من عبق التجريبيي…محطات من الدورة الاولى لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر و التجريبي/ اعداد:د. محمود سعيد َ& تقديم: بشرى عمور

التجريبي وضربة البداية 1988م

الملف مأخوذ عن نشرات المهرجان وعن مجلة المسرح العددان 7، 8 يوليو ديسمبر 1988م

                                                       *******************
 
                                           الجواد المجنح وحالة الترانزيت

في أحد أهم العروض في الدورة الأولى وهو بعنوان (رقصة العلم) تأليف وإخراج جواد الأسدي تقول الراحلة .. د.نهاد صليحة: “حين تنساك الساعات فتتعلق في فراغ الزمن الضائع .. ساعات لاتتحرك تغدو وقتاً مفقوداً بين الوقتين – في جملة شاعرنا الراحل، “صلاح عبد الصبور” وتضيق بك الدنيا، تتبدد في قفز الأمكنة المنسية، في مسخ المكان اللامكان، فتستحيل الحركة في أي اتجاه، شمالاً أو شرقاً .. ممنوع، جنوباً أو غرباً .. ممنوع، يغدو فضاؤك سم خياط، أو شاطئ بحر تفرشه شباك، تتهددك وتغويك لتقتنصك تسجنك، تعذبك، وتنفيك تماماً عن أمك، عن أملك، عن حلمك، أو محطة انتظار في ميناء أو مطار – ترانزيت يحمل وعداً بالمرور لايفضي إلى عبور، تغدو أسفارك وهماً، رحلتك هباء .. متاهات رحيل بلا وصول، من منفى إلى منفى، من لاوطن إلى لا وطن، ومن ضياع شريد إلى قاع عذابات جب النكران والتنكر، والسؤال والاستجواب والإهانة، ومن أنت؟ ومن أنت؟ ومن أنت؟ حتى تنمحي الأنا والأنت في كثافات السؤال والحاحه، وتلافيف الأجوبة الممرورة: لاجئ .. لاجئ .. لاجئ.
هكذا تكلم البراق العربي، جوادنا المجنح الأسدي في عرض رقصة العلم الذي كتبه وأخرجه لكتيبة المسرح الوطني الفلسطيني، وفي الندوة التي أعقبت العرض قال الفنان الكبير محمود ياسين بحرارة وصدق وبساطة أن ما رآه كان شعراً، وأضاف – بتواضع الفنان الأصيل وحساسيته المرهفة – لست ناقداً متخصصاً لأشرح وأفسر، لكني أحسست أن كل ما يحدث في المقدمة يلقي بظلال كثيفة في الخلفية، أو ربما كانت الخلفية هي مصدر الكثافة الدلالية التي تكسو ما نراه في المقدمة.
وصدق الفنان الكبير في إحساسه وتعبيره، وصدق إذ تجنب شباك وشراك التصنيفات السهلة والتعميمات الساذجة والمسميات العقيمة – مثل المسرح التحريضي أو السياسي أو الملحمي أو ما شابه ذلك، فقد كان ما رأيناه حقاً، وكما قال فناننا الكبير شعراً.
إن العرض المسرحي في أبسط تعريف هو مجموعة من العلامات المرئية والمسموعة – تتآلف وتتراسل، وتشتبك وتتصارع، لتولد دلالة كلية مركبة في إطار جدلها المستمر مع المشاهد اليقظ المتفاعل ويكتسب العرض المسرحي بعداً شعرياً حين يحتوي على علامات تنتمي إلى محيطات معرفية أو أطر دلالية متباينة تتفاعل لتولد علامات جديدة، تحيلنا بدورها إلى حقول دلالية جديدة، تستدعيها داخل العرض، كأن نضع إنساناً مثلاً في ثوب طائر، كما يحدث في عرض رقصة العلم، بما يولده هذا التداخل بين العلامتين، علامة الإنسان وعلامة الطائر من صراع دلالي بين كل المعاني التي ترتبط في الذهن بالإنسان والمعاني التي تستدعيها صورة الطير.
إن عرض رقصة العلم يرتكز على ثلاثة محاور علامية متشابكة متصلة تشكل استعارة مركبة تنفث روح الشعر في هذا العمل، أي تخلق تلك الإحالة الدائمة والاستدعاء المستمر لمعان وصور جديدة تعطي العمل كثافته الدلالية وظلاله الإيحائية التي أحسها فناننا محمود ياسين، فهناك الإنسان، والطائر، والجواد.
*******************

