لعبة الهامش والمركز في "افتراض ما حدث فعلا" / د. ايمان الكبيسي

لم يسلم المسرح العراقي سواء كان على مستوى الكتابة او العرض من لوثة ما بعد الحداثة التي طالت كل اشكال الفنون، لاسيما بعد الطروحات التي جاء بها (جاك دريدا، ونتشه ، وهايدجر) وما تبعتهم من دراسات وطروحات تناولت موت المؤلف وموت الكتابة وموت الاله وضرب المقدس، وهذا ما نلتمسه في اغلب العروض المقدمة في الوقت الحالي مع تفاوت واضح في ايجاد توازن بين الفكرة والنسق العلاماتي المقدم، ومن العروض التي استفزت القلم للكتابة عنها مسرحية (افتراض ما حدث فعلا) تقديم جامعة البصرة / كلية الفنون الجميلة / اشراف قسم المسرح . تأليف الكاتب العراقي الفذ (علي عبد النبي الزيدي) واخراج (حسام عبد الكريم) تمثيل(مؤيد كريم، محمد عبد الستار، جبار عبد الوهاب، مرتضى عدنان، ضرغام سرمد، محمد هندال ، منير عبادي، العباس عبد السادة) وفي تصميم وتنفيذ المؤثرات (حيدر حسين، حسين الزبيدي) والتي عرضت على خشبة المسرح الوطني ضمن ليالي البصرة، ضمن جدول دوري اعدته دائرة السينما والمسرح لتسليط الضوء على ابداع المحافظات واستقطابه نحو المركز. فما عُرض علامات في هذا العمل المسرحي جعلت المتلقي في حالة انتاج لكثير من معاني الدلالات بعد ان فتحت امامه مساحة واسعة للتأويل.
فعلى مستوى النص الذي تناول موضوعة الاستلاب الجمعي كمعادل موضوعي لوجود الدكتاتورية لاسيما في ظل الحروب التي تستلزم جهود تعبوية لتجعل من الهامش وقودا لصالح مركزية الرمز وقوته. إذ يبدأ النص بفتح مغاليقه من العنوان بعد ان يثير حواسنا لاستنطاق عالما شائكا يلتبس فيه الواقع بالفنتازيا والعقل بالجنون والحياة بالموت.
فـ(افتراض ما حدث فعلا) خطاب احتجاجي اراد به (الزيدي) رفض الحرب وكسر الرمز وتحطيم المقدس متخذا من عبارة (خذوا الحكمة من افواه المجانين) ارضية تسير فيها احداث النص عبر اسلوب مزج فيه بين التراجيدي والتهكمي ضمن قالب لا يخلو من الرمزية التي ربما كان للرقيب دورا حاضرا في الايغال فيها، بعد ان تناول حالات متنوعة من الجنون منها جنون الحاكم وهوسه بالحرب والمجد الزيف الذي تخلفه، وجنون الضحايا المسحوقين من الحرب وهم يُساقون قطعان تلو اخرى في عبثية وجنون قدري، وجنون القارئ المثقف الذي يجنح الى الجنون بقصدية بعد ان يعجز عن فهم ومعايشة الواقع المرير، فالمسرح دائما في تماس مباشر بالوجود الانساني اليومي فهو يشكل تاريخا ارشيفيا مضمر للتاريخ العام. كل تلك الحالات تدخل لعبة جنونية يجسد ابطالها مجموعة من المجانين مقلدين فيها دور الطاغية الموغل بنرجسيته والحروب وحالة الصراع مع نزواته، فالمغلوب وفقا لما ذكره ابن خلدون في مقدمته” مولع ابدا بالاقتداء بالغالب” وهنا تقودنا المعالجة الفنية لظاهرة جنون الحرب الى مصطلح (جماليات القبح) المتمثل في تناول القبح بما هو مضمر في ثناياه من شفرات جمالية على مستوى الايحاء والدلالة والتأثير.
اما على مستوى نص العرض فقد ابتعد المخرج عن كل ما هو تقليدي ومألوف نحو الزهد في الديكور الى قطعة منظرية واحدة تحيل الى دلالات متنوعة حسب مجريات الحدث بالتعاضد مع الاضاءة والمؤثر الصوتي وبعض المشاهد السينمائية المعروضة على (الداتا شو) التي جاءت معضدة للحدث بتكثيف واختزال عال، فكان المخرج ذكيا في عدم  استناده  كليا الى رؤى الكاتب في النص ومرتكزاته التي تُسقط المركز، بل عمد الى توظيفات استعارية  أنطولوجية  منها واخرى اتجاهية تمثلت في مركزية الهامش (جوقة المجانين) ضمن ميزانسين المسرح، وقصدية اعلاء حضورهم مقابل حضور السلطة، في الوقت الذي جعل فيه من المثقف متلقيا سلبيا يجلس تحت منصة المجانين، ربما اراد المخرج من هذه المعالجة ادانة المثقف في تقاعسه عن اداء دوره المجتمعي في التوعية والتوجيه، او ربما اراد ان يحيل من خلال مكان هذا المثقف الى ضعف الكلمة وسط اصوات الرصاص ورائحة البارود، وهنا نجده قد عمد الى تهميش المركز مرة اخرى بشخصية المثقف، تاركا الهامش في اعلى مستوى جغرافيا لتقديم معاناته، فمركزية الهامش في هذا العرض لم تقتصر على دوره في الحدث الدرامي او مكانه على خشبة المسرح، انما تجاوزته الى المشاركة في انتاج العلامات عبر تكوينات جسدتها اجساد المهمشين في تماهي وتناغم مع الاضاءة متمظهرةً ضمن النسق العلاماتي للعرض عبر تجاذبات وارتباطات تحيل الى واقع مستعار يجُسد على الخشبة بلغة سيميوطيقية ، فضلا عن دوره (الهامش)  في انتاج المؤثر الصوتي والايقاع المستعار من البيئة المعيشة.
استطاع مخرج العمل بالتعاضد مع الفنيين عبر الصورة المقدمة من التحليق في معالجات سينوغرافية لتعزيز المعنى وتقديم ومضات تكشف عن عمق التأزم في الحدث، ما يعكس الوعي والدراية في توظيف مفردات العرض السينوغرافية وعدم الاسراف فيها وفي انتاج العلامات، وقد تجاوز عبر العرض الخطابية والارتكاز على سيادة الحوارات الفلسفية في النص رغم قوتها نحو صور ولوحات كسر عبرها تسيد الكلمة ومركزية اللغة وسلطتها.
لكن الكمال غاية لا تدرك، فقد ضيعت علينا بعض الاخطاء اللغوية جانبا من متعة التلقي وسحر العرض، فمن يرتقي خشبة المسرح يتوجب عليه التمكن من ادواته ومنها الالقاء السليم فتلك هي لغتنا الام.
واخيرا لابد من شهادة حق تقال في هذا العرض وفي كل ما قُدم في ايام البصرة عموما من لوحات شعبية ومقطوعات موسيقية واغاني وافلام سينمائية عبر كلمة شكر وامتنان لكل مبدعي وفناني البصرة، شكرا  لكلية فنون البصرة / رئاسة قسم المسرح المتمثلة بالدكتور (حيدر دشر) الذي بدت لمساته الجمالية واضحة عبر اشرافه على العمل المسرحي، شكرا للبصرة فقد عشنا معها ليلتين من الف ليلة وليلة…ستبقى البصرة منبرا يشع جمالا وعطاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت