخفي، مرة يقف واخرى يبرك، الفتاة تطرق الباب، يظهر الغريب، تناوله كيس الطعام والأغطية، وتهمّ بالمغادرة، الرجل1سيظهر بالجهة الأخرى من المكان متنصتاً لحديث الفتاة والغريب).
الغريب: توقفي، إلى أين؟
الفتاة: (من دون أن تلتفت إليه، وبصوت خافت وحزين) ماذا تريد؟
الغريب: أنتِ حزينةٌ اليوم؟
الفتاة: نعم..
الغريب: لماذا؟
الفتاة: جدي أخذه حرس رئيس الوادي اليوم.
الغريب: بسببي أنا، أليس كذلك؟
الفتاة: نعم، لأنه أنقذك .
الغريب: لكني لست لصاً، لم أهدّد أحداً، غريب، مجرد غريب وقادتني الأقدار إلى هنا.
الفتاة: لا أدري، اسمح لي بالرحيل.
الغريب: لحظة أرجوك، لقد سألني الرجال الذين حاولوا اعتقالي أسئلة ساذجة، غريبة، كانوا يتساءلون عن معنى العينين، وعن معنى الرؤية، أحقاً إنهم لا يعرفون معنييهما؟
الفتاة: (باستغراب) ماذا قلتَ؟ أعدْ ما قلتَه أرجوك.
الغريب: (باستغراب) أنتِ أيضاً لا تعرفين ما معنى العينين وما معنى الرؤية؟
الفتاة: دعني أركّز لعلّي أتذكر معنى هاتين الكلمتين، لأني أكاد أشعر بهما وكأنهما مدفونتان في أعماق ذاكرتي، أشعر بوجودهما لكني لا أكاد ألمسهما، كأنهما ذكرى لشيءٍ قد تآكلَ، شيء قد فقدَ ملمسه، شيء بعيد ، بعيد جداً (تختفي من المكان)
الغريب: أين أنا؟  انتظري أيتها الجميلة، لا تتركيني هكذا، انتظري أيتها الندى.
الفتاة: (تعود للمكان)اشرح لي ما معنى عينين وما معنى رؤية؟
الغريب: سأصف لك ما يدور حولك وحولنا من خلال الرؤية بالعينين، لتعرفي ما معنى هذين الكلمتين (يمسك يدها ويتجه إلى جهة أخرى) السماء زرقاء، الزرقة لون دافئ، لون سلام، لون طمأنينة، في تلك الزرقة غيوم بيض متناثرة هنا وهناك، الغيوم البيض شيء تضيف للسلام براءة ونقاء (يتمشيان) هنالك البحر أزرق أيضاً، يعكس لون السماء حينما يكون هادئأً وساكناً، لكنه حين يكون غاضباً سينسى زرقته، وتظهر انفعالاته على شكل أمواج، الأمواج كالقوارب الهائجة …(يختفيان)
                                            ظلمــــــــــــــــة
(رئيس الوادي والعجوز يقفان في المكان، مسافة خطوتين بينهما، ظهرهما الواحد للآخر).
الرئيس: إنه أنت اذن!.
العجوز: نعم، إنه أنا، أيها الرئيس!
الرئيس: منذ متى التقينا آخر مرة هنا؟
العجوز: منذ عشرين عاماً.
الرئيس: هل تتذكر هذا المكان؟
العجوز: نعم أتذكره، بل إن هذه اللحظة لتبدو لي كأنها مستعادة من ذلك الزمن، مستنسخة، مكرورة، رائحة المكان، وقع الأقدام، أصوات الأبواب التي فتحت والتي أغلقت، كأني سمعتها من قبل.
الرئيس: ( يضحك) ليست مكرورة تماماً، الزمن قد مرّ وتغيّر الكثير، كنا أكثر شبابأ، أتذكر كيف كنا نتناقش حول موضوع حفيدتك التي ولدت وهي مشوهة بنتوءين ولها أجفان ورموش، ولادتها تلك أصابتْ أهل الوادي بالذعر، لقد خافوا أن تكون ممسوسة، بها لوثة ستحرق الوادي، هل تتذكر ذلك؟
العجوز: ( بانفعال) تريد أن تذكّرني بما حدث؟ أ تظن أني نسيت ما حدث لتلك الفتاة، لم أنس شيئاً أبداً، أتذكر كل تلك التفاصيل كالندوب في جسد جندي عاش طويلاً بعد انتهاء الحرب، للآن لم أفهم كيف قررتم، وكيف أني  رضخت لقراركم ووافقتكم.
