مسرحية "شامة" أو قصة (اللي مشاو ما ولاّو)..كتابة نصية مكثفة، واختيارات جمالية متناغمة/ بقلم دة: نزهة حيكون
كنت ولا أزال ألج بوابة المركب الثقافي سيدي بليوط بكثير من الحماسة لمشاهدة العروض المسرحية، أشعر دائما أن تلك الخشبة توفر حميمية غير اعتيادية، وتخلق تفاعلا هاما بين الممثلين والجمهور، وبين فضاء اللعب، وفضاء التلقي، وعلى الرغم من أننا نتعامل مع الثقافة والفن بمنطق الموسم المدرسي، أو حتى مواسم التسوّق والأعراس، فنغلق كل منافذ الجمال في شهر غشت، إلا أنني كنت محظوظة ليتصادف مروري السريع من مدينة الدار البيضاء بتقديم فرقة “أقواس” لعرضها المسرحي الجديد “شامة”. العرض المسرحي من تأليف (محسن زروال) عن نص “غدا” للكاتب الانجليزي (جوزيف كونراد)، وإخراج (عادل ابا تراب)، وسينوغرافيا (رشيد الخطابي)، التشخيص لكل من (حنان خاليدي) و(جمال لعبابسي) و(عبد الله شيشة).
استفادت المسرحية من الدعم الذي تقدمه وزارة الثقافة المغربية، ويأتي هذا العرض ضمن استعداد الفرقة لتقديم منجزها هذا أمام اللجنة التي عليها تزكية موقفها الأول الموافق لمنح الفرقة دعم الإنتاج اعتبارا لأنها التزمت فيما أنجزته، بما قدّمته كمشروع على ورق، اذن، وبعيدا عن بروتكول الدعم نعود لعرض مسرحية “شامة”. يبدأ العرض بأغنية شعبية “كتبت لك برية”، مقطع ايقاعي ساهم في خلق تفاعل ايجابي مع الجمهور بشكل فوري، في انسجام مع شخصية الفتاة التي تدخل لنشر الغسيل بحركات راقصة على الحبال الموضوعة سلفا على الخشبة. تحقق اللوحة الأولى تناغما بصريا مقبولا، وتنجح في إبراز الفضاء: حبل غسيل، ومنزل من سلّم صغير وحائط يتوسطه باب أزرق، ولأجل التوازن البصري دائما عمد السينوغراف إلى وضع هيكل دمية بشرية “مانكان” من أعمدة حديدية، استعملتها الفتاة “شامة” لنشر ما تبقى من الملابس، وبطبيعة حِدقنا الفني البسيط، سنفهم أننا بصدد قطعة مهمة ستؤثث فضاء العرض، وأن أهميتها ستظهر وقد ألبستها “شامة” قميصا وسروالا رجاليين، يظهر في هذا الأثناء “الكوخو” الرجل العجوز الذي يحمل عكازه فيستعين به للمشي تارة، ولشرح كلامه، وسلاحا ضد الأفكار المشَوِّشة التي تعنُّ له من حين لآخر.
نفهم من الحديث الذي دار بين “شامة” و”الكوخو” أنه ينتظر الغد لأجل إقامة عرس، وقد عاد للتو من مفاوضات مع المغني الذي سيُحيي عرس ابنه “جلول”، الشاب المهاجر الذي اختار الضفّة الأخرى ليشُقّ طريقه، هَاجر أو هُجِّر نتيجة ظروف سنكتشفها فيما بعد، المهم أن “الكوخو” سخّر كل حياته لهذا الغد الذي سيعود فيه “جلول”، وعليه أن يجد أباه قد أعدّ العدّة لعرس أسطوري، أما العروس فهي “شامة” الفتاة الجميلة الصغيرة، التي تربّت أمامه، يُجلسها على ركبتيه، يصفف شعرها، ويطمئن لحالها، هي الهدية التي تنتظر “جلول” بعد سنوات غيبته. “شامة” الفتاة التي نجحت في مسايرة “الكوخو” في حلمه بغد مستحيل لا يأتي أبدا، هي الأخرى تحلم بزواج ينتشلها من واقع مرير، واقع أمٍّ تُحارب الحياة وحيدة، بعد أن تركها الزوج وقد أذاقها أنواع العذاب والإهانات والتّعنيف، وبالتالي ففتاة بهذا الوضع لا شكّ أنها سترى في “جلول” الملاذ والمُنقذ، وهو القادم من بلاد الأنوار، حيث الحريات والأموال الطائلة كما يعتقد الكثيرون.
يطول الحديث بين “الكوخو” و”شامة”، وقد راهن الكاتب من خلال هذا الحوار على إبراز أعطاب المجتمع، أعطاب سياسية، واجتماعية، وأخرى فكرية، زاوج الحوار بين المباشر بين الشخصيتين، وبين الشخصي، أو البوح والتداعي الحُر، ورغم أن العمل يُراهن على تيمة الغربة، وما تلّفه من آلام الانتظار، إلا أنه ومن خلالها يحاول تسليط الضوء على فئة اجتماعية في قرية بسيطة قرب البحر، البحر مكان التأمل واستقصاء الجمال، هو نفسه رمز الضياع، والحلم الذي يصل حدّ الموت في قوارب متلاشية.
الانتظار أمل تعيش به الشخصيتان، وألم ينخر روحيهما، فهو غد لا يأتي، تصارع “شامة” أحلامها ورغباتها في ترك القرية المُتاخمة للبحر، وتصارع هوس “الكوخو” بانتظار يوم قدوم ابنه، فجأة يطهر ذلك الغد، يظهر “جلول” وهو يبحث في المكان عن ذكرى موشومة في المكان، يعود من ذاك الـ هناك، وبدل أن تُشرق شمس الغد عند “الكوخو” يرفض ويصرخ ويتشنّج، يعلن سخطه، يرفعه بندقيته مهددا بقتل غده الذي جاء دون استئذان. لم يفهم “جلول” ردة فعل الأب، ويعود بنا إلى معاناته معه، وما عاشه من مشاكل عدم الفهم، وصراع الأجيال الأبدي، وكيف ركب البحر ابتعادا من أزمته مع والده المحارب القديم الذي مازال يفتخر بميداليات معدنية لا قيمة لها إلا عنده، استنفد “جلول” قبل سفره كل المحاولات ليُفهم والده أن حربه منتهية، وأن معارك الابن ليست هي ذاتها. أحس “جلول” أن لا شيء تغيّر، وأن الرفض هو نفسه الذي كان لذلك يحاول أن يفتح قناة للحوار مع “شامة”، ويعرّفها عن نفسه فتشرح له حال الأب، وما عاشه من انتظار جعله لا يتقبّل أي شيء حتى عودة الغائب التي بنى عليها ما بقي له من سنين عمره، عاد “جلول” بكثير من خيبة الأمل، وإن عاد ببعض نقود قد تغري “شامة”، عاد ليحكي ما عاشه من إقصاء وتهميش وميز، ويحدث التجاذب الحسي والعاطفي بين الشخصيتين، فتكاد تنجح خطة الأب وما أعده للابن، لولا أنه يرفضه ويرفض لهذا الغد أن يحلّ، يهابه ويخشاه، وكأن حياته ستنتهي بوصول الغد المنتظر، لذلك ما كان منه إلا أن رفع بندقيته وصوّبها اتجاه الابن/الحلم، الابن/ الغد الذي رفض قدومه رغم الانتظار الطويل.
تتميّز كتابات (محسن زروال) بكثير من العمق، والكثافة، وقدرتها على رسم صور لواقع غير زائف، واستفزازها لأفق انتظار القارئ المفترض، لن نُعرّج على النص الأصلي، وسنكتفي بنص العرض الذي سمعناه من الممثلين مباشرة، فبينما نجد “الحكاية” في هذا النص بسيطة مُتداولة، والشخصيات مألوفة، تظهر اللغة سهلة، وبسيطة، ويومية، لغة الرصيف والشارع والسوق، لغة أناس أوصلتهم أحلامهم إلى حدود القهر الاجتماعي، وشبكة العلاقات مبنية بدقة تجعل الصراع واضحا، والعوامل المساعدة والمعرضة بارزة دون تعقيد، ولعل سلاسة الكتابة قد ساعدت بشكل كبير في تناغم الاختيارات الجمالية للمخرج فيما بعد. نسج النص محكيّه من خلال الشخصيات الثلاثة:
“الكوخو” أو الأعرج باللغة الإسبانية، هو لفظ أطلق عليه لما يعانيه من اعاقة ظهرت بسيطة في العرض، لكن اعاقته الفكرية والنفسية كانت واضحة، وإذا كان الأعرج كما نعرف يعاني تعثرا في المشي، فالكوخو بمعطفه المرصع بالميداليات وعكازه، وحتى بندقيته يعاني عَرجا فكريا في تقبّل التغيير والفجوة الزمنية التي تفصله عن جيل الابن، يظن أن حربه لم تنتهي وأن بندقيته قادرة على إبعاد كل سوء عن عالمه، هو عُرج عاطفي يجعله حامل لرغبة عودة الابن واسترجاع احساس الأبوة، وفي نفس الوقت رافض لقدوم هذا الابن، وكأنه حياته ستنتهي بقدومه، فهو لم يستطع تجاوز الخلافات السابقة، ولم يصفح ويسامح رغم تعطّشه لحضن ابنه.
“شامة” وتعني لغة اية علامة في البدن مغايرة في اللون عنه، كما تعني بثرة سوداء او بنية اللون تظهر في البدن وينمو حولها الشعر، وهي احد علامات الجمال خاصة ان ظهرت في الوجه. “شامة” في المسرحية فتاة في مقتبل عمر الشباب، تعيش حياة الفقر خاصة بعد أن تركها الأب هي وأمها تعانيان ظروف عيش صعبة، ترتدي فستانا أبيض يُظهر طهارتها وبراءتها، وتتزيّن بشكل يُظهر شبابها الغض دون أن يُفقدها الحس الطفولي، رغم أنها تساير “الكوخو” في أوهامه إلا أنها تأمل هي الأخرى في الانعتاق من الوضع المتأزم. هي نموذج المرأة في العالم العربي التي ترى في الرجل منتهى آمالها. لذلك فهي عامل مساعد يؤازر “الكوخو” في انتظار الابن، وعامل مساعد لـ “جلول” لمحاولة الصلح مع الأب.
“جلول” هو الغد المأمول، وهذا الغد سيأتي من الضفة الأخرى، ولأن انتظاره قد طال بشكل عبثي، فتحقّقه أصبح مرفوضا، هو نموذج الشباب في قرى البلد، الذين يرون وراء البحار عالما من الحوريات الشقراوات، والأموال التي تنتظر من يحملها، وقد يرون فيه مجرد تغيير سيكون أفضل من الواقع المُظلم في بلد مازال مواطنوه يصارعون لأجل لقمة العيش فقط، ولأجل أبسط الضروريات، يعود جلول بكثير من ندوب الروح التي تعاني من آلام الغربة، وأقصى ما قد يتمناه زوجة من البلد تطهو له ما حُرم منه من أطباق شهية، ويعيش فيها سلطة وفحولة لم يستطع التعبير عنها هناك حيث عاش سنوات الدل والاستعباد.
استطاعت الاختيارات الجمالية للمخرج (عادل ابا تراب) أن تُساعد في رسم ملامح الشخصيات من خلال ضبط الأمكنة، وتحديد رقعة اللعب بشكل دقيق، والمزاوجة بين التشخيص وخيال الظل، التقنية التي اعتمدها المخرج باستغلال الستار الأبيض المعلّق على حبل الغسيل كلوحة تسليط للإضاءة، فوظّفه في رصد ماضي الشخصيات، وإظهار معناتها، فاستُعملت في:
- مشهد الراقصة الغجرية
- مشهد الاغتصاب
- مشهد الهجرة
- مشهد اختزالي بعد القتل لكل أحداث المسرحية
ساعدت تقنية خيال الظل جماليا، وفي أداء الدلالة، وإعطاء بعد غرائبي للفعل الدرامي المُستحضَر، وساعدت الإضاءة أيضا في تحديد الفضاءات الزمكانية، والنفسية، فأحالت على الزمن المباشر للحدث، كما أوحت بالحالة النفسية التي تعيشها الشخصيات، وكرّست الانتظار في كثير من الأحيان. أما الملابس التي استُعملت على الحبل فقد وظّفتها “شامة” لأداء أدوار أخرى تأتي في معرض حكيها عن ما عاشته وتعيشه مع “الكوخو” وكأن المخرج يريد أن يجعله حبلا لنشر وعرض الخلل الاجتماعي والنفسي التي تعيشه الشخصيات، وبقيت “الدار” فضاء خاصا بـ”الكوخو” وحده، فهي المنزل الذي تعب في تأثيثه لأجل أن يضم “جلول” و”شامة” ويضمن استمرارية النسل. بالعودة للـ”هيكل الدمية- المانكان” فقد ألبسته “شامة” نفس ما ارتداه “جلول” فيما بعد، تلك الدمية هي “جلول” المُنتَظر القادم من الـ “هناك”، هو حلم “الكوخو” بالعائلة واستمرار النسب، وهو حلم “شامة” بالزواج كأي فتاة تنتظر الفارس المنقذ من وضع، وهي نفس الدمية التي تحترق بعد أن أجهز الأب على ابنه، فيضيع “جلول” الواقع، وجلول “الأمل”.
نجح التشخيص القوي لكل من جمال لعبابسي، وعبد الله شيشة، وحنان خاليدي في ايصال الشحنات النفسية للشخصيات، والتعبير عما تعيشه من صراع، بمساعدة الاختيارات الموسيقية التي مزجت بين المغربي الشعبي، والمغاربي، والعالمي، هي مقاطع موسيقية معروفة وُضعت بشكل بسيط وأدت الغرض المطلوب منها، تجعلنا مشاهدة عرض “شامة” أمام لوحة متناغمة قد تتكون من وحدات بسيطة لكنها تشكل في مجموعها بلاغة بصرية حقيقية.