"الروهة" بين فتنة النص.. وتحدي قصور المعرفة/ محمد الروبي
“الروهة” هو نص مسرحي للكاتب والناقد العربي التونسي عبد الحليم المسعودي، أهداني إياه حين تزاملنا في لجنة تحكيم مهرجان شرم الشيخ الدولي لمسرح الشباب. وعلى الرغم من مرور شهور طويلة على هذا الإهداء، وعلى الرغم من أنني شرعت فورعودتي إلى القاهرة في قراءته، فإنني لم أنته منه إلا منذ أيام قليلة، وترددت كثيرا في الكتابة عنه. قد يبدو الأمر غريبا، إذ كيف يستغرق قراءة نص مسرحي، مهما كان، كل هذا الوقت في القراءة؟ ثم لماذا ترددت في الكتابة عنه؟
لاغرابة في الأمر، فهكذا أنا مع الكتابات التي تأسرني، أمني نفسي بعدم الانتهاء منها أبدا، أستطعمها ببطء. فقليلة هي الأعمال التى تأسرك كقارئ، وحين تصادفك تحاول بقدر الإمكان أن تطيل وقت جلوسك إليها، قلقا من أن تنتهي متعتك سريعا.
أما لماذا ترددت في الكتابة عنها، فذلك لأنني أخشى على نفسي من أن تنعكس فتنتى بما قرأته على ميزاني النقدي. وهكذا تظل يدي ترتعش وهي تحمل الميزان فأبتعد عنه لأيام ثم أعاود، وهكذا.
طوال فترة قراءتي لروهة المسعودي كانت تلاحقني جملة القدير داريو فو: “هذه المسرحية بها عيب كبير، أنها ممتعة في القراءة!” إذ وجدتها تنطبق حرفيا على مسرحية الروهة، وكنت طوال متابعتي لأحداثها أسائل نفسي: “كيف ستقف هذه المسرحية فوق الخشبات؟ من أين سيحظى المسعودي بمخرج يطاول هذا الجنون المؤطر بأحداث تتجذر في التاريخ وتستند على ثقافات دينية مختلفة أغلبها بات مهجورا ومحصورا في أوراق حيل لونها إلى أصفر باهت من طول أمد تخزينها في مجلدات؟ ومن ذلك المخرج الذي سيحيل هوامش المسعودي المكتوبة في نهاية نصه إلى صورة لا تعترف بالتفسيرات المكتوبة؟
“الروهة” نص عن ما نحياه الآن، رغم الغرابة الظاهرة للمكان والشخصيات. فهو عن أولئك الدواعش الذين أحالوا حياتنا (في كل ربوع الوطن وبدرجات متفاوتة) إلى جحيم يومي، وأحالوا كل جمال فيها إلى خرابات تنضح بالعفن. لكن الكاتب لن يستكين إلى السهل في تأمل ما حدث لنا، سيغوص في اكتشاف أصول الأسباب، وسيدخل بجرأة مكتشف مغامر إلى أعماق كهوف خطرة تتسيج بمقدسات قديمة، شيدها أصحابها لتكون من المحرمات لا تنكشف إلا على من يمتلكون من الجرأة والرغبة في المعرفة ما يتيح لهم أن يقتحموا مكامن الأسرار. وها هو عبد الحليم المسعودي في نصه الأول يقررالنزول بنفسه في بئر المحظور ومنابع الفتنة، لعله يكشف لنا – نحن معاصريه – أن الدودة في أصل الشجرة. ولأنه قرر ألا يستكين للسهل وقرر ألا يكون قارئه متلقيا مسلوب الإرادة سيشرع بأساليبه المختارة بعناية أن يجذب قارئه لا إلى الاستمتاع فقط بل إلى المشاركة، ليورطه في رحلته للكشف عن المستور.
وسيبدأ المسعودي بتوريط قارئه منذ اللحظة الأولى، من عنوان نصه ليختار له “الروهة” تلك الكلمة التي يرجع أصلها إلى قرون مضت، وإلى لغة تلفظ أنفاسها الأخيرة. تاركا لقارئه مشقة البحث عن المعنى ومن ثم اكتشاف مسالك جديدة ستعينه على رحلته التي اصطحبه فيها. صحيح أن المسعودي سيساعد قارئه بهوامش يزيل بها نصه عن معانى كلمات يعرف أنها ستستعصى عليه، إلا أن الهوامش لن تكون أكثر من بوابات إلى عوالم أخرى أكثر رحابة يراهن المسعودي أن قارئه لن يدخر جهدا في أن يستكملها ببحثه الخاص. وهنا تحديدا يكمن السبب في إلحاح جملة داريو فو التى طاردتني وأنا ألتهم نص المسعودي. فالنص رغم متعة قراءته بما حققه كاتبه من تشويق يعتمد على المضي خطوة خطوة، سواء في الكهف أو الهوة التي ستلتقي فيها الشخصيات أو في كهف المعرفة العامة التي ستفتحه تلك الشخصيات أمام قارئها، إلا أن النص سيظل محكوما بالسؤال: إذا ما كان الأمر سيكون سهلا على القارئ بما وضعه المسعودي من هوامش لمعاني كلمات وأحداث تاريخية، فكيف سيكون الأمر على المشاهد الذي لا يملك إلا صورة يتابعها على خشبة مسرحية؟
في “الروهة” كل شخصية لها دلالة وكل دلالة تفضي إلى أفق أرحب، والكاتب غازل محترف يربط الخيط بالخيط لينسج مع نهاية نصه شبكة معقدة من العلاقات لا تنكشف إلا مع المشهد الأخير، فإذا بك كقارئ تعود سريعا إلى أول النص لتبدأ من جديد، ثم مرة أخرى ثم ثالثة، ومع كل مرة ستجد نفسك تصرخ بينك وبينك “كيف فعلتها يا مسعودي”، وربما تضيف “وكيف ستتحول هذه العلاقات إلى لوحة حية على المسرح؟” لكن ظني أن هذا السؤال ليس المنوط بالإجابة عنه المؤلف. ذلك الذي كان واعيا حين اختار أن تكون مقدمة نصه إجابة للفيلسوف كانط عن سؤال ما التنوير؟ ليقول لنا في مفتتح نصه: “التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه” وأن “هذا القصور هو بسبب عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر”. وكأن المسعودي يعقد بهذه الكلمات الكانطية اتفاقا مع قارئه فحواه أن أنفض عنك قصورك، ولا تنتظر مني أن أعطيك ما ترجوه، سأعطيك فقط ما يحرك عقلك وهو ما سيمتعك أيضا. أو كما قال كانط “إن مبدأ التنوير هو: كن شجاعا واستخدم عقلك بنفسك”.
وأخيرا، ومع تعمدي للهروب من كشف حكاية “الروهة” أقول إن روهة المسعودي – نصه المسرحي الأول – كانت لي بوابة للمتعة وللمراجعة ولاكتشاف قصور ماكنت سأنتبه إليه لولا “الروهة”.. فشكرا للمسعودي مع إشفاقي على كل مغامر سيتصدى لنصه ليحيله إلى عرض مسرحي.. وفي انتظار أن يظهر من بيننا ذلك المخرج المغامر الذي سيحيل الروهة إلى نور