الرئيس: انه ندم متأخر إذن، يا رجل لقد اتفقنا على كل شي، اتفقنا معكم على الذي يجب أن نعمله وعملناه.
العجوز: لم نتفقْ، لقد كنا خائفين، لقد غيبّنا الخوفُ أيها الرئيس حينها.
الرئيس: (يصرخ) ما هذا الذي أسمعه؟ إنه الندم الذي لا يمحى إلا بالانتقام، هل تريد أن تنتقم أيها العجوز؟ قفْ لحظة، تنتقم ممّنْ؟ هل هذا هو سبب إشهارك البندقية على أبناء الوادي، هل تريد التمرد؟ هيا أخبرني؟ هل تريد أن تنتقم منا؟
العجوز: ليس انتقاماً، إنه الشعور بالذنب الذي يأكل روحي، دلّني على طريقة أكفّر بها عن ذنبي، وسأفعلها.
الرئيس: (يصرخ) ذنب، ذنب، أيّ ذنب؟ الذنب لو بقيت الفتاة تشعر، وتتحسّس العالم الذي يحيطها بذينك النتوءين، هل خرفت أيها الرجل، ما الذي أصابك؟
العجوز: لقد فات الأوان، لم يعد هنالك متسع بالعمر لسماع المواعظ والخطب، هيا قل ما الذي تريده مني؟
الرئيس: نريد منك تسليمنا الغريب.
العجوز: لماذا؟
الرئيس: (ينفجر بضحكة مدوية) أنا لا أسأل أُيها الخرف، أنا السؤال وأنتم الأجوبة، هل فهمت؟
العجوز: (بانفعال) قلتُ لك لماذا؟
الرئيس: (يضحك بارتباك) لماذا؟ لأن الذي تحميه غريب ومهمتي حماية أهل الوادي من الغرباء.
العجوز: قل الحقيقة بوضوح، لماذا؟
الرئيس: أنت تستجوبني، ما الذي دهاك أيها العجوز الخرف؟.
العجوز: أ لأنه قال كلماتٍ أخافتك، أليس كذلك؟
الرئيس: لقد سمعتُ أنه كان كان يردّد عينين، ورؤية!.
العجوز: وتريد أن تفقأ عينيه، أليس كذلك؟
الرئيس: لستُ أنا من يفقأهما، انه القانون أيّها العجوز الخرف، سلمه لنا.
العجوز: اتركني ليوم غد.
الرئيس: لا نريد أن نستخدم القوة ، دع الأمور تجري بسلام.
العجوز: أتمنى ذلك، أين الطريق؟ أريد أن أخرج.
الرئيس: (يصرخ) أيها الحرس تعالوا أرشدوا هذا العجوز للطريق.
العجوز: (يقترب من الرئيس ويهمس بأذنه) إنك عجوز أيضاً، لستَ شاباً، فاذا التقينا بالمرة القادمة لا تردّد هذه الكلمة أيها العجوز.
                                      ظلمــــــــــــــــــــــــــــة
الفتاة: ( تتحرك بطريقة تشبه الرقص.. مع نفسها) يا لكل هذا الشعر، كل هذا العالم الاحتفالي أعوم به الآن كحورية، يا لعظمة تلكما النتوءين التي أطلَّ بهما هذا الغريب على أمكنة ساحرة ومدهشة (صمت) سأحبك غداً، هل قالها؟ كأني سمعتها وكدت لحظتها أن ألمس يديه من فرط ما شعرت به عن قرب، سأحبك غداً، سأحبك غداً (فجأة يظهر الرجل1 أمامها فتجفل وترتدُّ خائفة إلى الوراء، بعدها تصرخ به) مَن؟!
الرجل1: أين كنتِ؟
الفتاة: (بانفعال) إنكَ تلاحقني إذن، أنتَ في حقلنا، وأنا التي لها الحق في سؤالك، هيا دعني أمرّ ولا تعترضني.
الرجل1: لقد كنتِ مع الغريب، أليس كذلك؟
الفتاة: اخرسْ، ليس لك الحق أن تسألني مثل هذه الاسئلة، هيّا اغربْ عن وجهي.
