الارامل ….. حين يترمل الوطن ويترجل الصبر … /د. عواطف نعيم
من على فضاء المسرح الوطني وضمن عروض مهرجان المسرح الذي أقامته دائرة السينما والمسرح ، قدمت المخرجة التونسية العرض المسرحي ( الارامل ) والعرض مستوحى متنه الحكائي من نص للكاتب التشيلي ( آربيل دوفر مانز ) من الارجنتين في أمريكا اللاتينية ، تصدى لاخراجه المخرجة التونسية وفاء طبوني …
مسكين ذلك الوطن الذي يبحث عن رجاله وينتظر صابرا عودتهم لعل التغيير معقود بتلك العودة حين تشتد المحنة ويتغّول القهر ، ثلاث من النسوة يملأن فضاء الخشبة حركة غاضبة ، منفعلة ، مواجهة ، مترصدة ، يحملن بين أيديهن شراشف بيضاء ، ينفضنها حينا ، يحتضنها حينا أخر ، يتشاركن طيها وتجميعها ثم ينفرطن مراقبات بعضهن البعض ، ثلاث من النسوة المنتظرات جمعهن الترمل ووحّد وجعهن الانتظار ، انهن ينتظرن عند ساحل البحر علّه يقذف اليهن جثث موتاهن ، جثث من فقدوا من الاحبة في زحمة الحرب والخوف والفجيعة ، الاب ، الزوج ، الابن ، هؤلاء فقدوا ، غيّبوا ، ماتوا ، وعلى النسوة أن يقمن بعملهن في هذه الحياة ، أن يربوا الاولاد ، وأن يغسلن البيوت والشوارع ، ويجمعن القمامة ويكنسن الاتربة وأن يجعلن الحياة سائرة ، وأن يحفظن عفتهن في ذات الوقت ، وحين يجتمعن يوميا في هذا المكان يتحدثن ويتحول الحديث الى بوح وفضح وكشف لما يدور حولهن من واقع بائس قمعي متسلط ، ، هن لم يتأكدن من موت الأحبة أو الاهل الزوج أو الابن أو الاخ عند غرق السفينة أو تحطمها وليس لديهن دليل على موت أو حياة هؤلاء لأنه ليس ثمة من دليل في مدينة فقدت كل معالمها بفعل الخوف والقمع والاستبداد ، الموت الذي سلب منهن الرجال ليس هو الذي يخفن منه !! الخوف من الاحتمالات والتوقعات والتحولات التي تدور حولهن وبينهن ، لذا هن يمارسن حياتهن الاجتماعية ويومياتهن البسيطة ، يعملن و يتحاورن ضاحكات ، صاخبات ، متناكفات ، ويتسلحن بالامل ، هن يقاومن الضعف بالعمل والتحدث هن يقمن بشحن طاقتهن حين يستعدن الذكريات الجميلة ولحظات الفرح وصور الحلم الذي يردنه أن يتحقق ، لكن هذا الحديث الذي يبدو حياتيا مألوفا يعكس صورة البلد .. حاله .. ما آل اليه .. الواقع المضبب لمستقبل يبدو مجهولا ومخيفا ، انهن يبحن من خلال هذا البوح وهذا الكشف وازاحة الستر عن أمل لمستقبل وطن وجد نفسه دون رجاله ، لابد من حفظ الوطن والخوف عليه كي يستطيع الابناء أن يكبروا فيه دون خوف ، ليكون للوطن بعد ذلك رجاله وما يعود أرملا !!!
شكل الجسد في هذا العرض حضورا بارعا فقد حملت الاجساد الثلاث لتلك النسوة قدرة بارعة في الحركة والتحول والعزف الصوتي المتنوع في انسجام هرموني يدل على الدربة والمهارة والقيادة الذكية لمخرجة تعرف كيف تشغل فضاءات المكان بتعددها داخل الفضاء الواسع للمسرح الوطني ، ولعل التحكم في لعبة الظل والضوء منحت الفضاء مع حركة الاجساد الانثوية المتشابكة والملتفة والمتقاطعة جمالا تعبيريا ، كانت التشكيلات الصورية بما تحمل من دلالات و تكتنز من معنى بقدر ما تعكس من وقع لرؤية بصرية جميلة ومؤثرة ، عمدت المخرجة الى تحديد الحركة وتكوين المشهدية عبر الضوء وزواياه واللون ومساقطه فكانت العين التي ترقب تتجه باتجاه الضوء الذي يغلف التكوين الجسدي للاجساد الثلاثة النابضة بمشاعر الخوف والشجن والمطلة على ساحل البحر وهي تنتظر وتامل وكان هذا الساحل الذي تطل منه تلك الاجساد هو المكان الذي يضم المتلقين فكأنها تستلهم منهم الاجابة والمشاركة في تلك المحنة حيث الفقدان والبحث والانتظار ، وهذا جزء من لعبة الاخراج الذي مد جسورا عبر الاشارة وحركة الجسد والتصويت في النداء والسؤال ما بين فضاء العرض وفضاء الصالة ، جاءت الموسيقى والاداء الصوتي في الغناء لتضيف زخما دراماتيكيا على الجو العام المفعم بالمشاعر المتوقدة والحوارات الصادمة للعرض الذي حافظ على ايقاع متدفق وتصاعد درامي مشحون وأكد على القدرة الادائية والمطاولة الجسدية والشعورية لدى الممثلات الثلاث بذات الزخم والتواصل ، الارامل عرض مسرحي يعكس براعة في اختيار الموضوعة الساخنة التي تدور حكايتها عن حياة الوطن حين يغيب عنه صانع الروح فيه وهو الانسان بفعل الحروب والخسارات ولعبة السياسة والنفوذ ، انه الوعي والانتماء عبر الفن الى كرامة الفرد بنيان الله على الارض …..
** د. عواطف نعيم / كاتبة ومخرجة مسرحية