ثقافة العرض المسرحي/ د . سعد عزيز عبد الصاحب
يعيد الباحث الدكتور احمد شرجي بكثير من الاناة والصبر في كتابه الموسوم (ثقافة العرض المسرحي ـ
دراسة سيميولوجية ) مقولات السيميولوجيين ضاربة القدم في قانون وسمات الحداثة في ان اي مفردة توجد على المسرح هي علامة تتحول حينما يسافر النص الدرامي الى بيئة خارج بيئته ويستقر في مناخ وثقافة امة جديدة ، يلد هذا النص نصا جنينيا اخر يقترب في حال من البيئة الاجتماعية والثقافية الجديدة ويبتعد في حال اخر عن الاصل ف(شكسبير) الكاتب الانجليزي العتيد ، اصبحت نصوصه الضاربة الجذور في التأريخ الاوروبي ضمن الثقافة الجديدة لمشتغلي الخطاب نصا ثقافيا معاصرا ومغايرا يمت بصلة الى العادات والتقاليد والرموز والعلامات التي وفد اليها النص الشكسبيري ، فعرض (ريتشارد الثالث) بأعداد واخراج الكويتي (سليمان البسام ) ـ
احدى عينات الكتاب ـ
يمثل حاضنة للنص الكلاسيكي بكل تجلياته الاجتماعية والثقافية التي تنفتح على ثيمة الصراع الدموي على السلطة مسقطا حبكة وصراع النص الشكسبيري في الصراع على السلطة في احدى امارات دول الخليج حيث عمل (البسام) على انتاج نص عرض جنيني مغاير للنص الشكسبيري لغة وفضاءا وايقاعا ، عرض يمور بفواعل (الجست) والعلامات الثقافية لبلاد العرب حيث يلبس (ريتشارد) العقال واليشماغ وتتلفع الملكة (اليزابث) كنساءنا بالملابس السوداء وتلطم خدودها حزنا على ولدها وزوجها، ويظهر (ادوارد الثالث) كأنه يتجول الهوينا في (سوق واكف) الخليجي مرتديا ملابس عربية تقليدية…
وبالمقابل لبس العرض الهولندي لريتشارد لبوس الثقافة الهولندية وبيئتها ـ باخراج (ماثكس ريوماك )ودراماتورجيا (غيغس سكولتن) للنص الكلاسيكي الذي ظهر كمسرحية غنائية على موسيقى اغان الامريكي (توم ويتس) بالروك اندرول وانغامه الصاخبة ، ويتحول ريتشارد في القراءة الهولندية الى راقص ومغن اهوج والشخصيات الاخرى عازفين في الفرقة الموسيقية الثائرة .. كل تلك المضاهاة والمقارنات بين العرضين العربي والهولندي التي اجراها (شرجي) بكشوفات منهج النقد المقارن تضعنا كفنانين مسرحيين وتهيئنا لان نعد العدة لاي تجربة تنفتح على الخطاب الثقافي الجديد و علينا ان نحسب للمتلقي الجديد الف حساب ايضا وذلك بمعرفة ثقافته ومرجعياته المعرفية وعلاماته الاتفاقية كي نحصل على (التواصلية) كما يعبر عنها (باتريس بافيس) و(جوليا كرستيفا) وغيرهما..
يحثنا كتاب (ثقافة العرض المسرحي) ان لانقف مكتوفي الايدي محايدين ازاء مدونات شكسبير وتشيخوف ومارلو او اونيل او دورنمات .. في عصرنتها وقراءتها قراءة ثقافية تتصل بموروثنا وفلكلورنا المحلي لاسيما ان هذه المدونات على مستوى عال من البناء الدرامي والحبكة واللغة وشعريتها.. على ان لا نبقيها على حالها انما نصيرها الى مادة تخصنا منفتحة على لواعجنا وهمومنا ومشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ..
ان التجارب المسرحية المحلية (الشعبية)المتميزة التي قدمت في بلادنا ثم اعيد تقديمها من قبل فنانينا المهاجرين في بلاد الغربة لم تلق الصدى والالق والترحيب الذي جنته هذه العروض وهي على مسارحنا ، لان الفنان المغترب لم يراعي ثقافة الامة الجديدة ـ
وعقدها الاجتماعي ـ الذي هو قادم اليها ، فجاءت عروضهم باهتة لا لون لها ولا طعم وليس للفرد الاوروبي او الامريكي صلة بموضوعاتها لانها لا تحاكي همومه ومشاكله وعلله الاجتماعية العضوية ، ومن المهم الاشارة الى تنبه المسرحي العراقي منذ وقت مبكر لالية عمل النص الاجنبي في افق الثقافة المحلية وجمالياتها فقد سبق الفنان الراحل (سامي عبد الحميد) المخرج (سليمان البسام) باكثر من ربع قرن حينما قدم مسرحية (هاملت عربيا ) عام 1972 بقراءة مبتكرة وجديدة للنص الشكسبيري ، حين حول بيئة النص الاوروبي الى بيئة بدوية عربية خالصة وصمم الراحل (كاظم حيدر) خيمة عربية كبيرة جرت داخلها احداث المسرحية وشخوصها ارتدت الازياء البدوية التقليدية الا ان (عبد الحميد) ابقى على اللغة والالفاظ الشكسبيرية على حالها ولم يعرقها اعتقادا منه ان عملية التعريق تفقد اللغة الشكسبيرية شعريتها وجرسها الصوتي المتعالي وجمالياتها التأويلية فأبقى على اللغة والمضامين الدرامية وغير في
الشكل..
من هنا يمكننا القول ان كتاب (ثقافة العرض المسرحي) كتاب استشرافي واجرائي في كيفية العمل مع العلامة الصوتية والحركية والشيئية عندما تنتقل من فضاءها الثقافي الى فضاء ثقافي جديد اخر، كتاب حمل علميا الاستناد على مصادر سيميائية ومسرحية معتبرة ولغة رشيقة تشي بقريحة باحث ومفكر يعرف في اي المناطق يحرث ويبذر بذاره ، لا سيما وان مضمون الكتاب على علاقة شديدة القرب بحياة مؤلفه الذي قضى ردحا طويلا من حياته في المهاجر.