الرجل1: (يمسك الفتاة من معصمها، وجهُ كل واحد منهما الى جهةٍ اخرى، ينظران إلى الفراغ) لقد سمعته يتحدث إليك، كان صوته يصلني بوضوح تام، كان يتحدث بكلمات مخيفة ومرعبة، كلمات تصف العالم جعلت جسدي يرتجف، إنه ممسوس ويجب أن لا تقتربي منه، أنا أخاف عليك.
الفتاة: ليس خوفاً عليّ، بل هو خوفٌ على نفسك أنت أيها الجبان، دعني أمرّ.
الرجل1: جبان!، ستدفعين ثمناً لإهانتك هذه.(تدفعه بقوة فيقع على الأرض).
الفتاة: (تصرخ) أخرجْ من حقلنا أيها الجبان (تمشي بحركات متوترة مبتعدة عن الرجل مسافة، الرجل سيختفي في الظلمة، تتوقف الفتاة وتصرخ) لا تبق هنا، سأخبر جدي، أحذّرك، هيا اذهب وخذ خوفك أيها الموهوم، خذه معك وارحل من هنا.
                                              ظلمـــــــــــــــــة
(العجوز يمشي مسرعًا باتجاه وتأتي الفتاة من الاتجاه الآخر، العجوز يحاول اجتيازها بسرعة)
الفتاة: جدّي..
العجوز:  (يقاطعها) لا وقت لدي، أنا في عجلة من أمري.
الفتاة: ما الذي قاله لك رئيس الوادي؟
العجوز: (يتوقف بعد ان يجتازها، ظهره سيكون صوبها وهو يتحدث) فيما بعد، فيما بعد، أريد أن ألتقي الغريب أولاً، اذهبي إلى البيت، أقفلي الأبواب جيداً، لا تخرجي، سأعود حالاً.
الفتاة: ما الذي حدث أيها العجوز، لقد أقلقتني.
العجوز: (بغضب) اذهبي الى البيت، قلتُ لكِ، سأعود حالاً.
الفتاة: حاضر، سأفعل.
(يتركها ويغادر مسرعاً، الفتاة تختفي من المكان، مسافة ويتوقف العجوز لينادي على الغريب).
العجوز: أيها الغريب، أيها الغريب، أينك؟
الغريب: (صوته من خارج المكان) مَنْ، من أنت؟
العجوز: أنا العجوز جدّ الفتاة وصاحب الكوخ والحقل، هيا اخرج، أريد أن أتحدث إليك.
الغريب: (يظهر، يقترب منه، يأخذه العجوز جانباً ويبدأ الحديث معه بصوت أقرب إلى الهمس) نعم ، تفضل يا شيخي الجليل.
العجوز: أريد أن أسألك بعض الأسئلة.
الغريب: نعم تفضل، أنا حاضر.
العجوز: هل تعرف أين أنت الآن؟ هل تعرف اسم هذا الوادي؟
الغريب: لا، يا سيدي لا أعرف.
العجوز: كنت أظنك قد سألتَ الفتاة وأجابتك.
الغريب: لم أفعل، لقد كنتُ مأخوذاً بما يجري حولي، أردتُ أن أستعيد توازني كي أفهم ما يحدث حولي، كل شيء مضطرب ومشوّش حولي يا سيدي، أنا الآن لا أعرف هل أعيش واقعاً أم كابوساً؟ الناس هنا تتحرك كالدمى، عيونهم بلا اهداب واجفانهم تكاد تكون ملتصقة، ساعدني وقل لي أين أنا؟، ما هذا المكان الذي بيوته بلا نوافذ؟، والناس تتحدث مع بعضها من دون أن ينظر أحدهم إلى الآخر، تماماً كما تفعل أنت الآن معي، وكما تفعل فتاة الحقل الجميلة، لقد سألتني أن أصف لها ما كنت أراه، وكنتُ أصف لها الأشجار والسماء والطيور، أصف لها وجهها، بشرتها، مشيتها، وكانت تبتسم مثل طفلٍ يحلم، هل كانت تتذكر يا سيدي؟
العجوز: ماذا قلت؟ لقد كانت تبتسم مثل طفل يحلم، هل كانت تتذكر ( يبتعد مسافة ويحدّث نفسه) هل كانت الفتاة تتذكر ما حدث لها قبل عشرين سنة، وهل كانت تذكر من تواطأ على فعل ذلك؟ يا إلهي…
الغريب: (يقاطعه) سيدي، سيدي لقد جئتَ لتقول لي شيئاً.
العجوز: نعم، تعال، أينك، هات يدك دعني أمسكها (يمدّ الغريب يده ويمسك يد العجوز) اسمع أيها الغريب أنت الآن في وادي العميان.
الغريب: وما معنى هذا؟ أريد أن أفهم.
العجوز: أنت في وادٍ لا يعيش فيه سوى العميان.
الغريب: عميان! ولكن الناس هنا يتحركون بثقة في المكان.
العجوز: هذا لأن المكان مصممٌ لنا، نعرف تفاصيله بدقة عن ظهر قلب.
الغريب: سيدي الجليل، أنت أعمى أيضاً؟
العجوز: أنت ترى، لك عينان، أليس كذلك؟ اذن لا مكان لك في الوادي، هذا ما جئتُ من أجله لأخبرك به.
الغريب: لم أفهم سيدي، ما الذي تريد قوله يا سيدي؟.
العجوز: لست أنا الذي أريد، بل هو قانون الوادي وأعرافه يا ولدي.. (صمت) أصغِ إليّ جيداً، إنْ بقيتَ هنا ستُفقأ عيناك، هل فهمت؟، وإذا أردتَ أن تهربَ فهذا الوادي لا يعرف ممراتهِ وطرقَه السالكة وفخاخَه سوى العميان، كلُّ شيءٍ مصمم للعميان، وحدهم هم فقط من يستطيع العيش فيه.
الغريب: (بخوف) وماذا أفعل؟
العجوز: لا أدري، فكّرْ، وتذكّر إن الهروب سيكون متاهة تكون فيها الممرات التي تؤدي إلى الحياة شبه مستحيلة، أو..
الغريب: (يقاطعه) لقد فهمت الآن..
العجوز: فكّر واخترْ حلاً، سأقاتل معك اذا اخترتَ خياراً ضد رغبة قانونهم وضد أعرافهم، لن تكون وحدك.
الغريب: تقاتل من أجلي، لماذا؟
العجوز: من أجلك، (مع نفسه) ربما من أجل ندمٍ أريد محوَه (يعود بصوت عال) هيّا، سأتركك لتفكر، لدينا وقت للصباح ، سأذهب.
                                       ظلمـــــــــــــــــة
( المكان مظلم، لا ظهور للشخوص، أصوات فقط )
صوت رجل: (يصرخ) يا رئيس الوادي، سيدي الرئيس.
الرئيس: ماذا خلفك؟
صوت رجل: سمعت شيئاً تقشعر له الأبدان يا سيادة الرئيس.
الرئيس: ماذا؟
صوت رجل: سيدي الرئيس سمعتُ أحد الاطفال يردّد ما كان يردّده الغريب.
الرئيس: ما الذي تقوله أيها المجنون؟
رجل: لقد سمعت طفلاً يردّد عينين، رؤية.
الغريب: (جالس على الارض متكورًا، رأسه غاطس بين ساقيه، قربه عصا على الأرض.. يتحدث مع نفسه) ما الذي تريد أن تراه أكثر مما رأيت؟ ألم تمتلئْ ذاكرتُك بالصور؟ هل هنالك مساحة فارغة في رأسك ظلتْ ولم تُحشَ بكل تفاهات العالم وسخافاته؟ ما الذي جنيتَه من كل هذا التكديس؟ لم أنتَ خائف، خائف وحزين؟! (صمت)، سترى أفضل وعيناك مغمضتان، العالم سيكون أكثر وضوحاً وأنت لم تره، البصر حاسة مشوشة، مربكة ومخادعة (يصرخ) أخرسوا هذه الأصوات فأنها توسوس اليّ، أخرسوها (صمت ثم يعود بصوت هادئ) دبيب في رأسك، أشياء ناعمة، متصلة، تزحف فيه، ما كل هذه المسارات الطويلة الممتدة كخيوط من النمل؟ لحظة، ما كل هذه الألوان التي ساحتْ وتداخلت مع بعضها؟ هل هي صور دمّرتْ نفسها بنفسها؟ هل هي ذكريات تنتحر في رأسك؟ هيا انهضْ، إنهض فليس هنالك متسع من الوقت، خذ هذه العصا تمرّنْ عليها، تمرّن على تحسّس العالم بها، تمرنْ، تمرن وتمرن فيما تبقى من عمرك ستكون هذه العصا حاسة بصرك، لا تنس هذا (يقف ويصرخ) أخرسوا الأصوات التي توسوس إليّ، أخرسوها (يتحرك صوب العصا، ينحني ويمسكها بيده، ثم يقف متكئاً عليها، ويمشي بها)  ما الذي تريد أن تبقيه في رأسك من صور لتتذكرها، صديق نذل، امرأة هجرتك، حياة جاحدة (ثم يصرخ) أبعدوا هذه الأصوات عن رأسي، أبعدوها، أرجوكم أبعدوها (صمت) اتركْ هذه العصا، ابعدْها عنك، إنها افعى!..
                                             ظلمــــــــــــــــــة
العجوز: (جالس على الدكة، فجأة طرقات قوية على الباب، الفتاة تدخل للمكان وتقف خائفة قرب العجوز)من الطارق؟
صوت رجل: نحن حرس الرئيس.
العجوز: ما الذي تريدونه مني في هذه الساعة؟
صوت رجل: الغريب، الرئيس يريد الغريب.
العجوز: (يركض صوب الجدار ويتناول بندقيته، الفتاة تركض خلفه وتقف ماسكة كتفيه) ولكني اتفقتُ معه إلى يوم غد.
صوت رجل: افتح البابَ وسلّمه إلينا الآن، لا تجادلْ أيّها العجوز.
العجوز: (يهمس للفتاة) اذهبي من الباب الخلفي وخذي الغريب بعيداً.
الفتاة: (بهمس) ما الذي يدور في رأسك أيها العجوز؟.
العجوز: ليس هنالك وقت، خذيه بعيداً، وسأبقى أنا هنا أشاغل الحرس.
الفتاة: ولكن يا جدي..
العجوز: (يقاطعها) اذهبي هيا..(تزداد الطرقات قوةً على الباب، الفتاة تغادر المكان، العجوز يسحب زناد البندقية).
صوت رجل: لا تقاومْ ولا تتهوّرْ أيها العجوز، جئنا لأخذ الغريب فحسب.
العجوز: لن أسمح لكم بذلك، سأقاتل، هل فهمتم سأقاتل ولن أسلمه مهما كلف الثمن!(أصوات الطرقات على الباب تتعالى، العجوز يأخذ وضع التأهب والاستعداد)
                                           ظلمـــــــــــــــــــــــــة
الفتاة: (تظهر في المكان وهي تركض بخطوط ملتوية، تقف وتطرق باباً)افتح الباب ايها الغريب.
الغريب: ما الذي يحدث؟ ما الذي حدث؟ (يظهر قرب الفتاة واقفاً)
الفتاة: تعال معي، تعال أرشدك الى الطريق، لقد جاء حرسُ الرئيس لاعتقالك.
الغريب: الى أين ترشديني؟ سأذهب اليهم، لقد حزمت أمري وقررتُ أن أكون مثلكم.
الفتاة: لا، الوضع قد تأزّم، جدي يرفض تسليمك، سيقاومهم، وطلب مني أن أهرب بك الى مكان آمن، جدّي يعرف نيّاتهم أكثر.
الغريب: ولكن..
الفتاة: (تمسكه من يده وتسحبه خلفها..تقاطعه بشدة) لا وقت لدينا، تعال معي، أنا أمسك بك الآن، لا تخفْ من مفاجآت الطريق مادمتَ معي، سأصل بك الى المنتهى، الى الأمان نفسه، الى خارج حدود هذا الوادي، سأقودك أنا فلا تخفْ، هيّا تعال معي.. (تركضُ بخطوط ملتوية، ومعها الغريب خلفها، ماسكة بيده، صوت اطلاقات النار تتعالى خلفهما، فيما هما مازلا يركضان بمسارات ملتوية الى أن يختفيا من المكان..)
 
                                             انتهـــــــــــــــــت
 
 
“المسرحية مستلهمة من رواية لأج جي ويلز”
 
 
 
 
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت