مديات التقنيات البصرية في المسرح وتحولاتها الخلاقة ../ بقلم : يوسف الحمدان
ورقة بحثية مقدمة في المنتدى العلمي للفنون والإعلام الهيئة العامة للشباب .. الكويت
سوف لن يهدأ هذا الجيل ، جيل الإصبع ، جيل الصورة بشتى أشكالها وأنواعها وتقنياتها البصرية والرقمية ، قبل أن يرى الكائنات البشرية واللابشرية أشبه ببيادق ودمى البلي ستيشن وهي تتحول إلى لعبة ، هو يحركها ويتسلى بها ، فهذه أقصى غاية متعته وسعادته ، وربما تنسحب هذه المتعة والسعادة على محاولته الحثيثة والمستميتة في تحويل فعل المسرح الحي المؤثر في الآخر إلى كائن مستلب تماما من روحه ، يخضع لمزاجه الخاص ورغبته العارمة في اللعب والتسلية .
إنها هيمنة الصورة وطغيان تقنياتها البصرية والرقمية ، بما فيها وسائط التلفزيون والسينما والملتميديا ووسائل التواصل الاجتماعي والغرافيك والفوتو شوب وكل المعطيات الرقمية النووية الهائلة ، إذ كل المؤشرات توميء أو تشير بأن الكائن البشري سيتحول رقما في ترس الماكينة المعلوماتية التكنولوجية الضخمة الهائلة ، فبقدر رغبة هذا الكائن العارمة في السيطرة على هذه الآلة الجهنمية الضخمة ، بالقدر نفسه وأضعافه هي رغبة هذه الآلة على تحويل كل اهتمامات هذا الكائن نحوها ، بحيث يصبح أسيرا لمغرياتها ومغوياتها السريعة النووية التحول والتغير والتأثير .
وإذا وقفنا على التلفزيون والسينما بوصفهما فنين أو وسيطين هما نتاج أو صنو هذه التقنيات البصرية ، فكيف يكون الحال عليه في فن المسرح بوصفه فنا حيا ، رأس ماله الحقيقي والفعلي الممثل وأفضية العرض بشتى أنواعها وأشكالها ؟ كيف يستطيع هذا الفن الحي أن يستثمر هذه التقنيات ويوظفها في عروضه دون أن تلغي أو تهمش كيانه بوصفه واحدا من أهم الفنون وأقدمها تأثيرا وتواصلا مع المجتمع ؟
طبعا لم يكن المسرح بمعزل تام عن استثمار وتوظيف مثل هذه التقنيات في عروضه المسرحية ، ولعل بداية التحديات كانت مع الرسام والنحات والإيطالي ليوناردو دافنشي الذي سبقت اكتشافاته اختراع التلفزيون والسينما ، وذلك عام 1518 عندما أوجد حلولا تقنية لأوبرا أسطورة أورفيوس ، وذلك من خلال تصميمه خشبة مسرح ميكنية تستوعب وتحرك مختلف المناظر المعقدة المتعددة في الأوبرا وتغير مستوياتها من خلال مصعد يرفع من تحت الخشبة إلى أعلى ليشكل بذلك قببا وكنائس وجبال .
وهنا نلحظ أن التقنيات البصرية قد تأسست وتشكلت في البدء في المسرح ، وكانت هي الإرهاص الأول لاكتشاف التلفزيون والسينما فيما بعد ، وكانت المحفز الأول أيضا لبزوغ فجر المسرح التسجيلي على يد الكاتب المسرحي والرسام الألماني بيتر فايس ، الذي ولد في برلين واستقر في السويد وبدأ نشاطه مع المسرح التسجيلي الوثائقي عام 1945 ، مع الحرب العالمية الثانية ، ويعتمد مسرحه على تقارير حقيقية وعلى الوثائق الصحفية التي تخاطب الطبقة العاملة , وذلك من خلال رؤية عصرية باستعمال الحيل الدرامية ومن بينها الوثيقة المصورة ، وكانت مسرحية ( مارا صاد ) أو ( عذابات موكنبوت ) من أشهر مسرحياته والتي نالت حظا وافرا لدى أشهر وأهم الكتاب العرب والمخرجين أيضا ، ومن بين الكتاب التي قدموها برؤية تلتئم وواقعنا العربي الراحل سعد ونوس والتي أطلق عليها ( رحلة حنظلة ) اما المخرجون فهم كثر ومن بينهم المخرج المصري سناء شافع .
ولنا أن نشير إلى تجربة خليجية عربية تأثرت بالإتجاه التسجيلي الوثائقي لبيتر فايس ، وإن منحت مضمونها بعدا فنيا جماليا مختلفا ، وأعني بها تجربة الناقد والكاتب الكويتي الدكتور علي العنزي في نصه ( اسفار الموت والمقاومة ) وهي واحدة من النصوص المسرحية التي استوقفتني لأهميتها الوثائقية أولا ، خاصة وأنها تناولت قضية عشناها وشغلتنا وأرقتنا خليجيا وعربيا ، وثانيا لأن مؤلفها العنزي تمكن وبجرأة غير عادية ، أن يتناول مثل هذا النوع من القضايا الصعبة والإشكالية التي تتكيء على الوثيقة والمستند الواقعي والتشريعي اللذين لا مناص لهما من التورط في الحالة التقريرية والسردية والمباشرة في كثير من الأحيان ، أن يتناوله في إطار مسرحي فني ، لم يبرع في التميز فيه إلا القلة من الكتاب ، وخاصة الكتاب الذين اشتغلوا في الحقل السياسي بشتى صنوفه الفكرية والأيديولوجية ، من أمثال آرفين بيسكاتور وبرتولد بريخت وبيتر فايس وإن شذ عنهم برؤيته البصرية التجريبية للوثيقة الحية .
ولعل أهم ما في هذا النص الوثائقي ، هو تناول الكاتب العنزي أحداثه الوثائقية والتاريخية في أسفار عنونها برحلة محنة الكويت ومقاومة أهلها إبان الغزو العراقي على الكويت ، واختزال هذه الأحداث في محاكمات معضدة بالأدلة والمستندات والضحايا والشهود والسلايدات والأفلام التي توازي حالات الاعتراف وتسلط الضوء على تاريخ الواقعة ، بجانب محاولته إشراك الجمهور في المحاكمات .
ومن بعد بيتر فايس كمؤسس للمسرح التسجيلي ، يأتي وبجرأة أكبر على استثمار وتوظيف هذه التقنيات المخرج الألماني أرفين بيسكاتور ، الذي اعتمد في عروضه الوثائقية السياسية على العناصر البصرية٬ ومن بينها الأفلام الصامتة ٬ وهي صور منعكسة على شاشات كبيرة للحصول على مصداقية الفعل لتحريك المتفرج وتفعيل الموقف النقدي من خلال تكييف المسرح لمطابقته للبيئة ، ومن ثم تبعه مجموعة من المسرحيين المعاصرين مثل “آن ديفاريه سميث” و “ساره جونز” و “نيلاجا صن” و “بروك هايكوك” وغيرهم من مسرحيين اعتمدوا على تقنيات التوثيق الحديثة من خلال استخدام “الإنترنت” و “المالتيميديا” و “الإسقاط الضوئى” لخدمة هدف المسرح الوثائقى .
ألا أن المنعطف الحقيقي والذي تمكن من أن يحدث ثورة في مجال هذه التقنيات البصرية كان مع المخرج الأمريكي روبرت ويلسون ، وهو فيزيائي أمريكي حاز على جائزة نوبل للفيزياء عام 1978 مع زميله آرنو بينزياس عن “اكتشافهما إشعاع الخلفية الميكروني الكوني ” ، وقد شاركهما في الجائزة بيوتر كابيتسا ، وهو مصمم مسرحي وكاتب وممثل ومخرج لمسرحيات ما بعد الحداثة كما أن له رسوماً ومطبوعات وأفلام، ومنذ عام 1960 قدم أشكالاً من الدراما الإنسانية الذاتية ، وتتميز أعماله بالإستاتيكية الصورية والخطوات البطيئة، والتناقض في مسرحه هو الأساس ، ويرتبط ذلك بفكرة التفكيك والتناقض ، كما أن الفعل الذي تقوم عليه أي مسرحية من مسرحياته يتشكل وينحل ويتداخل مع أشياء أخرى ويتشظى ويعاد تشـكيله .
إن روبرت ويلسون تمكن من استضافة الغرائبي والسيريالي والملحمي والتشكيلي والنحتي والتلفزيوني والسينمائي في أعماله المسرحية ، وقد سخر لإنجاز أعماله المسرحية فريق كبير من أمهر التقنين في مختلف التقنيات البصرية والميكنية التي تتطلبها عروضه المسرحية التي يطغى فيها الجانب البصري على كل المفردات الأخرى فيها .
ولشدة هوس روبرت ويلسون بالتقنيات البصرية ، فإنه يقوم بتصميم وإعداد الصور والرسوم والأفلام والميزانسين قبل تدريب الممثلين وقراءة النص واختبار فضاء العرض ، فمثل هذه المهمة يعتبرها ويلسون مسألة تنظيم معماري في الزمن والفضاء ، إنه الأداء على أسس الرقص دون الاكتراث أو الاهتمام بالبناء الأدبي للنص ، فالقيمة البصرية بالنسبة له أكثر أهمية من القيمة الأدبية .
وقد اعتاد ويلسون دائما أن يبتكر شكلاً متميزا غير مألوف للعرض ، ففي مسرحية ماكنة هاملت لهنري ميللر القصيرة، كان المؤلف قد خطط للعرض كي لا يتجاوز 15 دقيقة، لكن العرض في معالجة ولسون استغرق ساعتين ونصف، حيث وزع حوار المسرحية على الممثلين بشكل عشوائي، مما أعطى للعرض طابعاً سريالياً صرفاً ، كما فسح المجال واسعا للصورة والفيلم والموسيقى .
ومن أهم أعماله مسرحية 1914 عن أحداث حدثت في براغ على خشبة المسرح الوطني إبان الحرب العالمية الأولى ، وهي مستوحاة من رواية ( جندي تشيكي شجاع ) لمؤلفها ياسولاف هاسي كتبها عام 1921ومسرحية الأيام الأخيرة للبشرية التي كتبها كار كراوس بعد الحرب العالمية .
أما في عروض ريتشارد ششنر وهو أحد أهم مخرجي مسرح ما بعد الحداثة الذي اشتغل على تفكيك النصوص ومعارضتها بالرؤى البصرية المتعارضة والأحداث المتناقضة بغية الإيحاء باللامعنى ، وذلك عبر كولاج بصري يتخطى السائد والمألوف في معالجة التقنيات البصرية ، الأمر الذي يمنح العرض أبعادا تأويلية قائمة على استفزاز ونقض المتوقع .
ويعد المخرج التونسي المبدع توفيق الجبالي أحد أهم من اشتغل على اللا مستقر والمستفز للمتوقع في عروضه المسرحية التي أسست لرؤية بصرية مغايرة لها معطياتها وشروطها الخاصة بها .
ففي عرضه ( المجنون ) نلحظ كيف تتحول كل مفردات وعناصر الخلق المسرحي، من صوت ولون وتشكيل ونحت ورقص وسمهجات وهلوسات وحكايات وموسيقى وذبذبات ووشوشات وتجليات صوفية مهووسة بالذي لن يأتي ولن يستقر، تتحول إلى صورة حية تختزل كون جبران وتضعه في محور فلكي يشبه درب التبانة، حيث لا تميز الضوء عن السديم، ولا حركية الكون عن ثبات محورها وتفلته.
إن اشتغالات واشتعالات الجبالي المخبرية القلقة في المسرح، غالبا ما تقترح على مؤديها ومتلقيها لغة هي من (الجنون) الذي لا يأبه بالتوصيف أو التصنيف، ولا يأبه بالتوضيح أو الغامض والمبهم.
هي لغة ليست في وارد التعاطي مع المسرح بوصفه فعل ممثل وفضاء للتمثيل أو التمسرح، إنما هي لغة اشتباكية مع الأحياء والأشياء، مع النقائض والمتضادات، مع المخفي بوصفه أكثر (جُنًا) من المخفي ذاته، مع الوهم بوصفه حلما، ومع العذابات بوصفها مسارات لا حدود لانتهائها ولا ملامح لأسرار منابعها.
إنه يلج بنا إلى ذرى أمواج يصعب علينا تخطف ُطشارها الزبدي، وإلى استقصاءات مخبرية تتجاوز حصرها في البحث الجسدي السائد، إذ كل الحالات في (مجنونة) الخلاق المتفلت، هي في كل حالة منها استقصاء مخبري، ففي الوقت الذي ترعف فيه أجساد ودواخل خيوله الحرة، بما يعتمل بها من قلق ومحاولة للهروب نحو الفضاء الأكثر تحررا، في الوقت ذاته يكشف لنا ليلها الخلاق عن مبهمات لكائنات يكتسيها ظلام مريب وملبس، وكما لو أن هذه الحيوات المبهمة ظلالات تحيا في جوانح كمائن هذه الأجساد (الخيول)، وهذا الظلام المتعدد الحيوات والمبهمات والأوهام والدروب الغرائبية المريبة.
إن الجبالي لا يعنيه أن يكون الممثل في (مجنونه) و(جنونه) محورًا كي يتحقق العرض، ولا تعنيه التماثلات المرتبة كي تتحقق النتائجية والتماثلية البصرية والصوتية في العرض، يعنيه أن يكون المسرح وإن لم يكن الفضاء، تعنيه الحالة التي من شأنها أن تنتج حياة في المسرح وإن لم تكن حية بالمعنى البيولوجي أو المادي، تعنيه اشتباكات الأزمنة النفسية والميتافيزيقية في حيزها الأكثر مواربة وقلقا وحيرة.
لذا حتى لو كانت الأصوات المسجلة والوشوشات والذبذبات وحدها تتملك فضاء العرض أو فضاء الجنون، فمن شأنها أن تنتج وتشكل عرضها وأفقها. كل الأجساد في هلوسات الشاعر المجنون (جبران والجبالي)، صورًا حية، تتآخى وتتقاطع مع كل الكائنات الأخرى في العرض، كما أنها صور تتمنتج في الآن ذاته ويخبو وهجها في الآن ذاته أيضا، ويظل بحثك عنها، هو بحثك عن الصور التي ضلت طريقها في مخيلتك البصرية.
وتظل تبحث وتبحث، تصعد وتهبط، وكما لو أنك سيزيف الجنون الكوني الذي أومضه الجبالي في لحظة صورية بصرية هائلة الضوء والعتمة والريبة، لتبدو أمامه متكأ الأثر الأول لقدم الصعود نحو سلم العذابات الكوني، ونحو أمل يأخذنا نحو الصعود إلى الهاوية.
يستحضر (جنون) الجبالي سيزيف كوننا المضني في لحظة برقية مؤثرة، ليظل في كل وهلة ماثلا بقوة في دواخلنا، ولتتشكل من بين محيط عتمته (التبانية)، أفضية صورية تتجلى في نثار ضوء هنا يخطف أعيننا نحوه للحظات ومن ثم يخبو، لتتشكل معه مواويل حزن تأتي من بعيد قاع ذاكرتنا ومخيلتنا، لتستقر في ذاكرة ومخيلة حضرت اللحظة وتجاوزتنا إلى لحظات غريبة ظلت تشاغب أوهامنا وستظل حتى قاع أخرى أشد شراسة وفتكا لتكهناتنا بمصيرها ومصيرنا.
هو الليل، هو الظلام، هو سحر اللون، هو منبلج الخلق والكون والصورة، هو الصوت المبتدى واللامنتهى، هو نحن والآخر وما بعد الآخر، هو شاشة المسرح والفيلم والوهم والحلم، هو ورطة لعبة ( البازل) التركيبية والمركبة التي اختزل فيها (جنون) الجبالي رؤية أخرى جديدة لبورتريه جبران خليل جبران، ليتماهى في حيزها غير المكتمل (المجنون) و(الجنون)، ولينتج من خلالها الجبالي أفقا جديدا وخلاقا وساحرا في عالمنا المسرحي بكونيته المنفتحة على رؤى نحلم يوما أن نحقق شظايا صورة منها .
وهنا نلحظ قدرة هؤلاء المخرجين على استثمار مثل هذه التقنيات لمعطيات وفضاءات المسرح وليس العكس ، بمعنى أن تصبح هذه التقنيات جزءا لا يتجزأ من عناصر العرض المسرحي وليس العكس .
الصورة قامعة ومخاتلة لمخيلة الخلق والتكوين ، وما لم تكن قادرا على الإمساك بتلابيبها فإنها تجرك وتجذبك نحو ممكناتها دون هوادة ، فهي بالرغم من أنها تستثير مخيلتك للبحث والاكتشاف ، إلا أنها في الوقت نفسه ممكن أن تؤطرك في مغرياتها ومغوياتها ، وفي هذا الصدد وقع في مثل هذه الفخاخ والحبائل الكثير من المخرجين الذين أصبحت تجاربهم المسرحية أشبه بعروض سينمائية أو رقمية لا تحفل ولا تقف عند المسرح بوصفه قادرا على توظيف مثل هذه التقنيات في أفضيته الحية ، ذلك أنهم لم يتمكنوا من خلق نشوء متزامن بين الفعل المسرحي والصورة وتقنياتها البصرية .
ومن التجارب المسرحية العالمية التي أتيحت لي فرصة مشاهدتها ضمن مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما ، تجربة الممثلة المخرجة الحائزة على جائزة كازانوفا للمونودراما ، الليتوانية بيروتي مار ، التي تمكنت في مسرحيتها أنتيجون أن تجعل من المسرح فضاء ملتيميديا رقميا هائلا ، تبدو فيه كنقطة صفرية تائهة وهي تبحث عن قرارها الكوني في مواجهة هذا العصر ، ولتصبح هذه التقنية جزءا لا يتجزأ من كيانها البشري الوجودي .
ومن أهم التجارب المؤسسة الرائدة في عالم المسرح والتي احتفت بهذه التقنيات بوصفها عنصرا حيا في المسرح ، تجربة المخرج الفرنسي باتريس بافيس ، الذي تمكن من أن يجعل من جسد الممثل علامة بصرية قابلة للتغير والتحول والتجدد والتأثير ، والذي استثمرها المخرج العراقي الرائد في مسرح الصورة بوطننا العربي الدكتور صلاح القصب في أغلب إن لم نقل كل مسرحياته ، ومن أهمها مسرحية الحلم الضوئي وعزلة الكريستال وماكبث والتي تسنى لي مشاهدتها أيضا ، حيث تمكن من تحويل الفضاء المسرحي إلى فضاء يشبه الفضاء السينمائي في تقنيته ، كما هو الحال في تجارب المخرج المصري انتصار عبدالفتاح في مسرحيته ( مخدة الكحل ) التي تحولت إلى صور حية و المخرج البحريني عبدالله السعداوي في مسرحياته ولعل أهمها مسرحية اسكوريال والقربان اللتين تحولت أفضيتها إلى بيئة سينمائية تواشجت مختلف التقنيات البصرية بما فيها الجسد على إبرازها وتدشين ملامحها الجمالية المؤسسة في مسرحنا الخليجي ، والتي استثمرها بطريقة مختلفة عبر وسائط وتقنيات بصرية الفنان خالد الرويعي في مسرحيتيه ( الرسائل ) و ( إيفا ) .
ومن التجارب التي حاولت استثمار هذه التقنيات ، وخاصة تقنية الفيديو والشرائح البصرية ، تجربة المخرج المسرحي المصري الشاب الفنان مازن الغرباوي في مسرحيته ( انتحار معلن ) لمؤلفها الكاتب والناقد المسرحي السعودي الدكتور سامي الجمعان ، حيث جعل من النهر الذي يلتهم فضاء العرض بتموجاته المريبة وسواده المرعب المفزع كمينا مخاتلا ووحشا متربصا لضحيته التي تعلن الانتحار بجواره لحظة يأس قاتل فادح ، والتي استقى المؤلف رؤيته النصية من حياة فرجينيا وولف في اللحظات الأخيرة من حياتها .
وتتعدد علامات الجسد البصرية بتعدد رؤى المخرجين ، ومن بين من أولى هذه العلامة أهمية كبرى في تجاربه المسرحية ، المخرجة الشابة المغربية أسماء الهوري في مسرحيتها ( خريف ) ، والتي تمكنت من أن تجعل من خزانة العرض كادرا سينمائيا تتعدد فيه الدلالات الجسدية وتختزل فيه القضايا التي يقترحها العرض على فضائه المسرحي وعلى المتلقي ، وكذلك المخرج المغربي محمد الحر في مسرحيته ( صولو ) الذي اشتغل على تقنية المونتاج لمنح رواية الكاتب المغربي الطاهر بن جلون ( ليلة القدر ) فضاء روحانيا واجتماعيا آخر ومؤثرا .
وقد سبقه في الاشتغال على مونتاجية العرض المخرج الكويتي فيصل العميري في مسرحيته ( صدى الصمت ) ، حيث تأسس العرض كله منذ البداية على هذه التغريبة المونتاجية التي أهلته مثلما أهلت ( خريف ) للهوري و( صولو ) للحر بأن ينال جائزة أفضل عرض مسرحي عربي في مهرجان الهيئة العربية للمسرح الذي أقيم بدولة الكويت عام 2015.
وتتجلى مبررات فوز المخرج فيصل العميري بالمركز الأول عن مسرحيته ( صدى الصمت ) ، في قدرته على استثمار كافة مفردات وعناصر العرض المسرحي ، وإبرازها بما يمكنها من تفجير البعد الدلالي للنص وتشظية أبعاده الإنسانية المركبة والصعبة ، واستثمار الفضاء المسرحي بفسحه الأوسع لرائحة انعكاسات الحرب على الشخصيات وما تخلفه من غربة ومن وحشة ومن حالة عبثية فاقعة ، معضدا ذلك بتواشج حوار خلاق بين الفنون البصرية والسمعية والأدبية والسينمائية والموسيقية ، التي شكلت أفضية زمنية متعددة هي باستمرار في حالة تنامي وتقاطع واشتباك ، إضافة إلى استثمار المخرج للمؤثرات الموسيقية الحية والتي شكل منها حالة تندغم فيها لعبة الحوار المتشظي بين الشخصيات وبين كونها قائدا لدفة العرض من خلال الدراماتورج المهرج البائس ، والذي تمكن من خلال المخرج أن يخلق عالما مونتاجيا لكل الحالات في العرض ، الأمر الذي أصبح فيه هذا العرض يتحرك بعناصره ضمن زخم سينمائي لافت ليمنح المسرح بذلك إمكانية قصوى لاستقطاب الفنون البصرية وجعلها عنصرا مهما من عناصر العرض المسرحي .
كما أن توظيف المخرج للإضاءة في هذا العرض جاء ملائما للتحولات الزمنية بأبعادها الواقعية والدلالية والتخيلية ، بجانب التعامل الاحترافي الموفق في تشكيل جسد وروح الممثل في التجربة ، حيث نلحظ التحولات بين الأداء الغروتيسكي والكاريكاتوري والواقعي والعبثي ، الأمر الذي أصبح فيه هذا النص السردي حالة من حالات الفعل المسرحي التي كتبت على فضاء العرض المسرحي وليس على الورق .
تمكن المخرج العميري أيضا من كشف العوالم النفسية لكل شخصية في العرض ، لتصبح نسيجا حيا لرؤية إبداعية أصبح فيها العميري مؤلفا بارعا لعرضه المسرحي المفعم بالدلالات المتوالدة بجمالياتها الفنية والتقنية الآسرة .
ولم يكن هذا الاستثمار والتوظيف ببعيدين أو غريبين على المخرج الكويتي الدكتور عبدالله العابر ، حيث تمكن من خلق لحمة بصرية قوامها الجسد والتقنية البصرية في مسرحيته ( الصبخة ) التي ألفها بدراماتورجية الناقد والكاتب الكويتي الدكتور فيصل القحطاني ، والتي أذهلنا فيها من خلال استخدام اللقطة الوامضة كومضة النقطة الحمراء في لوحة الفنان التشكيلي خوان ميرو لتدفعنا للبحث عن دلالات أخرى في التجربة ، إضافة إلى مقترحاته المونتاجية التي وضعتنا في قلب البحث عن أزمنة هي أقرب للحلم من الواقع ، وكما لو أنه يقترح نقاطا صفرية صعبة لا تتوفر إلا في العالم الرقمي الهائل لهذه التقنيات البصرية الديجيتالية المركبة المتشظية الالتباسية .
وبجرأة لا متناهية يحيل المخرج الإماراتي محمد العامري فضاء عرض ( كتاب الله ) للدكتور الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة إلى عالم تتحاور وتتقاطع فيه كل التقنيات البصرية والرقمية والغرافيكية ، لتصبح متآخية مع الجسد بوصفه علامة بصرية ومع فضاء العرض بوصفه منتجا لهذه التقنيات وليس تابعا لها ، وهو تحد يصعب تجاوزه إذا ما وقفت على الممكنات البصرية التقنية الهائلة التي تم توظيفها في هذا العرض .
وإذا كانت بعض هذه التجارب مستثمرة لهذه التقنيات ، فإن المصمم السينوغرافي والمخرج الكويتي المبدع فيصل العبيد منتجا لها ، وخاصة في اشتغالاته الميكنية وخدعه البصرية التي منحت التجربة المسرحية في الكويت وهجا تقنيا إبداعيا مغايرا ومؤسسا ، وكما لو أنه يقترح علينا في بعض تجاربه المسرحية إمكانية استثمار الخيال العلمي والتقني بوصفه لازمة أساسية لتأويل العرض بعيدا عن منطلقاته الفنية المتاحة الأقرب للمعطى الواقعي المتشابه في عناصره .
إن التقنيات البصرية والرقمية الهائلة أسهمت دون أدنى شك في إشعال وتأجيج خلايا المخيلة إلى أقصى مدياتها لدى المشتغلين في حقل المسرح ، ومن هنا ينبغي استثمارها وفق معطيات التجربة المسرحية تجنبا للخلط العشوائي بينها وبين هذه المعطيات ، واستثمارها أيضا بوصف المسرح أيضا قادرا على مدها بطاقته التخيلية فسحا أكثر وأكبر من شأنها أن تكون هي من منتجاته وابتكاراته وليس العكس ، وليس معادلا موازيا موضوعيا له .
ويظل السؤال مقلقا للرأس : كيف يمكننا أن نشكل من هذه العلائق الحية والبصرية اتجاها أو اتجاهات مسرحية لها مؤسسوها ومبدعوها كما هو الحال مثلا لدى روبرت ويلسون ومن سبقه من المؤسسين من أمثال بيتر فايس وأرفين بيسكاتور ؟
متى نستطيع أن نخرج من الحالة الوظيفية الطارئة لهذه التقنيات والتي يقتضيها هذا العرض دون ذاك ؟
متى يتمكن مخرجونا من المسك بتلابيب هذه التقنيات والتحكم فيها بوصفها عناصر تنتمي لكونهم المسرحي أولا وأخيرا ؟
متى تتحول هذه الأصفار الرقمية كائنات حية لا تدع المجال واسعا أمام من يتحكم بها في ملعبه بوصفها بيادق للعبة الإلكترونية الشائعة ؟
كيف يصنع المسرح تقنياته البصرية وليس العكس ، حيث لا تزال الاستعارة ماثلة بقوة في أغلب التجارب التي تستخدم التقنيات البصرية ؟
متى تجد هذه التقنيات البصرية والرقمية الهائلة موقعا فعليا لها في أكاديمياتنا المسرحية والفنية وليس هامشيا ؟
متى ندرك ان جيل الأصبع للمسرح بالمرصاد ؟
أسئلة تروم التأسيس لوهج اتجاهي خلاق في المسرح ومغاير في كل معطياته عن من سبقه من المؤسسين لاتجاهات مسرحية سابقة ..
إنها هيمنة الصورة وطغيان تقنياتها البصرية والرقمية ، بما فيها وسائط التلفزيون والسينما والملتميديا ووسائل التواصل الاجتماعي والغرافيك والفوتو شوب وكل المعطيات الرقمية النووية الهائلة ، إذ كل المؤشرات توميء أو تشير بأن الكائن البشري سيتحول رقما في ترس الماكينة المعلوماتية التكنولوجية الضخمة الهائلة ، فبقدر رغبة هذا الكائن العارمة في السيطرة على هذه الآلة الجهنمية الضخمة ، بالقدر نفسه وأضعافه هي رغبة هذه الآلة على تحويل كل اهتمامات هذا الكائن نحوها ، بحيث يصبح أسيرا لمغرياتها ومغوياتها السريعة النووية التحول والتغير والتأثير .
وإذا وقفنا على التلفزيون والسينما بوصفهما فنين أو وسيطين هما نتاج أو صنو هذه التقنيات البصرية ، فكيف يكون الحال عليه في فن المسرح بوصفه فنا حيا ، رأس ماله الحقيقي والفعلي الممثل وأفضية العرض بشتى أنواعها وأشكالها ؟ كيف يستطيع هذا الفن الحي أن يستثمر هذه التقنيات ويوظفها في عروضه دون أن تلغي أو تهمش كيانه بوصفه واحدا من أهم الفنون وأقدمها تأثيرا وتواصلا مع المجتمع ؟
طبعا لم يكن المسرح بمعزل تام عن استثمار وتوظيف مثل هذه التقنيات في عروضه المسرحية ، ولعل بداية التحديات كانت مع الرسام والنحات والإيطالي ليوناردو دافنشي الذي سبقت اكتشافاته اختراع التلفزيون والسينما ، وذلك عام 1518 عندما أوجد حلولا تقنية لأوبرا أسطورة أورفيوس ، وذلك من خلال تصميمه خشبة مسرح ميكنية تستوعب وتحرك مختلف المناظر المعقدة المتعددة في الأوبرا وتغير مستوياتها من خلال مصعد يرفع من تحت الخشبة إلى أعلى ليشكل بذلك قببا وكنائس وجبال .
وهنا نلحظ أن التقنيات البصرية قد تأسست وتشكلت في البدء في المسرح ، وكانت هي الإرهاص الأول لاكتشاف التلفزيون والسينما فيما بعد ، وكانت المحفز الأول أيضا لبزوغ فجر المسرح التسجيلي على يد الكاتب المسرحي والرسام الألماني بيتر فايس ، الذي ولد في برلين واستقر في السويد وبدأ نشاطه مع المسرح التسجيلي الوثائقي عام 1945 ، مع الحرب العالمية الثانية ، ويعتمد مسرحه على تقارير حقيقية وعلى الوثائق الصحفية التي تخاطب الطبقة العاملة , وذلك من خلال رؤية عصرية باستعمال الحيل الدرامية ومن بينها الوثيقة المصورة ، وكانت مسرحية ( مارا صاد ) أو ( عذابات موكنبوت ) من أشهر مسرحياته والتي نالت حظا وافرا لدى أشهر وأهم الكتاب العرب والمخرجين أيضا ، ومن بين الكتاب التي قدموها برؤية تلتئم وواقعنا العربي الراحل سعد ونوس والتي أطلق عليها ( رحلة حنظلة ) اما المخرجون فهم كثر ومن بينهم المخرج المصري سناء شافع .
ولنا أن نشير إلى تجربة خليجية عربية تأثرت بالإتجاه التسجيلي الوثائقي لبيتر فايس ، وإن منحت مضمونها بعدا فنيا جماليا مختلفا ، وأعني بها تجربة الناقد والكاتب الكويتي الدكتور علي العنزي في نصه ( اسفار الموت والمقاومة ) وهي واحدة من النصوص المسرحية التي استوقفتني لأهميتها الوثائقية أولا ، خاصة وأنها تناولت قضية عشناها وشغلتنا وأرقتنا خليجيا وعربيا ، وثانيا لأن مؤلفها العنزي تمكن وبجرأة غير عادية ، أن يتناول مثل هذا النوع من القضايا الصعبة والإشكالية التي تتكيء على الوثيقة والمستند الواقعي والتشريعي اللذين لا مناص لهما من التورط في الحالة التقريرية والسردية والمباشرة في كثير من الأحيان ، أن يتناوله في إطار مسرحي فني ، لم يبرع في التميز فيه إلا القلة من الكتاب ، وخاصة الكتاب الذين اشتغلوا في الحقل السياسي بشتى صنوفه الفكرية والأيديولوجية ، من أمثال آرفين بيسكاتور وبرتولد بريخت وبيتر فايس وإن شذ عنهم برؤيته البصرية التجريبية للوثيقة الحية .
ولعل أهم ما في هذا النص الوثائقي ، هو تناول الكاتب العنزي أحداثه الوثائقية والتاريخية في أسفار عنونها برحلة محنة الكويت ومقاومة أهلها إبان الغزو العراقي على الكويت ، واختزال هذه الأحداث في محاكمات معضدة بالأدلة والمستندات والضحايا والشهود والسلايدات والأفلام التي توازي حالات الاعتراف وتسلط الضوء على تاريخ الواقعة ، بجانب محاولته إشراك الجمهور في المحاكمات .
ومن بعد بيتر فايس كمؤسس للمسرح التسجيلي ، يأتي وبجرأة أكبر على استثمار وتوظيف هذه التقنيات المخرج الألماني أرفين بيسكاتور ، الذي اعتمد في عروضه الوثائقية السياسية على العناصر البصرية٬ ومن بينها الأفلام الصامتة ٬ وهي صور منعكسة على شاشات كبيرة للحصول على مصداقية الفعل لتحريك المتفرج وتفعيل الموقف النقدي من خلال تكييف المسرح لمطابقته للبيئة ، ومن ثم تبعه مجموعة من المسرحيين المعاصرين مثل “آن ديفاريه سميث” و “ساره جونز” و “نيلاجا صن” و “بروك هايكوك” وغيرهم من مسرحيين اعتمدوا على تقنيات التوثيق الحديثة من خلال استخدام “الإنترنت” و “المالتيميديا” و “الإسقاط الضوئى” لخدمة هدف المسرح الوثائقى .
ألا أن المنعطف الحقيقي والذي تمكن من أن يحدث ثورة في مجال هذه التقنيات البصرية كان مع المخرج الأمريكي روبرت ويلسون ، وهو فيزيائي أمريكي حاز على جائزة نوبل للفيزياء عام 1978 مع زميله آرنو بينزياس عن “اكتشافهما إشعاع الخلفية الميكروني الكوني ” ، وقد شاركهما في الجائزة بيوتر كابيتسا ، وهو مصمم مسرحي وكاتب وممثل ومخرج لمسرحيات ما بعد الحداثة كما أن له رسوماً ومطبوعات وأفلام، ومنذ عام 1960 قدم أشكالاً من الدراما الإنسانية الذاتية ، وتتميز أعماله بالإستاتيكية الصورية والخطوات البطيئة، والتناقض في مسرحه هو الأساس ، ويرتبط ذلك بفكرة التفكيك والتناقض ، كما أن الفعل الذي تقوم عليه أي مسرحية من مسرحياته يتشكل وينحل ويتداخل مع أشياء أخرى ويتشظى ويعاد تشـكيله .
إن روبرت ويلسون تمكن من استضافة الغرائبي والسيريالي والملحمي والتشكيلي والنحتي والتلفزيوني والسينمائي في أعماله المسرحية ، وقد سخر لإنجاز أعماله المسرحية فريق كبير من أمهر التقنين في مختلف التقنيات البصرية والميكنية التي تتطلبها عروضه المسرحية التي يطغى فيها الجانب البصري على كل المفردات الأخرى فيها .
ولشدة هوس روبرت ويلسون بالتقنيات البصرية ، فإنه يقوم بتصميم وإعداد الصور والرسوم والأفلام والميزانسين قبل تدريب الممثلين وقراءة النص واختبار فضاء العرض ، فمثل هذه المهمة يعتبرها ويلسون مسألة تنظيم معماري في الزمن والفضاء ، إنه الأداء على أسس الرقص دون الاكتراث أو الاهتمام بالبناء الأدبي للنص ، فالقيمة البصرية بالنسبة له أكثر أهمية من القيمة الأدبية .
وقد اعتاد ويلسون دائما أن يبتكر شكلاً متميزا غير مألوف للعرض ، ففي مسرحية ماكنة هاملت لهنري ميللر القصيرة، كان المؤلف قد خطط للعرض كي لا يتجاوز 15 دقيقة، لكن العرض في معالجة ولسون استغرق ساعتين ونصف، حيث وزع حوار المسرحية على الممثلين بشكل عشوائي، مما أعطى للعرض طابعاً سريالياً صرفاً ، كما فسح المجال واسعا للصورة والفيلم والموسيقى .
ومن أهم أعماله مسرحية 1914 عن أحداث حدثت في براغ على خشبة المسرح الوطني إبان الحرب العالمية الأولى ، وهي مستوحاة من رواية ( جندي تشيكي شجاع ) لمؤلفها ياسولاف هاسي كتبها عام 1921ومسرحية الأيام الأخيرة للبشرية التي كتبها كار كراوس بعد الحرب العالمية .
أما في عروض ريتشارد ششنر وهو أحد أهم مخرجي مسرح ما بعد الحداثة الذي اشتغل على تفكيك النصوص ومعارضتها بالرؤى البصرية المتعارضة والأحداث المتناقضة بغية الإيحاء باللامعنى ، وذلك عبر كولاج بصري يتخطى السائد والمألوف في معالجة التقنيات البصرية ، الأمر الذي يمنح العرض أبعادا تأويلية قائمة على استفزاز ونقض المتوقع .
ويعد المخرج التونسي المبدع توفيق الجبالي أحد أهم من اشتغل على اللا مستقر والمستفز للمتوقع في عروضه المسرحية التي أسست لرؤية بصرية مغايرة لها معطياتها وشروطها الخاصة بها .
ففي عرضه ( المجنون ) نلحظ كيف تتحول كل مفردات وعناصر الخلق المسرحي، من صوت ولون وتشكيل ونحت ورقص وسمهجات وهلوسات وحكايات وموسيقى وذبذبات ووشوشات وتجليات صوفية مهووسة بالذي لن يأتي ولن يستقر، تتحول إلى صورة حية تختزل كون جبران وتضعه في محور فلكي يشبه درب التبانة، حيث لا تميز الضوء عن السديم، ولا حركية الكون عن ثبات محورها وتفلته.
إن اشتغالات واشتعالات الجبالي المخبرية القلقة في المسرح، غالبا ما تقترح على مؤديها ومتلقيها لغة هي من (الجنون) الذي لا يأبه بالتوصيف أو التصنيف، ولا يأبه بالتوضيح أو الغامض والمبهم.
هي لغة ليست في وارد التعاطي مع المسرح بوصفه فعل ممثل وفضاء للتمثيل أو التمسرح، إنما هي لغة اشتباكية مع الأحياء والأشياء، مع النقائض والمتضادات، مع المخفي بوصفه أكثر (جُنًا) من المخفي ذاته، مع الوهم بوصفه حلما، ومع العذابات بوصفها مسارات لا حدود لانتهائها ولا ملامح لأسرار منابعها.
إنه يلج بنا إلى ذرى أمواج يصعب علينا تخطف ُطشارها الزبدي، وإلى استقصاءات مخبرية تتجاوز حصرها في البحث الجسدي السائد، إذ كل الحالات في (مجنونة) الخلاق المتفلت، هي في كل حالة منها استقصاء مخبري، ففي الوقت الذي ترعف فيه أجساد ودواخل خيوله الحرة، بما يعتمل بها من قلق ومحاولة للهروب نحو الفضاء الأكثر تحررا، في الوقت ذاته يكشف لنا ليلها الخلاق عن مبهمات لكائنات يكتسيها ظلام مريب وملبس، وكما لو أن هذه الحيوات المبهمة ظلالات تحيا في جوانح كمائن هذه الأجساد (الخيول)، وهذا الظلام المتعدد الحيوات والمبهمات والأوهام والدروب الغرائبية المريبة.
إن الجبالي لا يعنيه أن يكون الممثل في (مجنونه) و(جنونه) محورًا كي يتحقق العرض، ولا تعنيه التماثلات المرتبة كي تتحقق النتائجية والتماثلية البصرية والصوتية في العرض، يعنيه أن يكون المسرح وإن لم يكن الفضاء، تعنيه الحالة التي من شأنها أن تنتج حياة في المسرح وإن لم تكن حية بالمعنى البيولوجي أو المادي، تعنيه اشتباكات الأزمنة النفسية والميتافيزيقية في حيزها الأكثر مواربة وقلقا وحيرة.
لذا حتى لو كانت الأصوات المسجلة والوشوشات والذبذبات وحدها تتملك فضاء العرض أو فضاء الجنون، فمن شأنها أن تنتج وتشكل عرضها وأفقها. كل الأجساد في هلوسات الشاعر المجنون (جبران والجبالي)، صورًا حية، تتآخى وتتقاطع مع كل الكائنات الأخرى في العرض، كما أنها صور تتمنتج في الآن ذاته ويخبو وهجها في الآن ذاته أيضا، ويظل بحثك عنها، هو بحثك عن الصور التي ضلت طريقها في مخيلتك البصرية.
وتظل تبحث وتبحث، تصعد وتهبط، وكما لو أنك سيزيف الجنون الكوني الذي أومضه الجبالي في لحظة صورية بصرية هائلة الضوء والعتمة والريبة، لتبدو أمامه متكأ الأثر الأول لقدم الصعود نحو سلم العذابات الكوني، ونحو أمل يأخذنا نحو الصعود إلى الهاوية.
يستحضر (جنون) الجبالي سيزيف كوننا المضني في لحظة برقية مؤثرة، ليظل في كل وهلة ماثلا بقوة في دواخلنا، ولتتشكل من بين محيط عتمته (التبانية)، أفضية صورية تتجلى في نثار ضوء هنا يخطف أعيننا نحوه للحظات ومن ثم يخبو، لتتشكل معه مواويل حزن تأتي من بعيد قاع ذاكرتنا ومخيلتنا، لتستقر في ذاكرة ومخيلة حضرت اللحظة وتجاوزتنا إلى لحظات غريبة ظلت تشاغب أوهامنا وستظل حتى قاع أخرى أشد شراسة وفتكا لتكهناتنا بمصيرها ومصيرنا.
هو الليل، هو الظلام، هو سحر اللون، هو منبلج الخلق والكون والصورة، هو الصوت المبتدى واللامنتهى، هو نحن والآخر وما بعد الآخر، هو شاشة المسرح والفيلم والوهم والحلم، هو ورطة لعبة ( البازل) التركيبية والمركبة التي اختزل فيها (جنون) الجبالي رؤية أخرى جديدة لبورتريه جبران خليل جبران، ليتماهى في حيزها غير المكتمل (المجنون) و(الجنون)، ولينتج من خلالها الجبالي أفقا جديدا وخلاقا وساحرا في عالمنا المسرحي بكونيته المنفتحة على رؤى نحلم يوما أن نحقق شظايا صورة منها .
وهنا نلحظ قدرة هؤلاء المخرجين على استثمار مثل هذه التقنيات لمعطيات وفضاءات المسرح وليس العكس ، بمعنى أن تصبح هذه التقنيات جزءا لا يتجزأ من عناصر العرض المسرحي وليس العكس .
الصورة قامعة ومخاتلة لمخيلة الخلق والتكوين ، وما لم تكن قادرا على الإمساك بتلابيبها فإنها تجرك وتجذبك نحو ممكناتها دون هوادة ، فهي بالرغم من أنها تستثير مخيلتك للبحث والاكتشاف ، إلا أنها في الوقت نفسه ممكن أن تؤطرك في مغرياتها ومغوياتها ، وفي هذا الصدد وقع في مثل هذه الفخاخ والحبائل الكثير من المخرجين الذين أصبحت تجاربهم المسرحية أشبه بعروض سينمائية أو رقمية لا تحفل ولا تقف عند المسرح بوصفه قادرا على توظيف مثل هذه التقنيات في أفضيته الحية ، ذلك أنهم لم يتمكنوا من خلق نشوء متزامن بين الفعل المسرحي والصورة وتقنياتها البصرية .
ومن التجارب المسرحية العالمية التي أتيحت لي فرصة مشاهدتها ضمن مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما ، تجربة الممثلة المخرجة الحائزة على جائزة كازانوفا للمونودراما ، الليتوانية بيروتي مار ، التي تمكنت في مسرحيتها أنتيجون أن تجعل من المسرح فضاء ملتيميديا رقميا هائلا ، تبدو فيه كنقطة صفرية تائهة وهي تبحث عن قرارها الكوني في مواجهة هذا العصر ، ولتصبح هذه التقنية جزءا لا يتجزأ من كيانها البشري الوجودي .
ومن أهم التجارب المؤسسة الرائدة في عالم المسرح والتي احتفت بهذه التقنيات بوصفها عنصرا حيا في المسرح ، تجربة المخرج الفرنسي باتريس بافيس ، الذي تمكن من أن يجعل من جسد الممثل علامة بصرية قابلة للتغير والتحول والتجدد والتأثير ، والذي استثمرها المخرج العراقي الرائد في مسرح الصورة بوطننا العربي الدكتور صلاح القصب في أغلب إن لم نقل كل مسرحياته ، ومن أهمها مسرحية الحلم الضوئي وعزلة الكريستال وماكبث والتي تسنى لي مشاهدتها أيضا ، حيث تمكن من تحويل الفضاء المسرحي إلى فضاء يشبه الفضاء السينمائي في تقنيته ، كما هو الحال في تجارب المخرج المصري انتصار عبدالفتاح في مسرحيته ( مخدة الكحل ) التي تحولت إلى صور حية و المخرج البحريني عبدالله السعداوي في مسرحياته ولعل أهمها مسرحية اسكوريال والقربان اللتين تحولت أفضيتها إلى بيئة سينمائية تواشجت مختلف التقنيات البصرية بما فيها الجسد على إبرازها وتدشين ملامحها الجمالية المؤسسة في مسرحنا الخليجي ، والتي استثمرها بطريقة مختلفة عبر وسائط وتقنيات بصرية الفنان خالد الرويعي في مسرحيتيه ( الرسائل ) و ( إيفا ) .
ومن التجارب التي حاولت استثمار هذه التقنيات ، وخاصة تقنية الفيديو والشرائح البصرية ، تجربة المخرج المسرحي المصري الشاب الفنان مازن الغرباوي في مسرحيته ( انتحار معلن ) لمؤلفها الكاتب والناقد المسرحي السعودي الدكتور سامي الجمعان ، حيث جعل من النهر الذي يلتهم فضاء العرض بتموجاته المريبة وسواده المرعب المفزع كمينا مخاتلا ووحشا متربصا لضحيته التي تعلن الانتحار بجواره لحظة يأس قاتل فادح ، والتي استقى المؤلف رؤيته النصية من حياة فرجينيا وولف في اللحظات الأخيرة من حياتها .
وتتعدد علامات الجسد البصرية بتعدد رؤى المخرجين ، ومن بين من أولى هذه العلامة أهمية كبرى في تجاربه المسرحية ، المخرجة الشابة المغربية أسماء الهوري في مسرحيتها ( خريف ) ، والتي تمكنت من أن تجعل من خزانة العرض كادرا سينمائيا تتعدد فيه الدلالات الجسدية وتختزل فيه القضايا التي يقترحها العرض على فضائه المسرحي وعلى المتلقي ، وكذلك المخرج المغربي محمد الحر في مسرحيته ( صولو ) الذي اشتغل على تقنية المونتاج لمنح رواية الكاتب المغربي الطاهر بن جلون ( ليلة القدر ) فضاء روحانيا واجتماعيا آخر ومؤثرا .
