التفاؤل .. في العوالم غير الممكنة/ د. حسن عطية
منذ بداية الوعي بالعالم ، وفي مواجهة عدم قدرة الواقع على تحقيق الآمان الكامل والعدل المثالي والتقدم المنشود الذي يحلم به الإنسان منذ أن وجد على هذه الأرض، اجتهد الفكر الإنساني في طرح تصوراته عن إمكانية وجود مدن مستقبلية فاضلة ، تؤسس على العلم أو العدل أو الحرية ، أو كل ما لا يجده هذا الفكر متحققا في زمنه داخل مجتمعه ، فالإنسان تواق دوما للكمال ، بينما حركة الواقع وقدراته العقلية وطموحاته الشخصية وانتماءاته الطبقية، تعجزه عن تحقيق هذا التكامل الحالم به، في حقول الحق والجمال والعدل الاجتماعي، غير أن هذا الحلم في المدن الفاضلة يظل يلح على العقول المفكرة لصياغته في (يوتوبيات) فلسفية وشعرية ، عل الإنسان الطموح بقادر ذات يوم على تحقيقها .
هذا ما يتعلق به المخرج الشاب “إسلام إمام” ، حيث يسرى التفاؤل دوما في أعماله ، هذا التفاؤل الذي يأمل معه في تجاوز أزمات الواقع الرهن ، وأن تكون الأيام القادمة هى أفضل الأيام ، وهو ما دفعه فيما يبدو للقاء مع النجم “سامح حسين” المتمسك بتقديم كوميديات راقية ، يزهو فيها العقل بتواجده فيها ، وينتقد فيها مسالب الواقع ، أملا في حياة أفضل ، وهو ما قادهما معا للتفتيش في أضابير النصوص العالمية ، حتى وقع نظرهما على (ساتيرية) فرنسية من القرن الثامن عشر ، للكاتب والفيلسوف التنويري “فولتير” بعنوان (كانديد أو التفاؤل) ، آمن كاتبها بالتفاؤل، لكنه وصل في نهاية حياته للشك في قدرة هذا التفاؤل على تحقيق أحلامه على أرض الواقع، وقدرة التنوير على المقاومة في ظل مجتمع تقيده التقاليد والعادات والطبقية، فضلا عن المصاعب والكوارث والحروب البشرية، فراح ينتقد تفاؤله الذي تمسك به في سخرية مرة في مسرحيته الساتيرية (كانديد) .
هذا النقد الساخر يبدو أنه ما جذب نظر المخرج والنجم لهذا النص القديم ، ليمثل تراجعا في تمسك المخرج بتفاؤله الدائم ، حيث الواقع اليومي المضطرب يهز إيمان كل عقل مستنير بإمكانية تحقيق المدن الفاضلة في الزمن المرتقب، وهو ما يبدو أيضا ما جذب النجم بهذا الكم الهائل من النقد الساخر الراقي لشخصية المتفاءل ، التي حمل عبء تقديمها لجمهوره بجدية شديدة ، فانطلقا معا من قلب النص الفولتيري ، مبتدئين بحاله “كانديد” داخل قصر خاله الأمير المتطلع لأن يكون ملكا، وزوجته المتمسكة بالتقاليد الطبقية البالية ، ومعلمه الذي غرس بأعماقه حب الحياة والتفاؤل القادم مع المستقبل ، وأن “كل شيء سيسير على أفضل حال” ، غير أن تجاوز “كانديد” غير المنتمي لمجتمع الأمراء، حدوده الطبقية وعشق الأميرة “كوندا” ابنة خاله، وهو ما أدى بهذا الأخير لطرده من قصره، لعالم الواقع الذي لم يخرج إليه من قبل، حيث نمت أفكاره التفاؤلية داخل قصر مغلق، لا يسمح له باختبار أفكاره هذه في العالم الممكن، فالتفاؤل قرين التطلع لليوتوبيات المثالية، لا يكتمل حضوره إلا في العوالم غير الممكن تحققها على أرض الواقع.
من هذا القذف بشخصية فتانا “كانديد” المتفائل للواقع المجتمعي، وكأنه آدم الملقي به من الفردوس للأرض المتصارعة، يبدأ الحدث الدرامي بصعوبة التفاؤل المطلق في هذا العالم القائم، والذي يصوغه المخرج صياغة جمالية تحتضن بالأغاني والرقصات القبح القابع بأعماقه وتعلق عليه، حيث يجبر “كانديد” على الالتحاق بجيش البلغار المغير على وطنه، ويدفع دفعا للمشاركة في القتل، فيهرب من البلغار في رحلة طويلة بين أوروبا والمكسيك وجزر المحيط ، واجدا نفسه وفكره التفاؤلي محل اختبار قاسي، يفقد معه في النص الفولتير قدرته على التفاؤل، بعد أن صارت حبيبته دميمة ووصل لسن الخمسين دون أن يحقق شيئا ذا بال .
علي حين لم يفقد “إسلام إمام” إيمانه بالتفاؤل وبأن أجمل الأيام قادمة حتما، ففضل أن يعيد المحبوبة “كوندا” جميلة ورقيقة رغم بلوغها الخامسة والأربعين، كما أعاد الخال وزوجته والمعلم ليعترفوا بحق “كانديد” في الزواج من محبوبته والاقتران بطبقتها الراقية، أو بسحبها لطبقته البسيطة لتعيش معه أجمل الأيام القادمة، معلنا مع المخرج أن الأمل مازال قائما رغم الصعاب التي مررنا ونمر بها، ورغم هيمنة التخلف والفكر السلفي المتخثر على مجتمعنا في نصف القرن الأخير من زمننا، رغم التقدم الذي أحرزناه في العقود الست الأولى من القرن العشرين.
وجد النجم “سامح حسين” ضالته في هذا النص الفلسفي الساخر، وفي شخصية المتفاءل المصطدم بعبثية الواقع وصراعاته المدمرة للحضارة والتقدم الثقافي، ليس فقط على مستوى زمن المسرحية (القرن الثامن عشر) ولكن على أرض الواقع الذى نعيشه اليوم، وهو ما استثمره ليشير طوال الوقت إلى زمننا الراهن ومجتمعنا الحالي، مما يخلق مزيدا من الضحك من التورية المتشحة بثياب تاريخية تشف بأقوال ووقفات وأداء الممثلين عن النقد الساخر لواقعنا الراهن، والذى نجح فيه، إلى جانب النجم”سامح حسين”، النجمة الرقيقة “سهر الصايغ” بقدرتها على الأداء التمثيلي والغناء والرقص وبث الحيوية في المسرح في دور المحبوبة “كوندا” التي تعشق المتفاءل الصغير وتعلو على كافة تقاليد القصر والطبقة التي تنتمي لها، منتصرة بالحب على كل العوائق الاجتماعية والظروف القاسية التي وجدت فيها، يقف إلى جوارها بخبرته وموهبته الفنان “يوسف إسماعيل” في دور الأمير : والد “كوندا” وخال “كانديد” والطارد له من القصر، حتى يجبره الغزو البلغاري على الهروب من الموت أثناء الغزو، والمرور برحلات متماثلة لرحلات “كانديد” و”كوندا” والمجبر عقب عودته للموافقة بنعم على زواج ابن أخته لابنته الأميرة.
يقف أيضا بموهبته وخبرته الطويلة في حقل الأداء التمثيلي، الفنان “عزت زين” المجسد لشخصية المعلم الغارس في عقل ووجدان “كانديد” الإيمان بالحلم المتفائل، دون أن يفقد إيمانه هذا لحظة رغم رحلته هو الآخر مع الواقع المتردي والمقاوم لكل تفاؤل ، وتميزت “آيات مجدي” في دور ملكة الجزيرة الحنون ، التي تغني وترقص مزهوة بأفعالها الطيبة، كما نجح القائم بدور قبطان السفينة التي التقطت “كانديد” من البحر في إحدى رحلات هروبه، فجسد الشخصية بقدرة متميزة على الأداء غير المؤسلب، ويقف معه القائم بتجسيد رجل الحانة السكير، خفة ظل وأداء متميز.
يشهد هذا العرض لإسلام إمام قدرته على صياغة عرض متدفق ، رغم طوله الزمني، ومنحه لكل ممثليه فرصة التواجد وتحقيق الذات وسط حركة المجموع في هذا العرض المتميز، كما حقق “هشام جبر” قدرة فائقة على صياغة عرض غنائي راقص، صاغ كلمات أغانيه الشاعر “طارق علي” ، وأشاع المرح “ضياء شفيق” في المسرح بتصميمه لرقصات فرحة بالحياة، وسط ديكور للمصمم المتميز “حازم شبل” الذي نجح في صياغة كتل تتحرك بسهولة على المسرح، تستخدم كالبرياكوتا، فتبدو لنا كخلفية للقصر، ثم بوابات الحياة الواقعية التي يمر بها “كانديد” في رحلته الجحيمية خارج القصر، ثم تستخدم كبوابة حصن، وكسفينة مبحرة في المحيط، وكفضاء جزيرة مجهولة، شاركته “نعيمة عجمي” في صياغة ملابس تناسب العروض الاستعراضية دون أن تفقد دلالاتها الدرامية، هذه الدلالات التي نجح “أبو بكر الشريف” في صياغة إضاءة لا تبهرك في ذاتها، بقدر ما تعبر بدقة عن أجواء العرض بتنقلاته المختلفة .