" أهل المخابئ " لكريم الفحل الشرقاوي.. فانتازيا العوالم السفلية/ بقلم: رشيد أزروال

” أهل المخابئ ” . نص فنتازي ساخر يستحضر تناقضات الراهن العربي و الإنساني و يمتح من سياقات فلسفية مغلفة بلغة الفانتاستيك  مما يشكل إضافة نوعية للمكتبة المسرحية المغربية و العربية ، و من المعلوم أن الكاتب و المخرج المسرحي كريم الفحل الشرقاوي يعتبر أحد رموز المسرح التجريبي بالمغرب حيث حصدت أعماله التجريبية العديد من الجوائز محليا وعربيا .  كما سبق له أن قام بمسرحة اللوحة التشكيلية و المقالة الصحفية و القصيدة الشعرية و المتن الروائي … و قدم عدة أعمال مسرحية جريئة بثلاث معالجات درامية وثلاث رؤى إخراجية . و يكفي أن نذكر بأن عمله المسرحي ” التمثال ” يعتبر العرض الأكثر تتويجا في تاريخ المسرح المغربي بحصوله على ثلاثة عشر جائزة في الموسم الواحد .

الفانتازيا والسخرية السوداء :
غالبا ما يلجأ المبدع المسرحي التجريبي كريم الفحل الشرقاوي في جل أعماله  إلى توظيف لغة الفانتازيا و الفانطاستيك و الغرائبية باعتبارها عوالم صادمة  و مدهشة  و ساحرة  و مخالفة للمألوف، تغذي المنتوج الفني بقوة تخييلية قصوى  تأسر المتلقي  مشاهدا كان أو قارئا، و تقذف به إلى مناخات جذابة تحقق المتعة و اللذة الفنية . وعندما تلتحم الفانتازيا بالسخرية السوداء في عمل فني واحد فإنهما غالبا ما ينجحان في تفجير لغة إبداعية منفلتة عن السائد . وهو الهدف الذي سعى إليه مؤلف ” أهل المخابئ ” من خلال توظيفه للسخرية اللاذعة أو الكوميك الصادم كتقنية مسرحية وأداة درامية تمزج  بين الفواجع المأساوية و المفارقات الكاريكاتورية من أجل إلى إعمال آلية النقد التشريحي للواقع وتعرية أقنعة المجتمع بكل مستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية… ليتم بسطه أمام القارئ في قالب مفارقاتي  كاريكاتوري صاخب .
وهكذا يجد القارئ نفسة منذ الوهلة الأولى مندسا في سراديب ومتاهات عالم مخبئي صادم … عالم  يتكون من مدن مخبئية تحت سطح الأرض . يعيش قاطنوها تحت رحمة قصف دائم . راهنين مصائرهم ب ” مجلس المخابئ السعيدة ” المكلف بالتشريع و التفكير في مصير الشعب المخبئي . ويتكون أعضاء هذا المجلس من شخصيات عجائية  وهم :  السيد ” عجين ” وهو طباخ مختص في خلط العجائن والفطائر . يحلم باكتشاف خلطة عجينية جديدة تنسف  كل المنظومات و النظريات و الفلسفات السائدة التي كانت سببا في إنتاج كل أعطاب الجنس البشري المخبئي . و السيد  ” النصف ” و هو طباخ نصفه السفلي مبتور و رغم ذلك فهو يصر على إنجاب إبنه ” الربع ” محرر أهل المخابئ الموعود و لو بالتلقيح الاصطناعي . و السيد ” ملفوف ” و هو طباخ بدون جلد . جسده مغلف بلفافة ترابية سيرتدي ذات إشراقة صوفية رداء النبوة وسينادى بإلباس البشرية المخبئية جلدا محايدا . و السيدة ” عروس ” وهي طباخة عانس في الأربعينات ترتدي ثوب الزفاف الأبيض و قبعة الطبخ و تنتظر زوجا أسطوريا  لا  تحمل جيناته مورثات مخبئية  ليرتفع بها إلى عنان السماء التي لم ترها من قبل و ” يمسح الكآبة عن وجه الشمس ” كما يقول الكاتب .
المستوى الدلالي :
تتكاثف الدلالات في نص أهل المخابئ وتتقاطع من خلال تعدد المعاني والإيحاءات والرسائل المشفرة والصريحة التي تفجرها المشاهد/ الطبخات، فالكاتب ابتكر هذه التسمية ” الطبخات ” بدل المشاهد  من أجل أدائها لوظيفة دلالية  تنسجم وتتساوق مع شبكة إرساليات الخطاب الدرامي البعيدة عن المباشرة السطحية ، و إنما بالاعتماد على لغة فنية مضمرة يتحقق معها شرط ” المسرحة ” بما هي منجز فني يستنفر المتعة البصرية والذهنية ويحقق الاستجابة الانفعالية للقارئ منذ الطبخة الأولى / المشهد الأول من المتن الدرامي المعنون ب ” اجتماع عاجل و طارئ و استثنائي ” حيث تقفز السخرية المريرة راصدة وقائع اجتماعات كاريكاتورية  تسود فيها لغة الخشب والنقاش البيزنطي في إحالة على البرلمان والأحزاب الكارتونية التي بصمت المشهد السياسي لمجتمعاتنا العربية المنكوبة ب ” ممثليها ” الذين يحترفون إنتاج السخافات والشعارات الفارغة :
عجين : ( يفتح ملفا ضخما ) اجتماع عاجل لمجلس المخابئ السعيدة .
النصف :  أعترض ( رافعا يده ) أقترح صيغة اجتماع طارئ بدل عاجل .
ملفوف : أحتج ( يخبط الطاولة بكفه ) أقترح صيغة اجتماع استثنائي بدل طارئ .
عجين :  ( يرمق النصف وملفوف بحيرة ) إجتماع عاجل وطارئ واستثنائي لمجلس المخابئ السعيدة عدد 123115 ميم و المتعلق بمشروع القانون المالي المعروض على أنظار مجلسنا الموقر .. حيث يتحتم علينا خلال هذا الإجتماع الهام مناقشة بنود هذا المشروع النصف: أعترض .. أقترح  تعويض صيغة مناقشة البنود بصيغة مراجعة البنود .
ملفوف :     وأنا أحتج على صيغة مراجعة البنود وأقترح فقط صيغة مراقبة البنود .
كما أن تجسيد السلطوية العسكرية الشمولية تتجلى كمثال كاريكاتوري في شخصية مندوب اللجنة الثورية المخبئية العليا  . وهو كما وصفه الكاتب ” رجل ضخم كل شيء فيه منتفخ أشبه بكرة ضخمة برأس ورجلين . يرتدي بزة الطبخ  وقبعة عسكرية وحذاء عسكري ويتمنطق بحزام عسكري عريض مطعم بفوهات الرصاص المخترقة بالسكاكين والشوكات والملاعق الذهبية اللامعة “.
و هي صورة كاريكاتوية مفارقة تثير الضحك الحاد لمن يقع بصره عليه حتى بدون كلام أو إيماءة.  فمندوب اللجنة الثورية المخبئية العليا الضخم رمز للطهاة الطغاة الذين يتسلطون على شعوبهم  المغلوبة على أمرها  . نقرأ في الصفحة 22 : ”  باسم اللجنة الثورية المخبئية العليا أتقدم  بالشكر  والإمتنان لكل المواطنين المخبئيين الصامدين ليل نهار أمام  ضربات القصف الجحيمي ..  لهذا قد قررت اللجنة الثورية  المخبئية العليا في الاجتماع الأخير لأعضائها الدائمين خلق جائزة أولمبية مخبئية عليا  لأفضل  مواطن يصمد أطول فترة ممكنة تحت أنقاض مخبأ منهار دون أن يتعفن  ” .
مندوب اللجنة الثورية المخبئية العليا يحيلنا على زعامات عسكرية ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولازالت نسخها المشوهة تلتف حول مصير الشعوب العربية مصادرة أي نهضة ديمقراطية مدنية .   المندوب الثوري أو الجنرال أو العقيد يتلاعب بمفهوم الثورة في ميدان الشرعية موظفا الشعارات الثورية الكالحة  التي إستثمرها الكاتب بلغة تمتح من السخرية اللاسعة . نقرأ في المقطع الحواري التالي من الطبخة الخامسة  :
المندوب : لقد كانت أياما حافلة بالمنجزات الخالدة .. حيث استطعنا أن ندرب الشعب .. كل الشعب على  العمل في الحفر .. والصمود في الحفر .. والاحتفال في الحفر .. والاحتجاج في الحفر .. لهذا وحفاظا على مكتسبات ثورتنا المخبئية المجيدة .. فقد قررت اللجنة الثورية المخبئية العليا وفي إطار سياسة  التقشف  الناجعة .. تمديد فترة العمل في ظل نظام المخابئ قرونا أخرى .
المستوى الفني :
يقدم الكاتب رؤية فلسفية فانطاستيكية تتأسس على ثنائية التحول والامتساخ (من المسخ والمشوه ) والغاية من ذلك تصوير جدلية القهر والمعاناة التي تكاد تكون شرط الحياة البشرية المشتركة خصوصا في المجتمعات الخالية من جوهر العدالة رغم القشور التي تطفو على السطح كمظاهر للتمويه. و من جهة ثانية تشكيل جغرافية قاسية لتاريخ القهر الانساني للمعذبين في الأرض،  إنها القاعدة الشعبية العريضة أو “الأغلبية الصامتة ” التي تكابد الظلم و العبث بمصائرها  تحت الأرض وتحت القصف في رمزية صارخة وضاجة بالصور العبثية .
إن كريم لفحل الشرقاوي كمبدع تجريبي يروض المخيلة الجامحة كفرس تجنح للركض في الحقول والسهول والقفز على الحواجز وتحت الجسور، إنها مخيلة نهمة تبتلع كل شيء أمامها … وهذا حال الإبداع الفني الذي يحرضه الخيال الواسع على مزيد من اقتحام المجهول ، اقتحام عوالم وارتياد آفاق جديدة، إن نص ” أهل المخابئ ” نص تخييلي قوي بمواصفات عالمية إنسانية . قوته التخييلية تشي بها الحوارات التي وأنت تقرأها تلهث لكي تساير كثافتها التخييلية حتى تستطيع هضمها جماليا وتستوعبها دلاليا،  ان تشكيل الشخوص بهيئاتها الغرائبية و تشكيل عالمها السفلي تحت الأرض وتحت القصف، ومجاورة اللباس العسكري ببزات المطبخ ، هذا المزيح بين معدات الطبخ ومعدات القتال الحربي غاية في السخرية، وهذا يؤكد حقيقة فنية مؤداها ” لا سحرية بلا خيال”، الخيال هو من يمنح للسخرية قوة تأثير ، ونجاعتها الوظيفية في البناء المسرحي . متوخية بذلك الكشف عن المضمرات أو الخفايا من النواقص والعيوب المجتمعية   للنفاذ لتناقضات
هي مسرحية أهل المخابئ مختلف الأصعدة، تكتسي طابعا مأساويا مسكون بالآلام والمعاناة الإنسانية، وتتوسل المسرحية بالكوميديا الضاحكة والتهجين  الكاريكاتوري الماسخ أو “الكروستيك”  القائم على الفانطاستيك عبر المزج بين العجائبي والغرائبي ،
 
**رشيد أزروال / باحث و شاعر مغربي 
   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت