عندما توثق (سينما مصر) تاريخ الوطن بتوقيع خالد جلال/ د. حسن عطية

نجح المخرج “خالد جلال” في تحويل مركز الإبداع الذي يديره بالقاهرة منذ سنوات إلى معهد أكاديمي صغير، يستقبل المواهب في حقول التمثيل والسينوجرافيا والإخراج المسرحي، فيصقلها بالدراسة والتدريب لمدة عامين، ثم يقدمها للحركة الإبداعية في كافة المجالات المسرحية والسينمائية والتليفزيونية، مقدما إياها للجمهور والمبدعين في صيغة عرض مسرحي، منتظمة في إطار فكري/فني واحد، ومؤسسة على فقرات منفصلة متصلة بالموضوع الأساسي للعرض، تتيح لكل ممثل أن يتصدر المشهد بطولة مرة، ومرة أخرى يكون مساعدا لزميل له، بحيث يمكن الكشف عن قدراته الإبداعية في كل دور يقوم بتقديمه بفضاء المسرح.
وفي تخريجه للدفعة الخامسة بقسم التمثيل بالمركز، قدم لنا عرضا بعنوان (سينما مصر) لا يتوقف عند حد استدعاء مشاهد من تاريخ السينما المصرية، تؤديها كوكبة من الممثلين الشباب، فخورا معها بماضي هذه السينما العريقة، وبمستقبلها القادم المؤمن بأنه سيكون أفضل من حاضرها المتعثر، بل هو يعتمد في صياغته للمشاهد السينمائية المستدعاة، على ركيزتين أساسيتين، أولهما وعيه بأن السينما المصرية ليست مجرد أفلام ترفيهية، مهما بدا بعضها في الظاهر، بقدر ما هى وثائق لتاريخ المجتمع المصري عبر أكثر من مئة عام، يمكن للمتابع الدقيق لها أن يرصد رؤية صناع أفلامها لحال المجتمع والمتغيرات التي طرأت عليه، بل ويمكن خلالها رصد الأفكار التي هيمنت على عقل المجتمع بقوى السلطات السياسية والدينية والاجتماعية، وكمنت خلف السطح الظاهر لنا لهذه الأفلام.
أما الركيزة الثانية فتعتمد على اختياراته الذاتية للمشاهد السينمائية المستخدمة في عرضه، الذي حمل عنوانا عاما هو (سينما مصر)، وصياغتها في بناء مسرحي متميز لتعبر لا عن عبقرية السينما المصرية فحسب، بل عن رؤيته هو لحال المجتمع المصري، منطلقا من تبنيه لحال شخصية “نادية” بطلة فيلم (الليلة الأخيرة) للمخرج “كمال الشيخ” 1963، والتي استيقظت ذات صباح من شهر أبريل عام 1957 ، مستعيدة ذاكرتها التي فقدتها منذ خمسة عشر عاما، حينما دكت طائرات الحلفاء بيتها في الإسكندرية في أكتوبر عام 1942، ناسية كل ما حدث لها خلال سنوات فقدان الوعي، ومستنكرة وجودها الجديد كزوجة وأم تعيش بالقاهرة.
يتبنى العرض مأساة هذه الفتاة، مقدما إياها بلقطات دالة من الفيلم تتكرر أمام أعين الجمهور قبيل العرض، مركزة بوعي المتلقين القاعدة التي سينطلق منها العرض، ثم مستعرضا لها من خلال مجموعة الرواة في مفتتح العرض، ثم متتبعا بحثها عن ذاكرتها المفقودة خلال سنوات فقدانها لوعيها بسبب أصابتها في المنزل المنهار، والذي أودى بموت أختها، صاعدا بدلالة شخصية “نادية” من المستوى الفردي لمستوى عام هو حال المرأة في المجتمع المصري، وفقا لما يراه الفكر النقدي، في الأعمال الدرامية العميقة، حيث تنتقل فيه الشخصية من مجال وجودها كشخصية ذاتية الوجود مرتبطة بالسياق المجتمعي محدد الزمان والمكان، إلى (نموذج) دال من وجهة النظر الجندرية والإنسانية ليمثل (المرأة) ككل، ثم الارتفاع بها من مستوى المرأة إلى مستوى الوطن مسايرة لما هو متعارف عليه في الأدبيات المختلفة، التي ترى في المرأة الأرض/ الوطن، ومستخدما مسرحيا إلى جانب بنية المشاهد السينمائية المتوالية أغنية (حلاوة شمسنا) للثلاثي المرح، المتبتلة في حب الوطن، صحيح أنها لفرقة رضا الاستعراضية، ومن فيلم (غرام في الكرنك)، لكنها تدعم بتكرار ظهورها على المسرح دلالة الوطن الباحث عن ذاكرته المفقودة، لاسيما وأن العرض نقل حدث عودة الذاكرة فجأة دونما تبرير نفسي سواء في الفيلم أو العرض المسرحي، نقله من عام 1957 إلى عام 1967، وهو عام الصدمة للشعب المصري، وسعيه عامذاك لمعرفة مسببات هزيمة الجيش، ونكسة النظام، وهو سعي آل به لعكس ما كان يتمناه من سعيه هذا، فازدادت قبضة التقاليد المتخلفة، وتراجع العقل الجمعي عن قدرته على التحليل الموضوعي، وأصيب التقدم العلمي في مقتل.
أحتفظ العرض بنفس سنوات فقدان الوعي، وهى خمسة عشر عاما، محددا بذلك زمن الفقد للذاكرة والشخصية معا بعام 1952، وهو عام ثورة الضباط الأحرار المدعومة من الشعب والتي غيرت تاريخ الوطن والمنطقة بأكملها، وأن لم يكن عامها ثمة حرب وطيران يدك البيوت كما في الفيلم، وذلك ربما تأثرا بكتاب “توفيق الحكيم” الظالم (عودة الوعي) الذي أشار فيه إلى أن المجتمع المصري فقد ذاكرته خلال نفس السنوات. ولذا راحت “نادية” تفتش في تاريخها القريب، وعبر الوثائق السينمائية، عمن تسبب في فقدها لوعيها بالعالم خلال هذه السنوات، فوجدته ووجده العرض معها فى حضور (الرجل) في عموميته وسحقه لوجود المرأة، وفي رمز السلطة في اغتياله لحرية الوطن، كما يوحي العرض، وذلك بداية من “شاكر” زوج “نادية” الذي استغل فقدها لذاكرتها أثناء ضرب الطيران لبيتها ليحلها محل أختها “فوزية” التي ماتت في الغارة، طمعا في مالها المتوارث عن أبيها، وعاملا حينما استعادت بذاكرتها على طمس تاريخها وتزييف وعيها وصولا للإقدام على قتلها، مرورا بزواج المتجبر “عتريس” للفتاة القوية “فؤادة” دون رغبتها وسجنها ببيته ، وسقوط “نفيسة” الفقيرة في(بداية ونهاية)، وعدم فهم أخيها “حسنين” لأسباب سقوطها الأخلاقي، وتسلحه بسلطة التقاليد السائدة للخلاص منها هى الأخرى، فتقوم هى المستضعفة بإلقاء نفسها في نهر النيل، وتسأل الفتاة الريفية البسيطة “أمنة” أمها المقيدة بالتقاليد عمن قتل أختها “هنادي” في (دعاء الكروان)، وهكذا في العديد من المشاهد المستدعاة.
أنها تقاليد المجتمع التي صارت أكثر تزمتا في نصف القرن الأخير من الزمان، مرتدة بالمجتمع عن طريقه المتحرر المستنير الذي صاغه في العقود السبع الأولى من القرن الماضي، فعملت في العقود الأخيرة على اغتيال شخصية المرأة، وتغييب وعيها، مغيبة بالتالي وعي الوطن بأكمله، والذي لم تتوقف مؤامرات الداخل عليه من الفكر المتخثر، بل واجه مؤامرات خارجية وصلت للعدوان الثلاثي عليه في 1956، مما استدعي لذاكرة “نادية” موقف “عبد الناصر” في فيلم (ناصر 56)، وهو يقف على منبر الأزهر معلنا أنه باق مع شعبه، وسيحاربان معا ضد عدوان غاشم، لم يفقد فيه الوطن إنسانيته، والتي تجلت في مشهد “صلاح الدين الأيوبي” وهو قادم لمعسكر الصليبيين لمداواة خصمه “ريتشارد قلب الأسد” ، رغم الحرب القائمة بينهما، هذه الإنسانية الراقية التي تجلت أيضا في مشهد المفكر الحر “أبن رشد” في مواجهة “عبد الله” ابن خليفة الأندلس المتسلط، في فيلم (المصير)، فضلا عن مشهد المواجهة مع العدو في فيلم (أغنية على الممر)، ومشهد صمود الجزائرية “جميلة بو حيرد” في الفيلم الذي يحمل أسمها، ومواجهتها للمحاكمة الظالمة لجهادها ونضالها لتحرير الوطن، مما كشف عن لحظات مضيئة في مسيرة نادية/ المرأة/ الوطن خلال سنوات ما قبل النكسة وما بعدها، والتي سجلتها السينما المصرية خلال رحلتها في التعبير عما يحدث في المجتمع، وفي الكشف عن أنه رغم الردة التي عانتها “نادية” بعد عودة الوعي إليها، فأن الحياة أثناء فقدها لوعيها لم تتوقف عن معاندة كل من راح يشل حركتها ويؤود زهوها، وهو ما ينعكس في تفاؤل العرض في نهايته بالزمن القادم، واحتفائه بتاريخه الوطني المتمثل في سيادة رمز مصري  أقرب لمفتاح عنخ الذهبي على ملابس الممثلات السوداء وهن يحاصرن الرجال الذين مثلوا في لحظة الختام كل “شاكر” رجلا متخلفا كان أو رمزا لمن يعادى هذا الوطن، صارخات فيهم بأنهن أصحاب أصل وحضارة.
عرض ممتع، رغم طول زمنه، متسق إلى حد كبير مع موضوعه، رغم وجود مشاهد زائدة ينبغي حذفها لتتسق الدلالات داخل نسق عرضها، وشباب جاد يمتلك موهبته وقدراته الأدائية المتميزة، التي نأمل ألا تضيع في خضم الحاضر السينمائي والتليفزيوني المضطرب، وأن تكون عند حسن أستاذها ومدربها وقائد مسيرة عرضها “خالد جلال” في الإيمان بمستقبل السينما المصرية، بجهد كل من عشق هذا الفن الراقي، والمناقش لقضايانا الساخنة، والداعي للتمسك بوعينا وعدم نسيان تاريخنا، والنظر إليه بعيون موضوعية جادة.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت