جماليات البوليفونية التراجيدية وشعريتها في مسرحية فاص A فاص/ د . سعد عزيز عبد الصاحب
المتن الحكائي :
ينفتح المؤلف المخرج المغربي (عبدو جلال) في عرض مسرحيته الموسومة فاص..فاص او وجها لوجه على السرد المحكي متمظهرا على الطريقة الارسطية في البناء التصعيدي للحكاية (فابولا) وصولا للازمة ومن ثم الحل في بناء نصه المتألف من اربع حكايات متوازية (ببوليفونية) متعددة يتم الافصاح عنها من خلال سرد الشخصيات لاحداث جرت في الزمن الماض في بطولة درامية مشتركة لشخصيات (الرجل والسائقة والعودة ) تبدأ الحكاية في ضوء وصول السائقة الى مكان الحدث حيث تعطلت بها سيارتها والمكان عبارة عن جادة طريق يقع عليها منزل يبدو مهجورا ، تتناهب السائقة اصوات الكلاب ثم تصطدم برجل مقعد جاثم على كرسي الاعاقة .. نتعرف من خلال السرد على انه شرطي سابق لم يزاول مهنته البوليسية ولن يزاولها ابدا .. والغريب انه قد اعطى لكي يكون شرطيا رشوة عالية التكاليف المعنوية والمادية حين ذبح ديك عمته وقدمه وليمة للواء الشرطة وبأثر ذلك ما عادت عمته تصلي فهي دائما ما تستيقظ لتصلي على صوت صياح ديكها الوحيد .. وقدم شرف اخته للواء الشرطة (جودار) او السلطة المفترضة كي يعين شرطيا في مركز شرطة افتراضي قيد الانشاء ولم يكتمل بناءه بعد .. المقاول المشرف على بناء مركز الشرطة متزوج من امراة جميلة (العودة)لكنه عنين لم يقربها مدة عشر سنوات .. يقيم الشرطي علاقة غير شرعية مع امراة المقاول لتولد طفلة السفاح التي هي فيما بعد ستكون السائقة الوافده التي جاءت تبحث عن مركز الشرطة وهي الان شابة ناضجة حاصلة على الدكتوراه في الفلسفة لم تتربى في كنف والديها انما ترعرعت في ملجأ للايتام ولها قصتها المأساوية ايضا حيث تم اغتصابها وهي صبية عدة مرات من قبل زوج عمتها لتضعها الاخيرة في الملجأ الى ان تكبر .. تحصل المكاشفات السردية بين الشخصيات من خلال بوح فضائحي خطير وكشف لافت للمسكوت عنه والمضمر والمحرم اجتماعيا وسياسيا ، في النهاية يحصل (التعرف) ومن ثم (التحول) الارسطيين في ضوء تعرفنا على ان الفتاة (السائقة) هي بنت الشرطي وامها هي العودة .
القراءة الاخراجية
قدم المخرج (عبدو جلال) قراءته الاخراجية المحايثة بأجواء مسرحية كأنها اجواء (كامو) الوجودية الخانقة والمتوترة او بتجليات المسرح الساكن لدى (مترلنك) حيث الترقب والانتظار والقلق الانطولوجي والاحساس بعبثية الحياة وتكراريتها ورتابتها اوكأننا امام اتموسفير تشيخوفي ساكن الايقاع الخارجي لكنه يغلي ويفور من الداخل وصولا للنهاية التطهيرية الماتعة للعرض ، بفواعل فضاء سينوغرافي ذو علاقة انشائية متناقضة ومتضادة وذلك بين البيئة التي تؤطر المكان والطباع البشرية للشخصيات فالباك راوند وانشائيته الرعوية الرومانتيكية الجميلة المؤطرة بالاشجار الظلية ، ووظائف البيئة المنزلية لـ(العودة) والقمر البدر الذي يعلو الفضاء كلها كجماليات على الضد من السرديات المأساوية التي تقال وتجري في مقدمة المسرح وحمولاتها من شرور وانكسارات واحباط … ولتصبح اصرة العلاقة الدلالية بين الحدث والفضاء على اوجها فالقمر البدر كان شاهدا وحيدا على فعل الاقتراف الذي مارسه الشرطي والعودة واعترافاتهما من خلال الحكي وهو الدال على الاكتمال السردي للحكاية ودائريتها ، والعلاقة الحركية البانتومايمية الصامتة لشخصية (العودة) في ميزانسينها الحركي التكراري الرتيب والمشحون من الداخل والذي سيتفجر لفظيا قبل نهاية العرض ، كلها مؤشرات على انتاج دلالات ضدية بين الشكل والمضمون ، وكان للاكسسوار المسرحي فعله الدال الذي كسر يقين السرد من خلال المفردات والعلامات التي عملت دلالاتها على تثوير المناطق الفكرية والتأويلية والتأملية لدى المتلقي فالمظلة تحولت دلاليا وهي معطوبة لعطب الفتاة (السائقة ) وتوهانها في عدم وجود بوصلة تهديها للاتجاه الصحيح في بحثها عن اصلها وأدت المظلة دور اداة اشارة غاضبة وحادة من قبل الفتاة وتحولت ايضا الى طفلة يحتضنها الشرطي المقعد والمعوق عوقا فكريا وذهنيا وليس بايولوجيا ، وقطعة التول الحمراء شكلت مدلولات عديدة منها الحبل السري الذي يربط الفتاة بأبيها وثوب العفة المهدور عندما تلفعت به السائقة ووضعته على رأسها ، والحقيبة التي وظفت كأداة ايقونية متطابقة الدلالة وكمكان لجلوس (السائقة) وحافظة لحاجاتها حين اخرجت منها جذع الدمية المكمل لرأسها المرفوع من قبل العودة المؤدي الى فعل التعرف والتئام شمل العائلة بحركة اخراجية بارعة من قبل المخرج … ان خطورة وصعوبة هكذا نوع من العروض تكمن في عملية تحويل السرد الى دراما اي الى فعل وحدث في الهنا والان والى شكل يمور بالايقاع البصري وليس اللفظي فقط ، فالبوليفونية الماضوية متعددة الاصوات اسست لتراتبية سردية لدى الشخصيات تبدأ بالشرطي فالسائقة منتهية بالعودة .. وقد تخلص العرض من القصور اللفظي وعدم التواصل ـ بسبب بيئة العرض الجديدة في مدينة اربيل ـ الذي قد ينتج عنه قطوعات في الاتصال وفهم المعنى بين الممثل والمتلقي وذلك بتبسيط اللهجة وتوضيحها للمتلقي الجديد على العرض وتم ذلك بوقت قياسي نسبيا ، اذ تم تلافي الالفاظ الوعرة للهجة المغربية لتوضيح المسرود ومعانيه وهذا الفعل يحسب لكادر العرض .
تنوع الاداء التمثيلي
تأسس الاداء التمثيلي في المسرحية على فرضية الاداء الايهامي والاندماجي بشكل كامل خارج فرضيات الممثل اللاعب فجاء اداء الممثلين تقمصيا بأمتياز ، جنح في بعض فتراته الى المبالغة والاشهار القادمين من الفعل الادائي (الغروتسكي ) الساخر ، ويمكن ان نؤشر على اداء (محمد زيات) تحولات صوتية وجسدية لافتة على الرغم من جلوسه الطويل على كرسي الاعاقة معتمدا على حركة اليدين وتعبيرات الوجه في تكوين ايمائية الشخصية وتفجير الطاقة (الجوانية) لها ..وامتلاكه صوتا واضحا متدفقا بوحدات ايقاعية متصاعدة في علاقته الادائية الثنائية مع شخصية (السائقة) التي ادتها بحضور تلقائي الممثلة (رشيدة بلعيد) حيث جسدت حالة انضباطية صوتية وجسدية في اداءها التمثيلي تتلون وتتنوع بين حالات الالتباس والريبة من المكان والبحث عن الهوية المفقودة والاحتجاج والثورة على الانفلات الاخلاقي للشرطي العجوز ، اما الممثلة (مجدة زبيطة) فقد كانت في الموعد مع الابداع حين ادت شخصية (العودة) صعبة المراس والتشخيص ، بين الاداء البانتومايمي الصامت في خلفية الصورة ، حيث بدت مشدودة للحدث مع ان الفعل الدرامي لم يكن يعنيها او انها لم تكن في صدارة الكادر الا انها ظلت محتفظة بأيقاعها المتدفق المندمج مع شخصيتها المستلبة ، وبين ثورتها ورفضها لواقعها واعترافاتها الدامية الملفعة بتاريخ من الاسى والكبت والعنف .