وكتب السيد محمد علي عن عرض “عروسة الزار” والسيكودراما الطقسية..، إن لفظ “زار” بما يعنيه من طقوس لفظ “أمهري” معناه عند الأحباش شر ينزل بإنسان ما: ولا معنى لهذه الكلمة في اللغة العربية اللهم إلا إذا أخذنا بالرأي الذي جاء به “زويمر” من أن الزار سُمي كذلك لأنه من الزيارة أي أن الجن يزور الآدميين .. ونجد في اللغة الدارجة أنه يقال لمن تصيبه هذه الحالة “منزار” ومؤنثة “منزارة”.
أما “السيكودراما” فمصطلح من علماء النفس وليس من المسرحيين، وخصوماً (ج.ل. مورينو) العالم النفساني الذي ابتدع السيكودراما كشكل من أشكال العلاج الجماعي – وفي هذا الشكل يقوم المعالج بتحديد موضوع ما.
العرض المسرحي:
وأطلق عليه المخرج اسم “عروسة الزار” ثم أعقب ذلك بعبارة “دقة ليل”، لماذا “عروسة الزار …؟ إن الموروث الشعبي لم يترك مريضة الزار إلا وقد نعتها بعدة مسميات مثل “المريدة، التعبانة، مشغولة البال، المهمومة” وذلك لاستبعاد لفظ المرض من الزار، وعندما يدق للمريضة الزار يكون لها اسم واحد فقط “العروسة” أي “عروسة الزار”.
أما عبارة “دقة ليل” فقد قصد مخرج العرض منها تحديد نوع الزار الذي سوف يكون محور الدراما المقدمة.
ويوجد مأخذين على عرض “عروسة الزار”

  • لقد اعتمد المخرج على فرضية غير موجودة وهي معرفة المتفرجين بتفصيلات طقس الزار من أحداث ورموز وقوانين خاصة جداً تفرض فعلاً محدداً .. وهذا غير حقيقي، فجاء العرض بالنسبة لهم مبهماً غريباً متشابهاً لا يتعدى الرقص و”التفقير” المتكرر، دعم ذلك صدى الصوت الناتج عن القاعة والذي ضاعت معه الكلمات والأناشيد غير المفهومة.
  • لقد أراد المخرج تقديم عرض الزار في قاعة غير تقليدية ولكنه فشل في ذلك فجاء العرض يخاطب جهة واحدة من المتفرجين وقد دفعه إلى ذلك معمار القاعة، فالمقاعد تحيط حلبة التمثيل من ثلاث جهات فقط، وهناك مدخل واحد يؤدي إلى الكواليس يوجد في الخلف.

وعن التمثيل فقد أجادت “عايدة فهمي” في دور المريضة – عروس الزار – وتقمصها لشخصيات “الجان” بمهارة شديدة وخاصة “ياوره باشا”، وقد تمتعت “إيمان الحسيني” في دور “المجذوبة” بحضور  وحسن تصرف وذلك في شغل فترات تغيير الديكور بالأدعية والتمائم، ونأتي إلى “ثريا إبراهيم” التي لعبت دور الشيخة في قوة شخصية وسطوة وحضور طاغي رغم قلة مساحة التمثيل في دورها المرسوم، وفي أدوار “الجان” أجاد “سيد عناني” في دور جادو فجاء خفيف الظل يتمتع بحيوية عالية، وقد حافظ “إبراهيم جمال” على وقار رجل الدين في أدائه لشخصية “القس”.
الملابس جاءت مكملة العرض ومن نسيج الزار وهي من تصميم “أنصاف محمد”.
وقد تميز الرقص الشعبي “التفقير” فكان بطل العرض الحقيقي وقد ظهر فيه المجهود الكبير الذي بذلته مدربة الفنون الشعبية الفنانة “سمية ربيع”.
وكتب الراحل الجميل عمر نجم “ظاهرة الزار بين الحالة .. والدراما”
عروسة الزار:
في قصر ثقافة الغوري، قدم عرض “عروسة الزار” وبعيداً عن الأوراق التي تجشم عناء تصويرها وتوزيعها على المتفرجين والنقاد عادل العليمي، والتي جاءت أشبه بمذكرة تفصيلية تخبرنا بما أراده المخرج من عرضه، فإن “عروسة الزار” لا يمكننا النظر إليه كعرض مسرحي، بل هو حالة طقسية، أبرز المخرج خلالها الجوانب الفنية للزار من موسيقى وملابس وحركة واكسسوارات.
ولا يستطيع أحد أن ينكر على عادل العليمي نجاحه في (تجميع) مثل هذا العدد من فرق الزار التي يمارس أعضاؤها هذا الطقس مهنة وعملاً، بالإضافة إلى اختياره الواعي لممثلين، الذين تميزت بينهم إيمان الحسيني، مؤدية شخصية المجذوبة، التي اختلط الأمر بشأنها طوال العرض بين الحضور، وهل هي ممثلة، أم مجذوبة بالفعل.
وحتى لا نُتهم بالتجني على “عروسة الزار” كعرض يجسد حالة طقسية ولا يقترب من بعيد أو قريب من التجريب، نورد وجهة نظر عادل العليمي التي ظهرت في ثماني نقاط بكتيب العرض لمناقشتها بعد ذلك. يقول المخرج: لقد نظرت إلى الزار على ضوء تأثيري بالشافعي وأرتو، ويكمن التجريب في هذا العرض من وجهة نظري في الآتي:

  • تقديم الزار في قاعة غير تقليدية، أي ليست منصة إيطالية.
  • التركيز على علاقة العرض بالمعمار المسرحي.
  • الاحتفالية الشعبية المصرية كما يجسدها الزار.
  • اكتشاف بنية الزار المسرحية والقوانين الداخلية التي تحكم الطقس من الداخل.
  • اعتماد العرض على لغته الخاصة أكثر من اعتماده على نص أدبي درامي مكتوب مع اعتبار أن الكلمة عنصر من عناصر العرض المسرحي وليس النص المسرحي.
  • قيام الزار على السيناريو المسرحي وليس النص المسرحي.
  • تقديم الزار بدون موقف أيديولوجي، فالزار سوف يُقدم بدون موقف، لا .. مع أو .. ضد، ثم يعقب العرض ندوة مكملة للعرض لتحديد الموقف بين الأساتذة المتخصصين والجمهور.
  • التأكيد على أن الزار سيكودراما شعبية، وشكلاً – الصواب: شكل، لأن الكلمة معطوف على مرفوع – من أشكال العلاج النفسي الجماعي، فمثلاً إغماءة الزار مساوية لإغماء صدمة الكهرباء مع فارق لصالح الزار لأنه بدون أضرار.

دونما خوض في مدى تأثر عادل العليمي بعبدالرحمن الشافعي وأرتو، ومنذ البداية، يأتي قول المخرج معيباً، وذلك حينما يقول إن تقديم الزار في قاعة تقليدية، لا يخضع معمارها للبناء الإيطالي الشهير (العلبة) مكمن للتجريب في هذا العرض، إذ أن تقديم العرض – أي عرض مسرحي – في قاعة غير تقليدية لا يعني بالضرورة بأن العرض تجريبي.
وإذا مررنا سريعاً على النقطتين الثانية والثالثة، حيث أن العرض وإن كان (حالة) للاحتفالية الشعبية، فإنه لم يسع إلى اكتشاف البنية المسرحية للزار، أو القوانين الداخلية التي تحكم الطقس من الداخل، إلا إذا أخذنا في الاعتبار أن في تقديم الزار في قصر ثقافة الغوري مثلما يُقدم في أي بيت مصري اكتشافاً للبنية المسرحية والقوانين الداخلية التي تحكم هذا الطقس!!
ثم نجئ إلى النقطة الخامسة التي تقول إن العرض يعتمد على لغة خاصة به أكثر من اعتماده على نص أدبي درامي مكتوب بالرغم من أن الكلمة عنصر من عناصر العرض المسرحي، لنقول: إن العرض اعتمد على لغة الطقس المجردة بغير حذف أو إضافة، فهل تُعد لغة الطقس لغة قادرة بأن تنهض بعرض مسرحي؟!
ولأن المتفرجين لم يشاهدوا في “عروسة الزار” سيناريو مسرحياً أو نصاً مسرحياً نترك النقطة السادسة إلى النقطتين الأخيرتين، السابعة والثامنة، حيث يبلغ اختلافنا مع المخرج الذروة.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت