«صبايا مخدة الكحل» تستفيد من الطقس ولا تقع في حبائله/ محمد الروبي
يحقق عرض (مخدة الكحل)، الذي أعاد إنتاجه مؤخرا مسرح الطليعة، هدفين كنا قد صرخنا مرارا من أجل الانتباه إليهما، أولهما: هو أهمية (الريبورتوار) المسرحي، سواء بتقديم العرض كما هو أو بعد إضافات مستفيدة من خبرة السنين الماضية، فالعرض يعود بعد (22 عاما) من إخراجه الأول مضافا إليه كلمة «صبايا» للتدليل على أن القضية لا تزال مطروحة ولتبرير الغياب الاضطراري لعدد من بطلاته السابقات اللائي تجاوز سن بعضهن الحدود القصوى لأعمار شخصياته، محققا بهذه العودة المعنى الحقيقي للـ(ريبورتوار) المتمثل في حق المسرح في استعادة أيقوناته المسرحية كل حين ليعرضها على أجيال لم ترها، وليمنح من رأوها في عروضها الأولى فرصة التأمل واكتشاف ما آل إليه المسرح المصري من قفزات سواء كانت للأمام أم إلى الخلف ومن ثم التفكير فيما يجب أن يفعل في كل حالة.
أما ثاني هدفي هذه العودة فهو يخص المبدع نفسه، وهو هنا الفنان انتصار عبد الفتاح الذي عكف منذ سنوات طويلة على مشروع مسرحي خاص أسماه (المسرح البولوفوني) بمعنى التمازج بين الأصوات المتعددة والتشكيلات المتعددة في اللحظة نفسها، مستفيدا من معنى المصطلح الموسيقي مسرحيا. فالعودة، أو بالأحرى مجرد التفكير في العودة، ستمنح للمبدع فرصة تأمل مشروعه السابق متسلحا بخبرة السنين فيضيف إليه أو يحذف منه ليخرج في الأخير بتصور واضح عن ما آل إليه مشروعه الفني وما يحتاج إليه من تعديل أو ترسيخ.
في «صبايا مخدة الكحل» لا معنى إطلاقا لبحثك عن (الدراما) بمعناها التقليدي، فلا حدث ولا شخصيات تطور بتطور ذلك الحدث. إنه فقط رؤية فكرية في واقع وعادات وتقاليد يختلف معها العرض لكنه في الوقت نفسه يستفيد من آلياتها (التراثية) في التعبير عن هذا الاختلاف.
إذا أردت وصفا مريحا للعرض فيمكنك أن تطلق عليه (حالة مسرحية) تعتمد على توافق الصورة مع الصوت وتتكئ على فكرة بسيطة تخص واقع المرأة العربية المكبل بقيود وأساور لا تزال تضغط على رغبتها في الانطلاق. ولذلك سيختار انتصار عبد الفتاح تشكيلا وملابس وإكسسوارات وموتيفات ما يحيلك مباشرة إلى المكان الأكثر تجليا لهذه الأطواق وتلك الأساور، وهو الصعيد الجواني حيث لا يسمح للفتاة إلا بانتظار بزوغ فجر حلمها، بينما لا تفعل هي شيئا إلا بإعداد جسدها لمن يمكن ألا يأتي أبدا.
اختار انتصار عبد الفتاح لعرضه قاعة صلاح عبد الصبور بمسرح الطليعة ليستفيد من صغر مساحتها في إدماج متفرجيه مع حالة بطلاته، بل ويؤكد على هذه الحالة بإجلاس بعض من موسيقييه ومغنييه متجاورين مع متفرجيه ليدخل متفرجه مباشرة ومنذ اللحظة الأولى في سياق الحالة الطقسية للعرض. فالتصاق الأجساد وتقارب الأنفاس يزيدان الإحساس بأن ما تشاهده يخصك تماما، أنت مشارك فيه وشاهد عليه.
القاعة تغرق في سواد يليق بسواد ليالي المرأة وحزن روحها السقيم، سواد لا تكسره إلا موتيفات على الحوائط المحيطة ببطلات العرض ومتفرجيه. في الصدر منها تشكيل نحاسي يحيلك مباشرة إلى ذلك السرير التراثي المعروفة به بيوت المصريين في أزمنة فائتة، بل ولا تزال بعضها تحتفظ به كإرث لا يصح التفريط فيه. السرير ينقسم إلى عدة أسرة متجاورة تجلس على كل منها فتاة تمارس طقس انتظارها وتجهيز نفسها لمن قد يأتي أولا يأتي ليصنعن معا تشكيلا يقترب من معنى آخر وهو السجن.
الفتيات يمارسن طقسهن الأنثوي البسيط، أهم ما فيه هو رسم عيونهن بمكحلات تزيد عيونهن بهاء، لكنهن أيضا يندبن حظهن بإيقاع متوافق ويرددن معا وبتداخلات مع القابعات على أرض القاعة تعويذة لفك نحسهن وطرد غراب الشؤم.
على أرض القاعة أسفل سرير النائحات تجلس امرأة أكبر سنا( قامت بدورها القديرة سميرة عبد العزيز) أمام ماكينة خياطة تقليدية تدير عجلتها اليدوية بإيقاع يتوافق هو الآخر مع إيقاع ندب الفتيات ويتأرجح إسراعا وإبطاء وكأنه يشير إلى أن ما نراه وما سنراه وما عانته وتعانيه الفتيات ما هو إلا لعنة لا فرار منها إلا بالصبر والانتظار. المرأة بحكم سنها وخبرتها وبما تلقيه من حكم ورثتها عن جدات سابقات وتحفظها عن ظهر قلب، تحيلك إلى بينلوبي اليونانية امرأة الانتظار ناسجة ثوبها التي تعرف أنها لن ترتديه أبدا، لتؤكد من زاوية أخرى على معنى اللعنة بمفهومها التراجيدي. وتأكيدا لعقم حلولها ووصاياها ستموت في مكانها أمام ماكينتها قبل أن تتم تطريز ثوبها الأبيض الذي ربما كان لها ولبنات وحفيدات من بعدها. لتتساءل أنت أكان ثوب عرس أم كفنا؟ وقد تكتشف أن لا فارق كبير بينهما.
على أرض القاعة أيضا تقبع أخريات ورجل وحيد، يتحرك حول ذاته رافعا إحدى يديه وضاما الأخرى خلف ظهره في اشارة إلى أنه سيد هذا العالم يديره كيف يشاء بفاشية لا تخطئها العين وتتعلق به عيون المنتظرات النائحات. أماالأخريات القابعات أمامه فيمثلن أجيالا ثلاثة من بينهن فتاة (راقصة باليه) وكأن انتصار عبد الفتاح يقول إن حتى تلك الفتاة (العصرية) لا تزال تحمل بداخلها بعضا من إرث القيد القديم. هي تحاول الانطلاق من أسر ذلك الفاشي لكن قيدها أرسخ وأثقل من قدرتها على الانطلاق والهروب.
التوافق الإيقاعي هو قلب عرض انتصار عبد الفتاح، يزيده جمالا أنه ينبع من آلات بسيطة هي ابنة البيئة التي يحكي عنها مثل الحذاء الخشبي (قبقاب) أو آلة طحن البن أو وعاء الغسيل والاستحمام النحاسي القديم أو خرطوم حين تحركه الفتيات يصدر صوتا أشبه بعواء أرواحهن. كل هذه الأصوات تخرج منفردة ومجتمعة وتتداخل معها حركة الأيادي والأقدام في معزوفة صوتية حركية محسوبة بدقة تجذبك كمتلق لتكون بإحساسك وإيقاعك مشاركا أساسيا فيها لا مجرد شاهد عليها.
«صبايا مخدة الكحل» حالة مسرحية خاصة تستفيد من الطقس ولا تقع في حبائله، تقول دون كلمات – أو بكلمات قليلة – ما تشعر به يثقل روحك وتتمنى أن يتبدل.
عن: مسرحنـا