فاتي /أريان- خيط المتاهة/ عبد اللطيف فردوس
قدمت جمعية الشعاع للمسرح يوم 5 أكتوبر 2019 بقاعة البلدية باكادير مسرحية ” فاتي اريان. تأليف محمد ماشتي – إخراج مولاي الحسن الإدريسي –تشخيص صفية زنزوني- مساعدة المخرج عبد الرحمان خالص – سينوغرافيا صفية زنزوني- تصميم الإضاءة ابراهيم رويبعة – تاليف الموسيقى المختار بلخدير- غناء المختار بلخدير، فاطمة كيبة – مؤثرات صوتية رضا رويبعة – العلاقات العامة والتواصل رشيدة كرعان . من خلال قراءة البطاقة التقنية يتضح التعاون والتنسيق بين جمعية الشعاع وفرقة بصمات للمسرح باكادير، فابراهيم رويبعة مخرج وممثل في فرقة بصمات، ورشيدة كرعان ممثلة رئيسية ومديرة الإنتاج في نفس الفرقة. في حين أن المخرج مولاي الحسن الإدريسي كان مستشارا فنيا ومسؤولا عن ادارة الممثل في برنامج توطين فرقة بصمات الفن الموؤود. “واذا الموؤود سئل باي ذنب قتل”.
نبثث جمعية الشعاع سنة 1983 في إحدى المشاتل المهمشة ثقافيا وفنيا، إحدى مدن الهامش آنذاك “تارودانت”. مدينة أريد لها أن تكون عاصمة لفلاحة تسويقية مذرة للعملة الصعبة. فلا عجب إن علمنا أن غاية المنتفعين تفريغ يد عاملة رخيصة تساهم في الرفع من قيمة الريع. لذا فلا فائدة من الفن والثقافة اللتين تشكلان عوائق لبلوغ الأهداف.
في هذه الوضعية غرست فئة من الشباب، الثاقب النظرة والمتفائل بالمستقبل، شتلة اسمها المسرح، سقتها بعناصر جديدة التحقت بالمدينة في موسم 1985 ، بعد تعيينها للعمل بالمدينة. هذه العناصر حملت معها سمادا طبيعيا هو حب المسرح وعشق ممارسته بشكل جاد وواع. رعى الجميع الغرسة إلى إن أثمرت فرقة مسرحية، تؤمن بالمسرح كهواية لممارسة فنية ومشروعا مجتمعيا.
جمعية الشعاع وبعد فترة استراحة للتزود بما يمكن إن يمنحها استمرارية في انجاز مشروعها الفكري والجمالي، عادت هذا الموسم بمونودراما ” فاتي اريان”
المسرحية استمرار لتنائيه المؤلف والمخرج الذين أنجزا معا بمعية جمعية الشعاع بتارودانت.( الكراسيز: تاليف ثنائي واخراج مولاي الحسن- الكلادفا: إعداد ماشتي وإخراج مولاي الحسن- تويشيات المهرج :تاليف ماشتي فكرة والخراج مولاي الحسن) وتعتبر هذه الثنائية من بين عوامل نجاح المشروع الفني. وبالتالي تصعب قراءة مسرحية ” فاتي اريان” بمعزل عن هذه الثنائية.
في الأعمال السابقة كما في هذه المسرحية، يجد المتتبع نفسه أمام نص كتبه مؤلف/مخرج، وقام بإخراجه دراماتورح/ مخرج متمكن، شغوف بالقراءة والمشاهدة، لدرجة أصبح معها مرجعا للعديد من أصدقائه لمعرفة موضوعات المسرحيات المحلية والعالمية.
“فاتي اريان” سرد مرن ترجم بواسطته المؤلف حالات اجتماعية ، إلى حالة سلوكية متفردة ذات بعد أنساني، بحيث وضعنا أمام مأساة فطومة ابنة الدوار ” فاتي”، التي حملتنا في قالب سردي مشوق، لتسير بنا كرونولوجيا في ترتيب زمني بسيط، ولكنه في قوي الدلالات، ولتعبر بنا حدود الزمن، لنجد أنفسنا غير قادرين على فصل “فطومة/فاتي” عن “اريان/ الأميرة أريادن Ariadne، ابنة ملك أثينا مينو التي وقعت في حب ثيسيوس، وأعطته، عندما أجبر على الدخول إلى المتاهة، خيطا.، ليستدل به للرجوع الى نقطة بداية المتاهة. “فطومة” تمسكت بقصة حب وجعلت منه خيطها نحو الإنعتاق من قيود البادية وطابوهاتها بل ازدواجية سلوك ونفاق أصحاب الأمر والنهي فيها. تاه المحبوب وغار بين أمواج البحر، لتجد فاطمة نفسها في نقطة البداية بعد إن تمسكت بخيط وهمي.
ولربط خيط اريان في النص مع المرئي فوق الخشبة اختار المخرج لتحديد الفضاءات، أشرطة متعددة يسهل اختراقها، كما أنها في نفس الوقت تشكل جدارات متاهات تتوه بينها “فاتي”. وفي لحظات محددة بدقة، تعمد الممثلة إلى ربط هذه الأشرطة فيما بينها لتحيلنا على خيط ارياندي .
دون حشو او حاجة للشرح والتفسير أقحمنا المنطوق والإيحاءات والايماءات إلى عوالم الحكرة والاستغلال والتمسك بحب وهمي، تتكرر ماسيه باختلاف الأمكنة والأزمنة، وان كانت زمنا واحد هو زمن المأساة ومكانا واحدا في تعدده هو مجزرة السذج والضعفاء والمخلصين في حبهم. وكان الكاتب يفتح أعيننا لنقرا طموحاتنا ورحلات هروبنا بعين أخرى ستفقأ حينما نعرف الحقيقة ، أنها عين اوديبية. “كل الناس يولدون عميانا إلى اليوم الذي تقفا فيه حقيقة مرة أعينهم”
اختار المؤلف شكل السرد المتقطع، إذ بدأ حكايته من آخرها لينتقل إلى أول حدث ثم بعد ذلك، سلك طريق سرد سلس خطي متدرج في الأحداث والزمن، وتبنى في سرده أسلوب المكاشفة حينما حمل ” فاتي” مسؤولية نقل الخطاب.: ووضعنا أمام مقولات: *”كما تكون طبائع الشخص يكون أسلوبه- أفلاطون”.
*”الأسلوب هو مبدأ التركيب النشط، والرفيع، الذي يتمكن به الكاتبُ النفاد إلى الشكل الداخلي للغته، والكشف عنه. من زاوية المخاطَب- جوته”.
*” الأسلوب هو أن تضيف إلى فكر معين جميع الملابسات الكفيلة بإحداث التأثير الذي ينبغي لهذا الفكر أن يحدثه. من زاوية الخِطاب، وهي الطاقة التعبيرية الناجمة عن الألفاظ اللغوية المُختارة – ستاندال “.
من النص المكتوب إلى العرض المقدم على الخشبة، تفوق المخرج في بناء علاقة جدلية، أغنت الكتابة دون إن تقزم أهميتها في العرض. وتمكن من الإفلات من قبضة النص الأدبي الذي كان من الممكن إن يسوقه إلى مقصلة المخرج المنفذ.
قسم المخرج النص إلى فضاءات بسيطة تركيبية وتجزيئية ،حسب إغراضها وليس حسب رغباته. الفضاءات التي اختارها حولها الى لوحات بصرية استدعتها إحداث النص اكثر مما استدعتها صور جمالية مخيلة المخرج،. فضاء واحد من ثلاثة أجزاء يتحول حسب ضرورة العرض إلى جزء من الفضاء العام لإحداث السرد.
ومما يؤكد تناغم الشكل الإخراجي مع الكتابة النصية إن المخرج اعتمد تقنية القناع ووظفه للكشف والتعرية وتقديم حقيقة الشخصيات النصية، فالأقنعة ليست كرنفالية تنكرية ولا أقنعة احتفالية، بل عكست حقيقة أناس يعيشون بيننا ومعنا، أناس نعلق أمالنا وأحلامنا عليهم رغم أننا نعرف حقيقتهم من خلال أقنعتهم.
فاتي اريان/صفية زنزوني. وانأ أتابع أداءها الرصين وتنقلاتها المدروسة، وحركاتها المحبوكة،( نعم محبوكة لأنها كانت تكتب بجسمها)، تأكدت، بما لا يدع مجالا للشك، بدور الممثل في إنجاح عرض مسرحي أو إفشاله، وفي نفس الوقت كنت اطرح على نفسي سؤال: ماذا لو لم تتفوق صفية في نحث شخصياتها وعرضها علينا كمتفرجين؟ حتما كنا سنكون أمام عرض أخر.
شكلت كلمات الأغاني إضافة نوعية ، كما ان الإلحان التي تم تاليفها للأغنيات ساهمت كثيرا في المحافظة على الإيقاع العام للعرض، ولم يتم توظيف الأغاني فقط لتغيير الديكور آو ملء الفراغات، وهي العملية التي تسيء إلى العديد من العروض في زمن أصبح التأليف الموسيقي المسرحي يحتل مكانة هامة، بل تم توظيف هذه الاغاني لتكثيف المعنى وللتعليق على الماساة. راهن تصور الإضاءة على كشف الحالات النفسية للشخصيات وعلى تضييق الفضاء أو توسيعه حسب أحداث المسرحية. اما باقي المؤتراث الأخرى فاحتلت مكانة بارزة يصعب إزاحتها عنها وألا اختل بناء العرض. كل يؤكد اهتمام المخرج بكل مفردة من مفرداته ونسجها في نسقية بعيدة عن الاستسهال، فأهدانا لوحة فنية متناغمة ليقول لنا جميعا:
“أظن إن كلا منا يمتلك خيط أريان الخاص به . .. و كلنا نحاول الاهتداء عن طريقة إلى الصواب و ان كان الصواب حكما نسبيا”