وقد سبقه في الاشتغال على مونتاجية العرض المخرج الكويتي فيصل العميري في مسرحيته ( صدى الصمت ) ، حيث تأسس العرض كله منذ البداية على هذه التغريبة المونتاجية التي أهلته مثلما أهلت ( خريف ) للهوري و( صولو ) للحر بأن ينال جائزة أفضل عرض مسرحي عربي في مهرجان الهيئة العربية للمسرح الذي أقيم بدولة الكويت عام 2015.
وتتجلى مبررات فوز المخرج فيصل العميري بالمركز الأول عن مسرحيته ( صدى الصمت ) ، في قدرته على استثمار كافة مفردات وعناصر العرض المسرحي ، وإبرازها بما يمكنها من تفجير البعد الدلالي للنص وتشظية أبعاده الإنسانية المركبة والصعبة ، واستثمار الفضاء المسرحي بفسحه الأوسع لرائحة انعكاسات الحرب على الشخصيات وما تخلفه من غربة ومن وحشة ومن حالة عبثية فاقعة ، معضدا ذلك بتواشج حوار خلاق بين الفنون البصرية والسمعية والأدبية والسينمائية والموسيقية ، التي شكلت أفضية زمنية متعددة هي باستمرار في حالة تنامي وتقاطع واشتباك ، إضافة إلى استثمار المخرج للمؤثرات الموسيقية الحية والتي شكل منها حالة تندغم فيها لعبة الحوار المتشظي بين الشخصيات وبين كونها قائدا لدفة العرض من خلال الدراماتورج المهرج البائس ، والذي تمكن من خلال المخرج أن يخلق عالما مونتاجيا لكل الحالات في العرض ، الأمر الذي أصبح فيه هذا العرض يتحرك بعناصره ضمن زخم سينمائي لافت ليمنح المسرح بذلك إمكانية قصوى لاستقطاب الفنون البصرية وجعلها عنصرا مهما من عناصر العرض المسرحي .
كما أن توظيف المخرج للإضاءة في هذا العرض جاء ملائما للتحولات الزمنية بأبعادها الواقعية والدلالية والتخيلية ، بجانب التعامل الاحترافي الموفق في تشكيل جسد وروح الممثل في التجربة ، حيث نلحظ التحولات بين الأداء الغروتيسكي والكاريكاتوري والواقعي والعبثي ، الأمر الذي أصبح فيه هذا النص السردي حالة من حالات الفعل المسرحي التي كتبت على فضاء العرض المسرحي وليس على الورق .
تمكن المخرج العميري أيضا من كشف العوالم النفسية لكل شخصية في العرض ، لتصبح نسيجا حيا لرؤية إبداعية أصبح فيها العميري مؤلفا بارعا لعرضه المسرحي المفعم بالدلالات المتوالدة بجمالياتها الفنية والتقنية الآسرة .
ولم يكن هذا الاستثمار والتوظيف ببعيدين أو غريبين على المخرج الكويتي الدكتور عبدالله العابر ، حيث تمكن من خلق لحمة بصرية قوامها الجسد والتقنية البصرية في مسرحيته ( الصبخة ) التي ألفها بدراماتورجية الناقد والكاتب الكويتي الدكتور فيصل القحطاني ، والتي أذهلنا فيها من خلال استخدام اللقطة الوامضة كومضة النقطة الحمراء في لوحة الفنان التشكيلي خوان ميرو لتدفعنا للبحث عن دلالات أخرى في التجربة ، إضافة إلى مقترحاته المونتاجية التي وضعتنا في قلب البحث عن أزمنة هي أقرب للحلم من الواقع ، وكما لو أنه يقترح نقاطا صفرية صعبة لا تتوفر إلا في العالم الرقمي الهائل لهذه التقنيات البصرية الديجيتالية المركبة المتشظية الالتباسية .
وبجرأة لا متناهية يحيل المخرج الإماراتي محمد العامري فضاء عرض ( كتاب الله ) للدكتور الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة إلى عالم تتحاور وتتقاطع فيه كل التقنيات البصرية والرقمية والغرافيكية ، لتصبح متآخية مع الجسد بوصفه علامة بصرية ومع فضاء العرض بوصفه منتجا لهذه التقنيات وليس تابعا لها ، وهو تحد يصعب تجاوزه إذا ما وقفت على الممكنات البصرية التقنية الهائلة التي تم توظيفها في هذا العرض .
وإذا كانت بعض هذه التجارب مستثمرة لهذه التقنيات ، فإن المصمم السينوغرافي والمخرج الكويتي المبدع فيصل العبيد منتجا لها ، وخاصة في اشتغالاته الميكنية وخدعه البصرية التي منحت التجربة المسرحية في الكويت وهجا تقنيا إبداعيا مغايرا ومؤسسا ، وكما لو أنه يقترح علينا في بعض تجاربه المسرحية إمكانية استثمار الخيال العلمي والتقني بوصفه لازمة أساسية لتأويل العرض بعيدا عن منطلقاته الفنية المتاحة الأقرب للمعطى الواقعي المتشابه في عناصره .
إن التقنيات البصرية والرقمية الهائلة أسهمت دون أدنى شك في إشعال وتأجيج خلايا المخيلة إلى أقصى مدياتها لدى المشتغلين في حقل المسرح ، ومن هنا ينبغي استثمارها وفق معطيات التجربة المسرحية تجنبا للخلط العشوائي بينها وبين هذه المعطيات ، واستثمارها أيضا بوصف المسرح أيضا قادرا على مدها بطاقته التخيلية فسحا أكثر وأكبر من شأنها أن تكون هي من منتجاته وابتكاراته وليس العكس ، وليس معادلا موازيا موضوعيا له .
ويظل السؤال مقلقا للرأس : كيف يمكننا أن نشكل من هذه العلائق الحية والبصرية اتجاها أو اتجاهات مسرحية لها مؤسسوها ومبدعوها كما هو الحال مثلا لدى روبرت ويلسون ومن سبقه من المؤسسين من أمثال بيتر فايس وأرفين بيسكاتور ؟
متى نستطيع أن نخرج من الحالة الوظيفية الطارئة لهذه التقنيات والتي يقتضيها هذا العرض دون ذاك ؟
متى يتمكن مخرجونا من المسك بتلابيب هذه التقنيات والتحكم فيها بوصفها عناصر تنتمي لكونهم المسرحي أولا وأخيرا ؟
متى تتحول هذه الأصفار الرقمية كائنات حية لا تدع المجال واسعا أمام من يتحكم بها في ملعبه بوصفها بيادق للعبة الإلكترونية الشائعة ؟
كيف يصنع المسرح تقنياته البصرية وليس العكس ، حيث لا تزال الاستعارة ماثلة بقوة في أغلب التجارب التي تستخدم التقنيات البصرية ؟
متى تجد هذه التقنيات البصرية والرقمية الهائلة موقعا فعليا لها في أكاديمياتنا المسرحية والفنية وليس هامشيا ؟
متى ندرك ان جيل الأصبع للمسرح بالمرصاد ؟
أسئلة تروم التأسيس لوهج اتجاهي خلاق في المسرح ومغاير في كل معطياته عن من سبقه من المؤسسين لاتجاهات مسرحية سابقة ..